أدركت الأميرة نورجاهان قبل الثورة الإشهارية بأنّ الاستيلاء على السلطة يمرّ عبر سحر الكلمات. ولذلك، فإنّ أول عمل قامت به بعدما أصبحت إمبراطورة هو تغيير اسمها. كانت قبل زواجها من الإمبراطور المغولي جاهانجير سنة 1611 تدعى نور المحل (أي نور القمر)، أما في ما بعد، فقد أصبحت نورجاهان (أي نور العالم). هكذا شاءت أن يعرف العالم بأسره بأنّها متفوقة في اقتناص النمور: «اشتهرت نورجاهان بأنها قناصة نمور ممتازة، تتفوق على ميرزا رستم أفضل صياد في جاهانكير لو تذكرنا بأن هواية أنجر كانت العزف على الكمان...لم تكن النمور التي اصطادتها نورجاهان أفضل انتصاراتها، بل إن هذه الأخيرة تتمثل في نجاحها حين تمكنت من التأثير على الفنانين. وهناك إحدى المنمنمات التي تجسد ثورة حقيقية في مجال فن الرسم، حيث ترى نورجاهان في حفل إلى جانب جاهانجير والأمير خرام، وهي معروضة في رواق Free Gallery of art في واشنطن. والواقع أن هذا العمل يشكل منعطفاً هاماً في الفن الشرقي عموماً، وفي طريقة تصوير نساء الحريم خصوصاً، ويعود ذلك إلى ثلاثة أسباب على الأقل.
يتمثل الأول منها في أن الوجوه المرسومة تعرب عن مجهود جديد بذله الفنان لإضفاء صبغة الواقعية عليها. كانت المنمنمات وخاصة منها الفارسية حتى ذلك الحين، تجسّد وجوهاً أسطورية مستمدة من الملاحم كالشاهنامة، ولا علاقة لها بالواقع. كانت الأميرة شيرين بطلة دورة «نظامي» الشعرية، وكانت شخصيتا ملكة سبأ والملك سليمان مستمدتين من التوراة.

لوحة تجسد الأميرة نورجاهان

إن المغول هم أول من أدخل رسم الوجوه بالمعنى الغربي، أي رسم ينقل ملامح الشخص بأكبر قدر من الوفاء. ويعود الفضل إلى هذا التجديد في تدعيم «شرعية السلطان الحاكم». وبتعبير آخر، فإنّ المغول هم أول من استعمل الصورة المرسومة كوسيلة للدعاية، الشيء الذي كان يعدّ حتى ذلك الحين رغبة في الظهور ونزوة لدى ملوك المسيحية الذي يتسمون بالغموض. أما التجديد الثاني في المنمنمة نفسها، فيتمثل في أن الإمبراطور يُرى إلى جانب زوجته، الشيء الذي يدل على أن هذه الإمبراطورة التي يفترض بأنّها سجينة كانت تقدم نفسها سافرة إلى من يشاهد اللوحة. لنتخيل بأن بعض القادة المسلمين لا يظهرون زوجاتهم إلى اليوم، بحيث أننا لا نراهنّ البتة في حفلات الاستقبال الرسمية... حينها ندرك بأن نورجاهان قلبت الأمور فعلاً.
أما السبب الثالث الذي يجعل من هذا المشهد رمزاً سياسياً، فهو أن الملكة تقدم كضيفة شرف. «ورغم كون جاهانجير يظل الوجه السائد... فإنّه أصبح يتقاسم إثارة انتباه المشاهد مع نورجاهان التي تبدو بوضوح محاطة بفرقة حرسها المشكّلة من النساء». نستخلص من خلال هذه الملاحظة أن الملكة لم تتسلم زمام الأمور فحسب، لكنها أمرت فناني البلاط بأن يحتفوا بانتصارها الذي وصل إلى قمته في ذلك الحفل الذي كانت صاحبة فكرته، حيث أنها نظمته لتكريم الأمير خرام، ابن الإمبراطور من زوجة أخرى، إثر عودته المظفرة من فتحه «لدكان». كان الحفل ذا طابع سياسي بامتياز، حيث حضره سفراء القوى الأجنبية الكبرى، ومنهم «السير توماس رو» ممثل التاج البريطاني. إن تفاصيل الحفل تستحق الانتباه: كؤوس الخمر، والأقمشة، والأحجار الثمينة، والفساتين ذات الصدور المفتوحة، كلها عناصر تنتمي إلى حياة النساء اليومية، الشيء الذي يشكل دليلاً على أنهن لم يعدن لامرئيات بشكل كامل كما كنّ من قبل.
إن أسس التمييز الجنسي في الشرق هشة في الواقع، لأنها ترتكز إلى تقسيم المجال ارتكازاً كاملاً. وإذا ما اجتاحت النساء إلى المجال العام، فإن ركائز السيادة الذكورية تتزعزع. وذلك هو ما يحصل اليوم، إذ إن ولوج النساء بكثافة إلى المهن العلمية يقضي على الهيمنة التي كانت للرجال في الشرق.
■ ■ ■

(...) في سنة 1612، وبعد سنة من زواج نورجاهان، رسم أبو الحسن، وهو أشهر فنان في الإمبراطورية صورة امرأة حاملة بندقية تمثل حسب المتخصصين: «صورة نورجاهان ذاتها. إنّ واقعية ملامح الوجه، والقوة التي تنبثق من التعبير، والإطار الطبيعي الذي يختلف عن داخل الحريم، وكذا إمضاء أبو الحسن.... كل ذلك يدعو إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بتصوير حقيقي لملكة مغولية». إلا أن رسماً مماثلاً للوجه يطرح سؤالاً آخر: هل كانت نورجاهان هي الوحيدة التي تبيح لنفسها مطاردة النمور؟ وهل كان الصيد هواية نسوية اعتيادية في الهند أيام المغول؟
لقد كان هؤلاء المغول منحدرين من الرحّل الذين يعود أصلهم إلى آسيا الوسطى، والذين يدعون بالمغول «المتأتركين»، كما أن جانكيز خان كان من أسلافهم. استمر أبناء الريف والأدغال هؤلاء في إعادة خلق المناظر الطبيعية لماضيهم التائه. لقد احتفظوا من ثقافتهم القديمة بالأنشطة التي كان يمارسها الرجال والنساء في الهواء الطلق: مارست النساء خلال عقود لعبة البولو والرماية، وتبرز أوصاف الحريم القديم لدى المغول نساء مدججات بالأسلحة يحرسن أبواب «الزناما» وهي لفظة مرادفة لدى المغول للوصيفة التركية.
لقد أدهش حضور النساء لدى المغول والترك الرحّالة العرب دائماً، وهم الذين صوّروهم في شهاداتهم كأكثر الممارسين للقهر من سائر الشعوب الشرقية. وفي سنة 1334، قطع ابن بطوطة آسيا الصغرى حتى الصين، وقد فاجأه تعظيم ملوك الأتراك لنسائهم: «ورأيت بهذه البلاد عجباً من تعظيم النساء عندهم، وهنّ أعلى شأناً من الرجال». وكمغربي أصيل، اندهش ابن بطوطة على الأخص للتحية التي يوجهها سلطان تركي إلى زوجته: «... ويقعد السلطان على السرير، وعلى يمينه الخاتون طيطغلي، وتليها الخاتون كبك، وعلى يساره الخاتون بيلون، وتليها الخاتون أرودجا، ويقف أسفل السرير على اليمين ولد السلطان... وتجلس بين يديه ابنته ايت كججك. وإذا أتت إحداهن، قام لها السلطان وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير. وأما طيطغلي، وهي الملكة وأحظاهن عنده، فإنه يستقبلها إلى باب القبة، فيسلّم عليها ويأخذ بيدها، فإذا صعدت إلى السرير، وجلست حينئذ يجلس السلطان، وهكذا كله على أعين الناس دون احتجاب».
تفاصيل دقيقة تزعزع التصور الخاطئ الذي يقول بأن الحضارة الإسلامية معادية للنساء


من شأن هذه التفاصيل الدقيقة أن تزعزع التصور الخاطئ الذي يقول بأن الحضارة الإسلامية معادية للنساء. ويقدم ابن بطوطة الدليل على عدم وجود ثقافة واحدة في العالم المسلم. إذ إن القاعدة هي التعدد والتسامح تجاه الاختلافات الثقافية. لقد كان العرب يحجبون نساءهم ويسجنونهن. أما الأتراك والمغول فلا. كان المغول يقدّرون فن الرسم، ويظهرون ملكاتهم، وكانت هؤلاء يظهرن أمام الأنظار كشأن نورجاهان، ويطلبن منمنمات تضمن لهن نوعاً من الخلود، وتشهد بعبورهن على هذه الأرض بعد موتهن. أما العرب، فكانون يجهدون في إخفاء نسائهم، ويتصرفون بطريقة تجعل التاريخ لا يحتفظ بأي شاهد على سلطتهن. إلا أنّ هناك امرأة استولت على السلطة في القرن السادس عشر في مكان غير بعيد عن طنجة، وهي المدينة التي ولد بها ابن بطوطة، حيث أصبحت من أكبر قراصنة المتوسط وأكثرهم خطراً. وقد وصلت بالمزاح إلى مداه الأبعد حين جعلت شمال المغرب المشهور بمحافظته الشديدة (إنني أقول ذلك عن دراية لأنّ أصلي لوالدتي ريفي) يلقبّها بـ «حاكمة تطوان». لن تجدوا أي أثر لهذه المرأة في تاريخ المغرب الرسمي: «إننا لا نعثر في المصادر العربية على معلومات عن هذه الملكة التي مارست السلطة خلال ثلاثين سنة (من 916 هـ ـ 1542) وهو التاريخ الذي تسلم فيه زوجها المنظري الحكم إلى سنة (949 هـ ـ 1540) التي أزيحت فيها عن السلطة.

* فاطمة المرنيسي (1940 ــــ 2015) ـــ مقتطفات من كتاب «شهرزاد ترحل إلى الغرب» ـ المركز الثقافي العربي ــــ 2002 ــ ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل