مع كل قذيفة تُطلق، يُرسم مشهدٌ مُفجعٌ على مسرح قطاع غزة. مشهدٌ يُجبرُ الأحياء على دفن موتاهم في مقابر جماعية، تُخفي أسماءهم وتُخفي معها حكاياتهم. فوجوه الضحايا، بعد ساعاتٍ طويلةٍ خارج ثلاجات الموتى، تُصبحُ مُشوّهةً، علاماتُ التحلّلِ تُغطيها، وتُخفي معها هويتهم. وفي القطاع، حيث تُصبح الحياة لعبةً قاتلة، وتُصبح عملية التعرف إلى جثث الأطفال مهمةً شبه مستحيلة، تلجأ الأمهات إلى كتابة أسماء أطفالهن على أيديهم وأرجلهم كوسيلة أخيرة للتعرف إلى أشلائهم في حال استشهدوا. الصمت في مواجهة الظلم تواطؤ. يعتبر التحقيق في الجرائم التي يرتكبها العدو الإسرائيلي التزاماً أخلاقياً وضماناً ضرورياً لضمان تحقيق العدالة. كل جريمة ترتكبها قوات الاحتلال تستحق التوثيق والتحقيق، ليس فقط لأسباب عملية، ولكن أيضاً كمبدأ أساسي للمساءلة والمحاسبة وردع جرائم المستقبل، ولبعث رسالة مفادها أن مثل هذه الانتهاكات لن يتم التسامح فيها

تُدفن مئات الجثث المجهولة الهوية في مقابر جماعية تم استحداثها في مناطق متفرقة من القطاع بعد تكدسها لأيام في ساحات مستشفيات ومراكز إيواء. يتكرر هذا المشهد المأساوي مع استمرار القصف، ما يضطر كثيرين إلى دفن الشهداء في مقابر جماعية من دون شواهد تحمل أسماءهم.
ويعود ذلك إلى التشوه الشديد وعلامات التحلل التي تصيب وجوه الضحايا بعد بقائهم لساعات طويلة خارج ثلاجات حفظ الموتى التي فاضت بالجثث. وفي بعض الحالات المأساوية، تُفنى عائلات بأكملها، ولا يبقى أحد لتقديم معلومات التعريف الأساسية، ما يؤدي إلى تعقيدات إضافية في عملية تحديد الهوية.


في هذا السياق، أعلن رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان توثيق إنشاء أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية في محافظات قطاع غزة لدفن شهداء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر الماضي. وقال «لجأ الناس في قطاع غزة إلى إنشاء مقابر جماعية عشوائية في الأحياء السكنية وأفنية المنازل والطرقات وصالات الأفراح والملاعب الرياضية، في ظل صعوبة الوصول إلى المقابر الرئيسية والمنتظمة».
هناك عدة أسباب تجعل عملية التعرف إلى هوية ضحايا الحروب واجباً قانونياً وأخلاقياً، أهمها توثيق جرائم الحرب، إذ يمكن أن يساعد تحديد الهوية في توثيق جرائم الحرب ومحاسبة مرتكبيها، وهذا أمر حيوي لتحقيق العدالة. كما يمكن أن يوفر التعرف إلى هوية الضحايا أدلة حيوية للإجراءات القانونية المتعلقة بالتحقيقات الجنائية والملاحقات القضائية. إلى ذلك، يساعد تحديد هويات أصحاب الجثث في توضيح مصير الأفراد المفقودين، ما يوفر معلومات مهمة للعائلات والسلطات، ويوفّر إحصاء دقيقاً للشهداء. من جهة أخرى، يمكن أن تشكّل الجثث المجهولة الهوية خطراً صحياً إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح، فيساعد التعرف إليها ودفنها بطريقة ملائمة على منع انتشار الأمراض.
تضاف إلى ذلك الأسباب المتعلقة بالممارسات الدينية والثقافية والإنسانية. إذ يساعد التعرف إلى هوية المتوفين العائلات على الحزن بشكل صحيح وبدء عملية التعافي، لأن معرفة مكان دفن أحبائهم وإمكانية زيارة قبورهم يوفر راحة نفسية كبيرة وإغلاقاً لمرحلة الحزن.
ورغم التحديات التي يمكن أن تجعل عملية التعرف إلى جثث الشهداء صعبة - كتحلل الجثث والموارد المحدودة وضيق الوقت، وأهم من ذلك تعمّد قوات الاحتلال إخفاء الأدلة أو التلاعب بها لتغطية أفعالها - تلعب المباحث العلمية دوراً رئيسياً في الكشف عن هوية الأفراد الذين قتلوا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
بعض التقنيات الجنائية التي تساعد في التعرف إلى الجثث المتحللة:
• الأنثروبولوجيا الفيزيائية:
عبر فحص بنية العظام والأسنان والقامة، يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا الجنائية تقدير العمر والجنس والأصل بناءً على بقايا العظام، الأمر الذي يساعد أيضاً في تضييق نطاق البحث عن الأفراد المفقودين الذين لديهم خصائص مماثلة. كما يمكن أن يكشف فحص الإصابات على العظام عن سبب الوفاة وطريقتها، ما يؤدي إلى ربط الضحية بأحداث أو أسلحة محددة استخدمت في العدوان.
• تحليل الحمض النووي:
يمكن مقارنة الحمض النووي المستخرج من الرفات بقواعد بيانات الأشخاص المفقودين أو عينات الأقارب. هذه طريقة دقيقة جداً، خصوصاً بالنسبة إلى مطابقات الأشخاص المقربين. كما يمكن استخدام فحص الحمض النووي للميتوكوندريا (mtDNA)، في حال تدهور الحمض النووي، الذي ينتقل عبر السلالة الأمومية، للتعرف إلى الهوية، ما يوفر أدلة قيمة حول النسب.
• سجلات الأسنان:
يمكن مقارنة سجلات الأسنان من الفحوصات السابقة للموت (قبل الوفاة) بخصائص الأسنان بعد الوفاة مثل الحشوات والخلع وبنى الأسنان الفريدة للتعرف إلى الهوية.
• بصمات الأصابع وعلامات التعريف الأخرى:
قواعد بيانات بصمات الأصابع: إذا كانت متاحة، يمكن مقارنة بصمات الأصابع من الرفات المجهولة بقواعد بيانات العسكريين أو المدنيين لتحديد الهوية.
الندوب والوشوم والعلامات الأخرى: يمكن أن تساعد الندوب المميزة والوشوم والعلامات الجسدية الفريدة الأخرى الموثقة قبل الوفاة في عملية التعرف، خاصة عند استخدامها بالتزامن مع طرق أخرى.
إعادة بناء الوجه: في بعض الحالات، يمكن للخبراء الجنائيين إنشاء عمليات إعادة بناء للوجه بناءً على مورفولوجيا الجمجمة، ما يساعد في جهود التعرف البصري.

كشف طريقة قتل المدنيين
في 31 كانون الثاني 2024، كشف نادي الأسير الفلسطيني، أنّ الاحتلال الإسرائيلي ارتكب جريمة إعدام ميدانية بحق 30 معتقلاً من بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، بعد العثور على جثامينهم مؤخراً داخل إحدى المدارس التي كان يحاصرها، وهم مكبلو الأيدي ومعصوبو الأعين. وأضاف نادي الأسير أنّ المعطيات بشأن تعرض معتقلين من غزة لعمليات إعدام، تتصاعد في ضوء استمرار الإبادة الجماعية في غزة، إلى جانب استمرار جريمة الإخفاء القسري بحقّ معتقلي غزة، إضافة إلى تصاعد شهادات المعتقلين الذين أُفرج عنهم، على مدار المدة الماضية، حول عمليات التّعذيب والتّنكيل والإذلال، بما فيهم شهادات لنساء وأطفال. وكانت قوات الاحتلال خلال اجتياحها البري لغزة، قد نشرت عدة مرات صوراً ومشاهد مروعة، حول عمليات اعتقال المئات وهم عراة، ومحتجزون في ظروف حاطة بالكرامة الإنسانية، والتي تشكّل مؤشراً إضافياً لما هو أخطر وأكبر على صعيد مستوى الجرائم التي تنفّذ بحقّهم.
علماً أن تحديد سبب وفاة المدنيين في مناطق الحرب مهمة صعبة ولكنها حاسمة، والمباحث العلمية تلعب دوراً رئيسياً في هذه العملية، عبر:
1. الفحص الجسدي:
• تحليل الصدمات: يمكن أن يكشف فحص الإصابات على الجسم، بما في ذلك جروح الدخول والخروج، عن نوع السلاح المستخدم (سلاح ناري، شظايا، إلخ) واتجاه الهجوم. وهذا يساعد في إعادة بناء الأحداث التي أدت إلى الوفاة.
• التشريح: يمكن أن يكشف تحليل الأعضاء الداخلية عن علامات لضربات قوية، وتسمم، وخنق، أو أسباب أخرى للوفاة.
• تحليل الحمض النووي: في بعض الحالات، يمكن لتحليل الحمض النووي تحديد آثار المتفجرات أو السموم على الجسم، ما يدعم أدلة على أسباب معينة للوفاة.
2. تحقيق مسرح الجريمة:
• تحليل المقذوفات: يمكن أن يربط فحص أغلفة الرصاص وشظايا القذائف وغيرها من البقايا الوفاة بأسلحة معينة وربما يساعد في تحديد الجاني.
• جمع أدلة الأثر: يمكن أن يوفر تحليل الألياف وعينات التربة والمواد الأخرى الموجودة على الجسم أو في مكان الحادث أدلةً حول مكان وجود الضحية قبل الوفاة والجناة المحتملين.
• تحليل البيئة: يمكن أن يشير وجود عوامل كيميائية أو بيولوجية إلى أسباب محتملة للوفاة مثل الهجمات الكيميائية أو الحرب البيولوجية.

مصير المفقودين والمخطوفين
في 4 شباط، قال الهلال الأحمر الفلسطيني «مصير زملائنا الذين خرجوا لإنقاذ الطفلة هند في غزة لا يزال مجهولاً منذ 7 أيام». وكانت الطفلة هند رجب، البالغة من العمر 6 سنوات، قد اختفت مع طاقم إسعاف تابع للهلال الأحمر الفلسطيني في 28 كانون الثاني 2024 خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، بعد أن حاصرتها دبابات الاحتلال الإسرائيلي قرب محطة للمحروقات في مدينة غزة. تبحث طواقم الإنقاذ عن هند وفريق الإسعاف منذ ذلك الحين، ولكن مصيرهم لا يزال مجهولاً.
يبقى مصير هذه الطفلة مجهولاً، كذلك مصير الرضيعة الفلسطينية التي خُطفت من داخل منزلها في قطاع غزة، بعد استشهاد أفراد عائلتها في غارة إسرائيلية. وقد لا تكون هاتان الحالتان منفردتين، ولا سيما أنّ قوات الاحتلال تقوم، وبشكل متكرر، باحتجاز أطفال فلسطينيين ونقلهم من دون معرفة مصيرهم لاحقاً. يُضاف إلى ذلك فقدان عدد من العائلات الفلسطينية اتصالها بأطفالها. هذا وتتفاقم مخاطر جريمة نقل الأطفال قسراً وإخفائهم في ظل تشتت العائلات بسبب النزوح القسري، ومع وجود أكثر من 7 آلاف مفقود فلسطيني.
إن العثور على المفقودين، رغم كونه مهمة معقدة ومرهقة في كثير من الأحيان، له أهمية قصوى للأفراد والعائلات والمجتمعات والسعي إلى تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب. يمكن أن يسهم التحقيق في هذه الجرائم في تحديد مكان الضحايا وجمع الأدلة في التحقيقات وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، ومحاسبة الجناة وردع الانتهاكات المستقبلية.
تسهم التحقيقات الجنائية في إنشاء سجلّ دائم للتعذيب، ما يسهم في التوثيق ومحاسبة الجناة حتى بعد سنوات من ارتكاب الجريمة


يقدّم علم الأدلة الجنائية أدوات مهمة لكشف حقيقة الممارسة الوحشية للاختفاء القسري، والسعي إلى تحقيق العدالة. يستطيع الخبراء الجنائيون استخدام صور الأقمار الصناعية وغيرها من تقنيات الجغرافيا المكانية لتحديد مواقع دفن محتملة أو أماكن قد يُحتجز فيها الضحايا. كما يمكن للفرق الجنائية تحديد المقابر عبر استخدام الاستشعار من بعد والمسوحات الأرضية وتقنيات الحفر لتحديد المقابر الجماعية أو أماكن الدفن المخفية. كما يفحص الخبراء بقايا الجثث لتحديد العمر والجنس والعرق والسبب المحتمل للوفاة، ما يساعد في تحديد هوية الضحية. إلى ذلك، يفحص المحققون بدقة مواقع الاختطاف المحتملة بحثاً عن أدلة «أثر» مثل بقايا الملابس والمقتنيات الشخصية أو آثار الحمض النووي.

التحقيق في جرائم التعذيب
تمارس دولة الاحتلال اعتداءات وحشية ضد المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيّين وتعتدي على كرامتهم وتتعمد إلحاق الألم والمعاناة الشديدة بهم على نحو يصل إلى حدّ ارتكابها لجريمة التعذيب و/أو المعاملة اللاإنسانية. هذه الانتهاكات تأتي في سياق جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها «إسرائيل» في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي. في هذا السياق، أشار المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى أنه تلقّى شهادات جديدة عن تعرّض معتقلين فلسطينيين من قطاع غزة - بمن فيهم نساء وأطفال - لعمليات تعذيب قاسية ومعاملة حاطة بالكرامة الإنسانية ويمارس عليهم الإذلال المتعمّد، بما في ذلك التعرية والتحرش الجنسي أو التهديد به. وأفاد المرصد الحقوقي أن أخطر ما تلقاه من شهادات هو تعرض معتقلات لتحرش جنسي مباشر من قبل جنود الاحتلال، بما في ذلك وضع أيديهم على أماكن خاصة، وإجبارهن على التعري وخلع الحجاب. وأضاف المرصد أنه، في إطار عملية التعذيب والابتزاز لإجبارهم على الإدلاء بمعلومات عن آخرين، وجّه جنود الاحتلال تهديدات بالاغتصاب وهتك العرض لمعتقلات ومعتقلين وذويهم.
تسهم التحقيقات الجنائية في إنشاء سجلّ دائم للتعذيب، ما يسهم في التوثيق ومحاسبة الجناة حتى بعد سنوات من ارتكاب الجريمة. عليه من المفترض إجراء تحقيق فوري في ظروف وفاة جميع المعتقلين الذين قضوا في السجون الإسرائيلية منذ بدء إسرائيل حربها على قطاع غزة، واتخاذ الخطوات المناسبة لمحاسبة المسؤولين وإنصاف الضحايا.

يعيد الخبراء الجنائيون بناء وجه الضحية بناءً على مورفولوجيا الجمجمة، ما يساعد في جهود التعرف البصري


يلعب علم الأدلة الجنائية دوراً رئيسياً في التحقيق في جرائم التعذيب، ويعمل كأداة قوية لكشف الأدلة، والسعي إلى الكشف عن الحقيقة، وتحقيق العدالة:
تحليل الصدمات: يمكن للأطباء الشرعيين وعلماء الأنثروبولوجيا فحص الإصابات وبقايا الجثث بحثاً عن علامات التعذيب، مثل الكسور وآثار ربط الجثث والجروح الدفاعية. يمكن أن يساعد تحليل طبيعة هذه الإصابات وموقعها في فهم الأساليب المستخدمة وإمكانية ربطها بجناة معيّنين.
أدلة الأثر: يمكن تحليل الشعر والألياف والبصمات والأدلة الأخرى التي يتم جمعها من الضحية وموقع الجريمة والمشتبه بهم المحتملين لإقامة روابط وتأكيد شهادات الشهود.
السموميات: يمكن أن يشير اختبار العقاقير أو السموم في جسم الضحية إلى التخدير القسري، وطرق التعذيب الكيميائية المحتملة، أو يساعد في تحديد سبب الوفاة.
من جهة أخرى، يمكن لعلماء النفس والأطباء النفسيين تقييم الضحايا من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وغيره من الآثار النفسية للتعذيب، ما يوفر دليلاً قوياً على حدوث الجريمة وتأثيرها.