يعمل الشاعر أسعد الجبوري منذ سنوات على مشروع أدبي ضخم، اختار له اسم «بريد السماء الافتراضي» يحاور من خلاله شعراء راحلين، من مختلف أنحاء العالم، بناء على خطة سريالية مفتوحة في استدعاء الأمكنة والمواقف والذكريات التي تخضّ هؤلاء الشعراء، انطلاقاً من نصوصهم، وهو بذلك يبتكر سيرة ذاتية موازية للنصّ في غياب صاحبه، من دون أن يخرج عن بوصلة جهاته الأصلية، أو كما يقول لـ«الأخبار»، موضحاً خطته: «سبب اختراعي لهذا البريد يتعلق بفكرة إعادة الشعراء الموتى للحياة كي يتعرف القراء الجدد على التطورات التي طرأت على كل شاعر بعد الموت». وينفي خطورة تحميل شخصية ما بما لم تنطق به فعلياً بقوله «لم أحمّل الشخصيات القديمة، ما لم يحدث، بل حاورت شعراء جدداً في الكتابة والذاكرة والأمكنة، وفقاً لمعطيات آداب الموت وما بعد الموت. أما عن الإضافات، فقد جاءت عبر الكشف عن بواطن بعض الأسرار التي لم يكشف عنها الشعراء عاطفياً ومهنياً، وكذلك تعرية للنصوص ومحاولات لسبر أعماق الحياة الأرضية والسماوية على حد سواء». هذا البريد إذاً، أقرب ما يكون إلى «محاكمات أو قراءات ميلودراماتيكة لرموز الشعر العالمي مع بعض الأفكار التي تعيدهم إلى الحياة كفرصة إضافية للعيش على الأرض».يتألف هذا المشروع من أربعة أجزاء، وقد صدر أخيراً، الجزآن الأول والثاني بعنوانين فرعيين مختلفين «حوارات مع شعراء نائمين في غُرف الغيب» (الهيئة العامة السورية للكتاب)، و«شعراء برائحة الكآبة والجنس والانتحار» (دار ميم- الجزائر). كأن هذا الشاعر العراقي يستكمل من منفاه في الدنمارك، خطط المعرّي ودانتي في محاكمة الشعراء، لكن من مطرحٍ آخر، إذ يقتحم طمأنينة الشعراء الموتى ويوقد حطب المخيّلة في مواقدهم، و«ضخ الدماء بجثثهم، لينبعثوا على الأرض مرّة جديدة، ولكن بعد كشف عام لحسابات كل شاعر». وكان من أبرز من حاورهم: المعرّي، والمتنبّي، وعمر الخيّام، وسيلفيا بلاث، وآنّا أخماتوفا، وفرناندو بيسوا، وفروغ فرخزاد، وإيف بونفوا، ومحمود درويش، وبدر شاكر السيّاب، وسركون بولص، وسعيد عقل، وأنسي الحاج، ونادية تويني، ومحمد الماغوط، وجلال الدين الرومي، وسان جون بيرس، وخليل حاوي، في 13864 سؤالاً وجواباً. ويشير عقل العويط في مقدمته للكتاب الثاني إلى أن أسعد الجبوري «يمعن في حواراته الشعرية الافتراضية، الكونية النطاق، مع شعراء كبار، معلومين ومجهولين، إمعاناً معرفياً وثقافياً وحدسياً، مطواعاً، ينمّ عن اطلاعٍ موسوعي دقيق، وعن تمرّسٍ بالشعرية العالمية، وعن ذكاءٍ وعمق وإدراك ولطافة. فهو لا يفوته جوهرٌ أساسي، مثلما لا يفوته تفصيل».
يتألف المشروع من أربعة أجزاء، صدر أخيراً، الجزآن الأول والثاني منه

ويضيف: «وبقدر ما يلاحق الشعراء الراحلين في حيواتهم الشخصية، والعامة، كما في تجاربهم الأدبية، وعلاقاتهم بالذات والآخر والكائنات والأشياء والعالم، يعتمد الرصانة التوثيقية التي تغطّي اهتمامات هؤلاء الشعراء، وميولهم وانتماءاتهم الأدبية والنقدية، مثلما يعتمد التذكير بأهمية الخفة التي تأخذ بالحوارات إلى مطارح تأويلية في تجربة كلّ شاعر، غير متوقعة وغير منظورة». في حواره مع آرثور رامبو، يسأله: «هل كنت شاباً رائياً يقود كتيبة جند الحداثة على سبيل المثال؟» فيجيبه «في ذلك الوقت، لم أشغل نفسي بالنظريات. كنت كنزاً وانكسرتْ أقفالهُ على حين غرة. وما تقوله أنت عن الحداثة وكتيبة المحدثين، هو شيء كان غائباً عني تماماً. فأنا كرستُ الشعرَ في نفسي نجمةً ثملة بخمر أحمر، ولم أظن يوماً بأن الشعر عندي بمثابة فانوس، يمكن أن يتعرض لأي حركة من حركات هبوب الريح، فيموتُ ضوءاً ومعنى».