لا تزال قصّة جريمة رنا بعينو مفتوحةً على التأويلات وتضارب الروايات عن حقيقة تسلسل الأحداث التي أودت بحياتها في 27 حزيران 2019. تؤكّد الجهة المدعية أنّ الضحية قُتلت داخل سيارة قبل أن يرميها المتّهم خارجاً لتسقط على ظهرها، بينما يظهر السيناريو المقدّم من الجهة المدّعى عليها أنّ الزوجة هي مَن رمت نفسها من السيارة بعد سجال وصراخ بينها وبين زوجها أثناء توجّههما من منزلهما في بلدة بطلون إلى بحمدون. في 31 تشرين الثاني 2023، أصدرت محكمة التمييز قراراً بإلغاء حكم محكمة الجنايات الصادر ببراءة شربل الهبر من تهمة قتل زوجته، وأعادت القضية إلى محكمة الجنايات لإعادة المحاكمة. يُعدّ قرار محكمة التمييز في القضية نقطة تحوّل مهمة لعدد من الأسباب، منها إبراز قيمة الأدلة الجنائية ودورها الحاسم في ضمان نتائج دقيقة وعادلة في نظام العدالة الجنائية، كما يُظهر كيف تتجاوز هذه الأدلة الادّعاءات الظرفية وشهادات الشهود، وتقدم بيانات ملموسة وموضوعية يمكن أن تؤكد أو تُكذّب الروايات، ما يقلل من احتمالية الأحكام الخطأ

تُبرز قضية رنا بعينو المخاطر المحتملة في الاعتماد الكلي على روايات الشهود أو الأدلّة الظرفية، والتي يمكن أن تكون ذاتية وعرضة للخطأ أو التلاعب. في حين توفّر الأدلة الجنائية أساساً أكثر موضوعية وموثوقية للأحكام القانونية، ما يقلّل من خطر الإدانات أو البراءات الخطأ بناءً على معلومات غير دقيقة أو ناقصة. يعزّز القرار الصادر عن محكمة التمييز أهمية تضمين التحقيقات الجنائية بروتوكولات وتحليلاً جنائياً صارماً، لضمان تحقيق العدالة عبر صنع القرار الدقيق والحيادي.
إلى ذلك، تضع قضية بعينو سابقة قيّمة للقضايا الجنائية المستقبلية عبر إبراز فعالية الأدلة الجنائية في حل القضايا المعقّدة وكشف الحقيقة. وهذا من شأنه أن يدفع إلى زيادة الاعتماد على تقنية العلم الجنائي والخبرة في هذا المجال، ما يؤدي إلى تحقيقات أكثر شمولاً ودقة عبر النظام القضائي. إلى ذلك، قد تُشجّع هذه القضية فرق الدفاع على إعطاء الأولوية لجمع تحليلاتهم الجنائية الخاصة وتقديمها لمواجهة أدلة الادّعاء، ما يؤدي في النهاية إلى عملية قانونية أكثر توازناً ودقة.

ماذا حدث؟
في 27 حزيران 2019، توفيت المفتش الجمركي رنا بعينو، البالغة من العمر 32 عاماً، نتيجة جروح خطيرة في رأسها إثر سقوطها من سيارة زوجها شربل الهبر في منطقة بحمدون في جبل لبنان. ادّعى الهبر في البداية أن زوجته انتحرت بإلقاء نفسها من السيارة، ولكنّ التحقيقات الأولية كشفت أنّ الهبر هو من قتل زوجته.
في 16/12/2019 أصدر قاضي التحقيق السابق في جبل لبنان، الرئيس زياد مكنّا، القرار الظني الرقم 488/2019، اعتبر فيه وخلافاً لرأي النيابة العامة الاستئنافية أنّ المتهم أقدم على قتل زوجته قصداً ما يوجب إدانته سنداً لأحكام المادة 547 ق.ع التي تصل عقوبتها إلى حبسه مدة خمسة وعشرين عاماً.
في 13 تموز 2023، أصدرت محكمة الجنايات في جبل لبنان حكماً ببراءة الهبر من تهمة القتل القصدي، وحكمت عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة التسبّب في الوفاة. وجاء في حيثيّات الحكم أنّ المحكمة لم تجد أدلةً كافيةً لإدانة الهبر بالقتل القصدي، وأنّ أقواله عن وقوع الحادثة نتيجة انتحار زوجته كانت معقولة.
في الحكم الصادر عن محكمة الجنايات، سنداً إلى الوقائع والأدلة والنصوص القانونية، تبيّن أنّ خلافاً نشب بين الزوجين أثناء توجّههما من منزلهما الكائن في بلدة بطلون إلى بحمدون في سيارة الزوج، أدى إلى سجال وصراخ بينهما، وأنّ الزوجة هي مَن عمدت إلى رمي نفسها من باب السيارة على عكس ما ورد في التحقيقات الأولية عن إقدام الزوج على رميها، وقرّرت هيئة محكمة الجنايات إعلان براءة المتّهم من جناية المادة 547/ عقوبات لعدم كفاية الدليل، وتجريمه بجناية المادة 550 التي تنصّ على عقوبة الأشغال الشاقة مدة خمس سنوات على الأقل ضدّ مَن تسبّب من غير قصد القتل بالضرب أو العنف أو الشدة أو بأيّ عمل آخر مقصود، على أن تُحتسب له مدّتا احتجازه وتوقيفه، وإطلاق سراحه فوراً لثبوت انقضاء محكوميّته ما لم يكن موقوفاً لداعٍ آخر، وإلزامه بتسديد مبلغ ستة مليارات ليرة لبنانية نقداً إلى الجهة المدعية، وتضمينه الرسوم والنفقات كافة.



في 31 تشرين الثاني 2023، أصدرت محكمة التمييز قراراً بإلغاء حكم محكمة الجنايات الصادر ببراءة الهبر، وأعادت القضية إلى محكمة الجنايات لإعادة المحاكمة. جاء في طلب النقض المقدّم من النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان أنّ الحكم بالبراءة كان مبنياً على أُسس قانونية غير سليمة، وأنّ المحكمة لم تأخذ في الحسبان جميع الأدلة التي تثبت أن الهبر هو من قتل زوجته. فقد تجاهل الحكم السابق مسألة ضبط السكين الملطّخة بالدماء داخل السيارة، إضافة إلى إهمال التقارير الطبية لجهة تعرّض المغدورة لإصابات بالغة في الجهة اليسرى من جسدها والتي يُستدلّ منها نية المحكوم عليه بإزهاق روح المغدورة. وتضمّن قرار محكمة النقض عدداً من الملاحظات المهمة، منها:
• أكّدت المحكمة أن العلاقة بين الهبر وزوجته كانت متوتّرة، وأنهما كانا على خلاف شديد يوم وقوع الحادثة.
• أشارت إلى أن أقوال الهبر عن وقوع الحادثة كانت غير منطقية ولا تتوافق مع الأدلّة المادية.
• ذكرت أن نقص الأدلة المادية لا يعني بالضرورة البراءة، وأن المحكمة يجب أن تأخذ في الحسبان جميع الأدلة، بما في ذلك الأدلة غير المادية.

«الفورنزكس» في قضية بعينو
من الجدير بالذكر أنه في حين أنّ الأدلة الجنائية لا تقدّر بثمن، من المفترض دائماً تفسيرها وتقييمها مِن متخصّصين مؤهلين داخل سياق أوسع للتحقيق. عليه، إنّ إعادة فتح القضية وإعادة تحليل الأدلة الموجودة من المفترض أن يتّبعا مساراً دقيقاً علمياً لتحديد تسلسل الأحداث التي أودت بحياة الضحية.
في هذه القضية تحديداً، تلعب الفيزياء الجنائية “Forensic Physics” دوراً مهماً في التحقيق، علماً أنها نادراً ما تقدّم أدلةً قاطعةً بمفردها. بالتالي، إنّ تحقيقاً شاملاً يجمع بين الفيزياء الجنائية والكشف الدقيق على مسرح الجريمة والدراسة التفصيلية للدماء والانسيابات الدموية والفحص المفصّل والمتكامل لجثة الضحية ولآثار الجروح الموجودة عليها أمر ضروريّ لكشف حقيقة ما حدث بالفعل ومنع الإدانات الخطأ وتحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم.
بناءً على ذلك، يعتمد تحديد ما إذا كان الجسم الموجود خارج السيارة قد سقط أم أُلقِي بالقوة على تحليل دقيق من مختلف التخصّصات الجنائية، بما في ذلك الفيزياء.
• تحليل موقع الجسم والإصابات:
• الموقع: إذا عُثر على الجسم بعيداً من السيارة، خاصّة بزاوية غير متّسقة مع السقوط المباشر، فقد يشير ذلك إلى الرمي.
• الإصابات: لطبيعة الإصابات وتوزّعها دلالات مهمّة. قد تشير إصابات الارتطام على أجزاء معيّنة من الجسم مثل مؤخرة الرأس أو الجذع إلى الرمي القوي، بينما قد تشير الخدوش والجروح المتّسقة مع التدحرج إلى السقوط.
• إعادة بناء تسلسل الأحداث:
• تحليل بقع الدم: يمكن أن تكشف أنماط بقع الدم داخل السيارة والمنطقة المحيطة عن تسلسل الأحداث التي أنتجت إراقة الدماء. ما هو مصدر الدماء وما هو اتجاهه؟ كيف انسابت الدماء على جسد الضحية؟ ما هو نمط الدماء الموجود على المقعد؟ وعلى يدي المشتبه به؟
• تحليل الحطام: يمكن أن يوفر الحطام المنتشر حول مسرح الجريمة، مثل الزجاج المكسور أو أجزاء السيارة، أدلة حول حركة السيارة ومسار رمي الجسم أو سقوطه.
• حساب قوى التصادم:
• تحليل السقوط: عبر أخذ ارتفاع السقوط ووزن الجسم وسطح الهبوط في الحسبان، يمكن للفيزيائيين الجنائيين تقدير القوى المتضمنة في السقوط المحتمل ومقارنتها بالإصابات الملاحظة. تساعد هذه المقارنة في تحديد ما إذا كانت الإصابات متسقة مع ارتفاع السقوط وآليّته.
• تحليل الرمي: إذا كان يُشتبه في الرمي، يمكن للفيزيائيين تقدير القوة اللازمة لطرد الجسم من السيارة بسرعة وزاوية معيّنتَين. يمكن مقارنة ذلك بإمكانات السيارة والقوة المحتملة للرمي للمشتبه به.
• الكشف الدقيق على الجثة ونوع الجروح عليها:
• الوضع العام للجثة: هل توجد أي علامات على وجود مقاومة أو دفاع مِن الضحية؟ الملابس مرتبة أو ممزقة أو بها أيّ علامات تدل على وجود صراع؟
عبر أخذ ارتفاع السقوط ووزن الجسم وسطح الهبوط في الحسبان يمكن تقدير القوى المتضمنة في السقوط المحتمل ومقارنتها بالإصابات


• موقع الإصابات ونمطها: الإصابات الناجمة عن الرمي من سيارة متحركة قد تتركز في مناطق معينة مثل الرأس والرقبة والصدر، بسبب الاصطدام بالأرض أو الأشياء عند الهبوط. أما السقوط من وضع ثابت، فقد يظهر إصابات موزعة بشكل أكثر توازناً.
• طبيعة الإصابات: أنواع معينة من الكسور والتمزقات والكدمات يمكن أن تشير إلى قوة الارتطام واتجاهه. على سبيل المثال، قد تشير الكسور الشديدة في الأطراف إلى سقوط عالي السرعة أو رمي قوي.
• الإصابات الداخلية: يمكن أن يحدث تلف للأعضاء الداخلية مثل الكبد أو الطحال بسبب التباطؤ المفاجئ أو الصدمة الحادة، وهو ما قد يكون أكثر احتمالاً في الرمي العالي السرعة من السقوط البسيط.
• نوع الجروح على الجثة: طعنية، رضحية، أم قطعية؟ وما هو اتّجاهها؟
• تقرير التشريح: يتعمّق هذا المستند التفصيلي الذي كتبه أخصائي الأمراض الشرعية في طبيعة الإصابات ومداها. عبر تحليل هذه الإصابات، يمكن للخبراء مقارنتها بالآثار الناتجة من السقوط أو الرمي بناءً على مبادئ علم الحركة الحيوية والفيزياء.

الفيزياء الجنائية
تلعب الفيزياء الجنائية دوراً أساسياً في حالات سقوط الشخص من السيارة بعد دفعه، حيث تعمل على إعادة بناء الحادثة وتحليل الإصابات الناجمة عنها. ويركز التحقيق بشكل أساسي على سرعة السيارة واتجاهها. بناءً على آثار الانزلاق وآثار الإطارات والبقايا المتناثرة، يستطيع الخبراء تقدير سرعة السيارة واتجاهها عند دفع الجسم. يساعد هذا على تحديد ما إذا كانت السيارة تتحرك أم كانت متوقفة، وزاوية رمي الجسم.

هلي يوجد ترشيش دموي داخل السيارة إلى ناحية الباب؟


كما يحدد التحقيق الفيزيائي الدقيق مسار الجسم وارتطامه عبر تطبيق قوانين الحركة، إذ يمكن للخبراء الفيزيائيين الجنائيين حساب مسار الجسم بعد دفعه، مع الأخذ في الحسبان عوامل مثل مقاومة الهواء واحتكاك الأرض. يساعد هذا على تحديد موقع الهبوط وقوة الارتطام، ما يقدّم أدلةً عن اتجاه الدفع وشدة القوة. إلى ذلك، عبر فحص طبيعة الإصابات وموقعها على الجسم، يستطيع الفيزيائيون استنتاج نقطة الارتطام واتجاه القوة. على سبيل المثال، قد تشير كسور عظام معينة إلى أنّ الجسم سقط على ظهره أو تعرّض لضربة من جسم معين.
بجمع هذه الجوانب، ترسم الفيزياء الجنائية صورة للحادثة، وتميّز بين الدفع أثناء التوقف أو الحركة، والوقوع العرضي، والتلاعب المحتمل، فيصبح السيناريو الذي أعيد بناؤه دليلاً مهماً في تحديد سبب الوفاة والمسؤولية المحتملة.



بعض ثغرات التحقيق
من المهم التأكيد على أن قرار محمكة التمييز الصادر في قضية رنا بعينو هو نقطة تحوّل لجهة استخدام الأدلة العلمية الجنائية في القضاء اللبناني، بغض النظر عن النتيجة التي سيتوصل لها الخبراء بتطبيق العلم الجنائي، التي قد تؤكد أو تنفي الحقيقة التي جرى التوصل إليها في الحكم الصادر عن محكمة الجنايات. بمعنى آخر، إن تطبيق العلم الجنائي واستخدام الأدلة المادية وعلاقتها المتبادلة سيؤدي حمكاً إلى كشف الحقيقة، وتحديد تسلسل الأحداث التي أحاطت بالقضية، ويمنع الإدانات الخاطئة وكذلك الإفلات من العقاب.
هل الدم موجود على شكل لطخات أم بقع؟


من خلال مراجعة الحكم الصادر عن محكمة الجنايات في هذه القضية، يتضح أن الاعتماد المكثف على إفادات الشهود والمشتبه به أدى إلى كثير من التناقضات وضلل التحقيق، فيما تم إهمال أدلة جنائية حيوية قادرة على كشف الحقيقة وتحديد تسلسل الأحداث بشكل دقيق، أهمها الكشف الدقيق على السيارة ودراسة أنماط الدماء داخلها، هل يوجد ترشيش دموي داخل السيارة إلى ناحية الباب؟ أو على المسكة؟ هل الدم موجود على شكل لطخات أم بقع؟ هل هناك دليل على نزف الضحية داخل السيارة؟ أو عند السقوط منها؟
من الأدلة التي أهملت أيضاً كان دراسة نوع ونمط الدماء الموجود على السكين الذي تم العثور عليه داخل السيارة، كذلك الدماء على الأرض حيث تم العثور على الضحية. كما تم اهمال دراسة ملابس الضحية لناحية وجود أوساخ أو تمزقات ناتجة عن الطريق. من خلال التحليل العلمي الدقيق لتلك الأدلة المادية وغيرها، إن العلم الجنائي قادرعلى كشف حقيقة ما حدث مع رنا بعينو.