تونس | أول من أمس، توقّف قلب الممثلة المسرحية والراقصة والكوريغراف رجاء بن عمار (1953 -2017) أثناء عملية جراحية كانت تؤجلها منذ حوالى 15 عاماً، وشيّعت أمس إلى مقبرة سيدي الجبالي في أريانة (شمال غرب تونس)... كأنّ سيّدة الخشبة التونسية كانت تدرك أنّ تلك العملية ستضع نقطة النهاية لرحلة متعبة وجميلة بدأت قبل 64 عاماً في مدينة تونس. رحيل رجاء بن عمّار كان صدمة لمحبّيها وللأسرة الثقافية بشكل عام. هي لم تكن مجرّد ممثلة أسرت جمهورها بجمالها فقط، بل إنّها تميّزت أيضاً بحضورها على الركح وقدرتها على صنع الحدث الثقافي. لم توقف يوماً حروبها ومعاركها مع البيروقراطية والاستبداد والظلاميين. ولم تتوان يوماً عن الدفاع عن المسرح والفن والجمال. بدأت رحلة رجاء بن عمّار ككل أبناء جيلها في ذلك الزمن الجميل من المسرح المدرسي والجامعي عندما كانت طالبة في «دار المعلمين العليا» (قسم اللغة والآداب الفرنسية) بالتوازي مع دراسة اللغة الألمانية في «معهد غوته» في تونس. وهذا ما أهّلها لاحقاً للالتحاق ببعض الدورات وورشات العمل والإقامات الفنية في ألمانيا، وخصوصاً في مدينة ميونيخ عاصمة مقاطعة بافاريا التي أقامت فيها عام ١٩٩١ لمدة ستة أشهر.

منذ مطلع السبعينيات، سافرت رجاء بن عمّار الى ألمانيا مع رفيق دربها المنصف الصايم. وعندما عادت، اتّجهت الى الكاف قبلة المسرحيين آنذاك. كانت «فرقة الكاف» التي أنشأها الراحل المنصف السويسي، عتبتها الأولى صوب مسرح أكثر التزاماً بقضايا الناس والمجتمع. شاركت في «عطشان يا صبايا» الذي افتتح «مهرجان الحمامات الدولي»، قبل أن تلتحق بمجموعة «المسرح الجديد» التي أسسها للتو الثنائي جليلة بكار والفاضل الجعايبي، لتكون أول فرقة تونسية مستقلة. شاركت في مسرحية «التحقيق» وفي فيلم «العرس» للمجموعة نفسها. بعد التجربة القصيرة مع «المسرح الجديد»، أسّست مع المنصف الصايم وتوفيق الجبالي ورؤوف بن عمر «مسرح فو» سنة ١٩٨٠ حيث قدّمت فيه حوالى ثلاثين عملاً مسرحياً؛ من بينها «الأمل» (1986)، و«ساكن في حي السيدة» (1989)، و«بياع الهوى» (1995)، و«فاوست»، و«وراء السكة»، و«الباب إلى الجحيم»، و«هوى وطن»... لكن هاجس رجاء بن عمّار كان دائماً الحصول على فضاء يكون مختبراً لعملها الفني، هي المسكونة بالتجريب. هكذا، تمكّنت من تحويل قاعة سينما «مدار» في ضاحية قرطاج، الى فضاء مسرحي في مطلع التسعينيات. من أجل المحافظة على هذا الفضاء، انخرطت في حرب ما زالت متواصلة مع بلدية قرطاج التي تملك العقار، وحاولت أكثر من مرّة طرد رجاء بن عمّار ومجموعتها منه. إلا أنّ شجاعة رجاء وإصرارها وقدرتها على حشد الفنانين ومحبي المسرح للدفاع عن مشروعها، حالت دون افتكاك الفضاء منها، سواء قبل «14 يناير» أو بعدها.
لم تتوقّف عن العمل حتى في الفترة التي غادرت فيها «مدار» قرطاج أثناء ترميمه وعملت في إطار الفضاء الاجتماعي. من بين المشاريع التي أنجزتها في تلك المرحلة مسرحية «وراء السكة». في هذا العمل، جمعت حوالى عشرين شاباً كانوا يرابطون طوال الوقت في محطة القطار من دون عمل ولا أحلام، لتنجز معهم مسرحية حقّقت نجاحاً باهراً، واعتبرت درساً في الإدماج الثقافي والاجتماعي.
رجاء بن عمّار كانت استثناء. شكّلت مع جليلة بكار جناحي التجديد والتجريب في المسرح التونسي، لكن التجربة التي ميّزت بن عمار هي الرقص المسرحي، فهي بمثابة المؤسس للرقص المسرحي في تونس، وأغلب الكوريغرافيين اليوم كانوا تلاميذها في الدورات والورشات التدريبية التي نظّمتها باستمرار في فضاء «مدار». كما أسّست «ملتقى الرقص المعاصر» الذي عانت كثيراً في تنظيمه بسبب قلة الدعم المالي من وزارة الثقافة.
الجسد كان هو محور العمل التجريبي لرجاء بن عمار. خلال مسيرتها الحافلة بالأعمال المسرحية، حازت عدداً من الجوائز والتتويجات؛ منها جائزة أفضل ممثلة في «أيام قرطاج المسرحية» في دورات ١٩٨٧-١٩٨٩-١٩٩٥، إلى جانب تتويجات خارج بلدها، من بينها جائزتا العمل الأوّل وأفضل ممثلة في «مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي» سنة ١٩٨٩.
رجاء بن عمّار قامة مسرحية غادرت الرّكح بعد « نافذة على ...» (إنتاج المسرح الوطني) آخر عمل قدّمته في افتتاح «مهرجان الحمامات الدولي» في الصيف الماضي. رحلت في زمن تحتاج إليها الحركة الثقافية والمسرحية في تونس، وهي تواجه محنة الظلاميين. هؤلاء الذين واجهتهم رجاء بصوت عال في الفن والإعلام، ولم تكن تهدأ ولا تصمت على مشروعهم القروسطي الذي يعدّونه لتونس.