نبش جيش الاحتلال الإسرائيلي قرابة 1,100 قبر في مقبرة حي التفاح، حيث قامت الآليات بتجريفها وإخراج جثامين الشهداء منها، وداستها، وامتهنت كرامتها، وسرق قرابة 150 جثماناً من جثامين الشهداء التي دُفنت حديثاً. تستغل «إسرائيل» جثث الشهداء وتنتهكها وتسرق أعضائها وجلودها كجزء من جهود «الإبادة الجماعية المنهجية» التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني. يأتي ذلك مع تشديد سلطات الاحتلال الإسرائيلي الإجراءات الخاصة بتسليم الجثامين، كالتسليم بعد منتصف الليل واشتراط الدفن الفوري لمنع ذوي الشهيد أو السلطات الفلسطينية من تشريحها للتحقيق في قضية سرقة الأعضاء والجلد، وبحضور عدد محدود من الأقارب. وفي ظل الارتكابات الإسرائيلية المستمرة والممنهجة لإبادة الشعب الفلسطيني «الأحياء والأموات» هل ستكون دولة الاحتلال، كالعادة، بمعزل عن المساءلة؟ وهل سترى محكمة العدل الدولية في حيثيات القضية ما يدل على إقدام «إسرائيل» على أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين؟ بل وأكثر من إبادة؟

في 26/12/2023، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة «انتهاك جيش الاحتلال الإسرائيلي لكرامة جثامين 80 شهيداً من شهداء شعبنا الفلسطيني، كان الاحتلال سرقها سابقاً في حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها، وسلّمها مُشوَّهة من معبر كرم أبو سالم للدفن في محافظة رفح».
وأضاف البيان أن «الاحتلال سلم الجثامين المجهولة الهوية ورفض تحديد أسماء الشهداء والأماكن التي سرقها منها، وبعد معاينتها تبين أن ملامح الشهداء مُتغيرة بشكل كبير في إشارة واضحة إلى سرقة الاحتلال لأعضاء حيوية من أجساد هؤلاء الشهداء». وأشار البيان إلى أن «الاحتلال كرّر هذه الجريمة أكثر من مرة في حرب الإبادة الجماعية، وقام سابقاً بنبش قبور في جباليا وسرق جثامين شهداء، إضافة إلى أنه لا يزال يحتجز عشرات من جثامين شهداء قطاع غزة».
وكان قد أعلن مدير عام وزارة الصحة في قطاع غزة الدكتور منير البرش (17/11/2023) أن الاحتلال الإسرائيلي اختطف جثامين شهداء فلسطينيين من مجمع الشفاء الطبي، وأخذها إلى مكان مجهول. وفي 26/11/2023، أفاد أطباء وجرحى في مستشفى الشفاء في مدينة غزة أن الجيش الإسرائيلي اعتدى على الطواقم الطبية واعتقل مرضى وسرق جثثاً أثناء محاصرته للمستشفى. وقال الطبيب معتز حرارة: «أثناء محاصرة الجيش الإسرائيلي مستشفى الشفاء اقتحموا المباني واعتدوا على الطواقم الطبية، وأوقفوا مرضى واصطحبوهم إلى مكان مجهول».
ودعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة في احتجاز جيش الاحتلال الإسرائيلي جثث عشرات الشهداء الفلسطينيين في حربه على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، والاشتباه في سرقة أعضاء منها. وأشار المرصد إلى أنه وثّق احتجاز جثامين الشهداء من مجمع الشفاء الطبي في غزة، والمستشفى الإندونيسي في شمال القطاع، وأخرى من محيط ممر النزوح في شارع صلاح الدين. ولفت إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلية عمدت إلى نبش مقبرة جماعية في إحدى ساحات مجمع الشفاء الطبي واستخرجت جثث الشهداء منها واحتجزتها.
كما أثار المرصد الحقوقي شبهات سرقة أعضاء من الجثامين، بينها ملاحظات أدلى بها أطباء في غزة أجروا فحصاً سريعاً لبعض الجثث بعد الإفراج عنها، ولاحظوا سرقة أعضاء مثل قرنية العين وقوقعة الأذن، وأعضاء حيوية أخرى كالكبد والكلى والقلب.
وبسبب خضوع البعض لعمليات جراحية سابقة، أكّد عاملون صحيون أن الكشف الظاهري ليس كافياً لتأكيد أو استبعاد سرقة الأعضاء. وقال أطباء إن «من المستحيل إجراء فحص تحليلي دقيق لجثث القتلى التي كانت محتجزة لدى الجيش الإسرائيلي تحت الهجمات الجوية والمدفعية المكثفة واستمرار تدفّق الجرحى»، لكنهم رصدوا «علامات عدة تشير إلى احتمال سرقة أعضاء».

الدور الحاسم للفحص الجنائي
وفيما تشكل سرقة الأعضاء تحدياً حقيقياً معقداً، يظل الفحص الجنائي أداة حيوية لتجميع لغز هذه الجريمة وتقديم الجناة إلى العدالة. ويمكن للمباحث العلمية الجنائية تقديم مساعدة كبيرة في التحقيق عبر مجموعة من الأدوات والتقنيات التي تكشف الأدلة وتدل إلى الجناة، كتحليل الحمض النووي، وجمع وتحليل الجسيمات الدقيقة مثل الألياف أو الشعر أو خلايا الجلد التي يتم نقلها أثناء الجريمة لوضع المشتبه بهم المحتملين في مكان الحادث أو ربطهم بالضحية. كما يمكن للتقنيات المتقدمة كتحديد النمط الظاهري للحمض النووي، التنبؤ بالخصائص الفيزيائية للجاني بناءً على حمضه النووي. إلى ذلك، يساعد تحليل عينات الدم أو الأنسجة من الضحية أو المشتبه بهم للكشف عن وجود أدوية أو مواد كيميائية أخرى قد تكون استخدمت أثناء الجريمة، مثل المهدّئات أو التخدير. كما يُساعد تحليل السجلات الطبية من المستشفيات أو العيادات التي شاركت في الجراحة غير القانونية في تقديم أدلة على الإجراء وتحديد الجناة المحتملين. ويمكن للتناقضات والمستندات المزوّرة و«الفواتير» غير المعتادة أن تثير الشكوك لدى المحقّقين.
إلى ذلك، يلعب علم الأمراض الجنائي Forensic Pathology دوراً حاسماً في التحقيق في الإتجار بالأعضاء وإثباته عبر تحليل الأنسجة بدقة، والتعرّف إلى التشوّهات، والتعاون مع المتخصّصين الآخرين:

■ تحليل الأنسجة:
يفحص أطباء الأمراض عيّنات الأنسجة من الأعضاء «المسروقة» للكشف عن التشوّهات أو الندبات أو التقنيات الجراحية التي تُشير إلى الاستخراج غير القانوني. على سبيل المثال، قد تشير الوخزات المتعدّدة أو الشقوق غير المنتظمة إلى عمليات جراحية سرية أجريت في ظروف غير صحية.
■ تقييم حفظ الأعضاء:
غالباً ما يتضمن الإتجار بالأعضاء طرق حفظ غير مناسبة، ما يؤدي إلى تلف الأنسجة ويقلّل من قابلية الزرع. يقيّم أطباء الأمراض صحة العضو ويحددون علامات التحلّل أو تقنيات الحفظ غير الكافية، ما يشير إلى أصول غير قانونية.
■ تحديد العمر وسبب الوفاة:
يعد تحديد عمر المتبرّع وسبب الوفاة أمراً حاسماً للكشف عن التناقضات في الوثائق أو كشف الظروف المشبوهة المحيطة باستخراج العضو. يمكن لتحليل الأنسجة والتقنيات الجنائية المساعدة في تحديد هذه التفاصيل، ما قد يكشف عن أوراق مزوّرة أو عمل إجرامي.
■ مطابقة الأنسجة والمنشأ:
يمكن للتقنيات المتقدّمة مثل التنميط الجيني ومطابقة الأنسجة المساعدة في تعقّب مصدر العضو والتعرّف إلى «المتبرعين» المحتملين. يمكن أن تكشف هذه المعلومات عن التناقضات في السجلات الطبية أو تربط الضحايا بشبكات الإتجار.

توثيق سرقة الأعضاء
في تقرير الصحافي دونالد بوستروم، عام 2001، سُلّط الضوء على سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين والمتاجرة بها من قوات الاحتلال. وجاء في التقرير «الحديث هنا لا يدور فقط حول سرقة الأعضاء، بل أيضاً حول الاحتفاظ الكامل بالجثث. وتصاعدت هذه القضية في السنوات الماضية، من 36 شهيداً محتجزاً في ثلاجات الاحتلال في شباط 2019، إلى 72 شهيداً في شباط 2021، و93 شهيداً في شباط 2022، ليصل إلى 105 شهداء في نيسان 2022. وبلغ عدد الشهداء المعتقلين في المقابر 256 شهيداً».
وتحدثت الدكتورة ميرا فايس، الطبيبة «الإسرائيلية» وخبيرة الأنثروبولوجيا، في كتابها «على جثتهم الميتة – القوة والمعرفة في المعهد الوطني للطب الشرعي» عن مشاهدتها سرقة أعضاء من جثث فلسطينيين في معهد «أبو كبير للطب الشرعي» في تل أبيب، بين عامَي 1996 و2002، حيث كانت تجري بحثاً علمياً. وقالت: «أثناء وجودي في المعهد، شاهدت كيف يأخذون أعضاء من جسد فلسطيني ولا يأخذون أي شيء من الجنود في المقابل». وأضافت: «يأخذون القرنيات والجلد وصمّامات القلب، مع الإشارة إلى أن غير المتخصّصين لن يلاحظوا غياب هذه الأعضاء حيث يضعون شيئاً بلاستيكياً بدلاً من القرنيات ويأخذون الجلد من الخلف، كما يتم استخدام جثث الشهداء المعتقلين في كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية لأغراض بحثية».
وقالت فايس إنه «في الانتفاضة الأولى، سمح الجيش فعلياً للمعهد باستخراج أعضاء من الفلسطينيين بموجب إجراء عسكري يتطلّب تشريح جثة أسير فلسطيني. ورافق إجراء التشريح إزالة الأعضاء، والتي استخدمها بنك الجلد الإسرائيلي الذي أنشئ عام 1985 لعلاج الحروق التي أصيب بها الجنود الإسرائيليون».
وفي عام 2008، نشرت شبكة CNN الأميركية تحقيقاً كشفت فيه أن «إسرائيل» تعتبر «أكبر مركز عالمي للإتجار غير المشروع بالأعضاء». وتحدّث التقرير عن تورط إسرائيل في جريمة قتل الفلسطينيين بهدف سرقة أعضائهم الداخلية، والاستفادة منها بشكل غير قانوني، والمتاجرة بها ضمن شبكة دولية غير قانونية.
وفي 23 تشرين الثاني 2015، بثت القناة الثانية الإسرائيلية، تحقيقاً عن تورّط معهد الطب الشرعي الإسرائيلي في سرقة أعضاء من جثامين شهداء فلسطينيين محتجزين لدى الجيش الإسرائيلي. وتضمّن التقرير شهادات من الرئيس السابق لمعهد الطب الشرعي «الإسرائيلي»، يهودا هيس، أفاد فيها بأن أعضاء وأنسجة وجلوداً انتُزعت من أجساد الشهداء الفلسطينيين من دون علم أو موافقة ذويهم، وأضاف: «أخذنا القرنيات والجلد وصمامات القلب والعظام... كل شيء تقريباً تمّ بشكل غير رسمي إلى حد كبير... ولم يتم طلب الإذن من العائلات». وفي 27 شباط 2016، كشف تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن اعتراف دولة الاحتلال بأنها «فقدت» عشرات من جثث الشهداء الفلسطينيين.

«مقابر الأرقام»

في آب 2022، أفاد تقرير صادر عن المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية «مسارات»، بأن إسرائيل تتّبع ‏سياسة ‏احتجاز الجثامين وسرقة الأعضاء منذ عام 1948، ‏في ما يُعرف بـ«مقابر الأرقام»، وهي مقابر سرية جماعية يتم فيها الدفن بشكل مجهول بأرقام محفورة على لوحات معدنية ملحقة بالجثث أو الرفات.
توجد إحدى المقابر الأربع التي تم الكشف عنها في السنوات الأخيرة، وهي مقبرة «جسر بنات يعقوب»، في منطقة عسكرية وتضم رفات مئات الفلسطينيين واللبنانيين الذين قُتلوا على يد الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1982.
تعمّد قوات الاحتلال الإفراج عن جثث الشهداء وهي متجمّدة بدرجة قد تصل إلى أربعين تحت الصفر، مع اشتراط عدم تشريح الجثث قد يُخفي وراءه سرقة بعض الأعضاء


وضمن سياسة ممنهجة تتيح لها سرقة المزيد من الأعضاء، أو استعمالها لإجراء تجارب ودراسات في كليات الطب الإسرائيلية، بدأت «إسرائيل» منذ عام 2015 احتجاز الجثامين في الثلاجات.
وأشار تقرير لوزارة الإعلام الفلسطينية إلى أن قوات الاحتلال تحتجز 104 جثامين في الثلاجات، و256 في «مقابر الأرقام»، إضافة إلى احتجاز 13 جثماناً منذ مطلع 2022.
وفي هذا السياق ذكر المرصد الأورومتوسطي أنه سبق رصد تعمّد قوات الاحتلال الإفراج عن جثث الشهداء وهي متجمّدة بدرجة قد تصل إلى أربعين تحت الصفر، مع اشتراط عدم تشريح الجثث، ما قد يخفي وراءه سرقة بعض الأعضاء.



نقل أطفال قسراً من قطاع غزة
بتاريخ الأول من كانون الثاني الجاري، أوردت إذاعة جيش العدو الإسرائيلي عن إقدام قائد فرقة في لواء جفعاتي على خطف رضيعة فلسطينية من داخل منزلها في قطاع غزة، بعد استشهاد أفراد عائلتها في غارة إسرائيلية، إذ يبقى مصير الطفلة الرضيعة ومكان وجودها مجهولين بعد مقتل الضابط المذكور في 22 كانون الأول 2023.
وقالت وزارة الخارجية الفلسطينية في بيان: إن «اختطاف الجيش الإسرائيلي رضيعة من قطاع غزة دليل على ارتكاب أبشع الجرائم بحق المدنيين من دون رقابة أو محاسبة».
قد لا تكون هذه الحادثة حالة منفردة، ولا سيما أن قوات الاحتلال تقوم، وبشكل متكرر، باحتجاز ونقل أطفال فلسطينيين من دون معرفة مصيرهم لاحقاً. يُضاف إلى ذلك فقدان العديد من العائلات الفلسطينية اتصالها بأطفالها.
وفي ظل تشتت العائلات بسبب النزوح القسري، ومع وجود أكثر من 7 آلاف مفقود فلسطيني، وبسبب صعوبة رفع الركام وانقطاع الاتصالات والإنترنت في أغلب قطاع غزة، تزداد خطورة جريمة نقل الأطفال قسراً وإخفائهم.


أكبر بنك للجلود البشرية
بنك الجلود هو منشأة طبية تخزن الجلود البشرية لاستعمالها لاحقاً في معالجة الحروق والسرطانات الجلدية. تمتلك دولة الاحتلال أكبر بنك للجلود البشرية في العالم مع احتياطي جلد بشري يعادل 170 متراً مربعاً. جرى تشييد البنك عام 1986، بإشراف من قطاع الطب العسكري التابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي. على مدار السنوات سُجّلت عمليات سرقة جلود من جثث الضحايا الفلسطينيين، وبالتالي يختلف البنك الإسرائيلي عن باقي البنوك حول العالم بأن إمداداته ومخزوناته من الأعضاء الحيوية لا تأتي من متبرّعين طوعيين فقط.