كان آخر اتصال بيننا (فايز وأنا) في نهاية الأسبوع الأول من كانون الثاني (يناير) الماضي. اتفقنا يومها على أن يكلمني من باريس في أواخر شباط/ أوائل آذار بعد أن يكون قد حسم قراره إما بالمجيء إلى بيروت أو بإرسال المخطوطة الكاملة لأعماله الشعرية والنثرية والبحثية وأقوم أنا بإعدادها للطباعة في دمشق. لكنه، على غير عادته، أخلف وعده لي، هذه المرة، وبدلاً من أن يأتي إلى بيروت، فاجأني خبر وفاته من إذاعة «مونتي كارلو» الدولية، في 5 آذار، أي بعد شهر، بالتمام والكمال، من وفاة صديقه وصديقي هنري حاماتي. بعد يومين على رحيله المفاجئ، اتصلت بي، معزيةً، زوجته الصديقة أولغا مقدسي لاعتقادها أني لم أتبلغ الخبر، ودليلها أني لم أتصل بالعائلة في باريس. صحيح أنا لم أتصل لأنني كنت مصدوماً بالخبر ومكلوماً ومتضعضعاً ولا أدري ماذا أفعل! روت لي أولغا حكاية مرضه وتطوره واللحظات الأخيرة التي سبقت الوفاة، وكيف قضى بنوبة قلبية حادة لم تترك لأطبائه فرصة لمساعدته، وأسرّت لي حبها، بل شغفها، بسوريا، بلاد فايز التي أصبحت بلادها، كما قالت لي، وأشهدتني على حبها لهذه البلاد التي حاول الهمج حرقها وتدميرها وحرثها بالملح كما فعل الرومان بقرطاجة، المدينة السورية الخالدة، في غربي المتوسط. ووعدتني بزيارة قريبة لبلاد بعل وعشتار، لا سيما حلب، مسقط رأس زوجها وحبيبها فايز، ما أن تشفى من جراحها التي تركها فايز، برحيله المبكر، في قلبها وفي روحها.
لم يكن أحد، باستثناء عائلته الصغيرة وشقيقته ليلى، يعلم بمرضه. لذلك فاجأ موته الأقربين والأبعدين، على السواء. كان فايز كتوماً، يحتاط كثيراً، ولا يفصح لأحد عن أحواله الشخصية، لا سيما المرض أو الوضع المادي. وعندما أخبرني، على الهاتف، أنه كان في المستشفى، وأنه أجرى فحوصات اعتبرها «روتينية»، كان صوته شجياً، دافئاً، رخيماً، ولم يخبرني عن مرضه، ولم أستشعر أنا، شيئاً من هذا القبيل.
■ ■ ■

رحل فايز مقدسي الكاتب والشاعر والإعلامي (المهنة التي لم يحب، مع أنه أبدع فيها، غير أن دافعه إليها كان الحاجة إلى العمل، لا اللهاث وراء الأضواء، كما يفعل كثيرون، لحيازة لقب إعلامي أو مذيع أو مقدّم برامج). رحل فايز، وحلب، مدينته الساحرة، لم يهدأ روعها بعد، وسوريا بلاده لم تتحرر كلياً من سيطرة التتار وأعوانهم من الجوار!
عندما التقينا في باريس، في شتاء 1983، تعرفت إلى زوجته الرائعة أولغا وابنه الساحر شام الذي أصبح اليوم رجلاً ورباً لأسرة صغيرة. وعندما ولدت ابنتي بترا، أهداها شام وكان في الثامنة من عمره، لوحة للإله بعل رسمها بقلم رصاص وكتب عليها «من شام إلى بترا» ولا نزال نحتفظ بها، حتى اليوم.
معه، وعبره، تعرفت إلى بعض أعلام الثقافة السورية في باريس، من عابد عازرية الكاتب والملحن والمسرحي، إلى ضياء سكري الموسيقار السوري المتميّز، إلى اتيل عدنان الشاعرة والمسرحية والرسامة، إلى بسام طحان أستاذ كرسي في «معهد البوليتكنيك» في باريس الذي كان يرفض أن يعود إلى سوريا إلا رئيساً للجمهورية كما كان يقول لي دائماً كلما سألته: متى ستعود إلى حلب، يا بسام؟ كان بسام، وعابد، واتيل وفايز متعصبين لمدينة حلب، وبالتالي لسوريا كلها، وينظرون إلى حلب بوصفها أجمل مدينة سورية. ولأنها كذلك فسوريا، في نظرهم، هي أجمل بلاد في العالم! هذه كانت فلسفتهم التي لم تبرح أحداً منهم، حتى اليوم!
مع بداية الحرب الكونية على سوريا، وفي السنة الثالثة تحديداً وحلب تحت الحصار، وقسم كبير منها كان تحت سيطرة التكفيريين، بعثت إليه رسالة نصيّة قلت له فيها: «ليس الوقت الآن يا فايز، لنبكي موتانا- وما أكثرهم- بل لنتشبث بما تبقى من سوريانا بانتظار الهجوم المضاد!»
■ ■ ■

في دير الزور، عاشقة الفرات وجارة الميادين والبوكمال، والمدى التكاملي مع الأنبار، ولد فايز مقدسي، حيث كان والده يعمل موظفاً في الدولة، سنة 1946، وفي حلب تابع دراسته الثانوية، إلى أن غادرها إلى باريس في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، حيث تابع دراسته في «السوربون» وحاز منها دبلوماً في التاريخ القديم واللغات السامية. درّس اللغة العربية- لحاجته الماسة إلى المال ليُعيل نفسه- لطلاب فرنسيين وغيرهم من جنسيات أخرى، وانضمّ في مطلع التسعينيات- للأسباب نفسها- إلى إذاعة «مونتي كارلو» حيث عمل لعقدين من الزمن معداً ومقدم برامج ثقافية متنوعة. واستمرّ في العمل فيها إلى عام 2010 حيث تفرغ إلى الكتابة، لا سيما كتابة التاريخ السوري القديم.
انكب على التراث الشعري والملحمي السوري وترجم الأساطير السورية الكنعانية والآرامية


دُعي يوماً إلى مؤتمر إعلامي في عمان، بوصفه مذيعاً في إذاعة دولية مشهورة، وأجرت معه جريدة «الدستور» الأردنية وغيرها من الصحف والإذاعات، حواراً تكشفت فيه الهوة الكبيرة التي تفصل الإعلامي أو المدعو كذلك في بلادنا والمثقف العميق والعضوي كفايز مقدسي.

■ ■ ■

كتابه الأول «سيمياء، أبجدية الأفعى» صدر بطبعة مزودجة، عربية وفرنسية، عن دار نشر فرنسية عام 1973، وقامت بالترجمة إلى الفرنسية صديقة الشاعر عابد عازرية. كما أصدر طبعة خاصة من الكتاب نفسه سنة 1978 زيّنت خطوطها ورسومها ريشة الفنانة اتيل عدنان. وفي إهدائه لي هذه النسخة، ذيّل الإهداء بعبارة «هذه القصائد الصوتية». ذلك أن الحرف، له، صوت، والصوت ليس بمعنى، إنه حرية المعنى. كان فايز مقدسي، مثلما في سير الكتب القديمة والمقدسة، يمهّد لمجيء أمر أو لحدوث ما بإشارات وبرموز تعلن عن القادم، ولغة الشاعر كانت تمثل هذه الإشارات والأصوات والقدوم، على حدّ تعبير عازرية في مقدمته للكتاب. هذه اللغة- سيميا- هي السمّ الذي يتطلب الكثير من النبل حتى يُشرب. في بيروت نشرت له كتاباً بعنوان «مدونات شعرية الحبل بلا دنس» عام 1987، في طبعة مزدوجة بالعربية والفرنسية وترجم النص إلى الفرنسية المؤلف وزوجته أولغا، وراجعت الترجمة الصديقة نجوى مدور. أما الغلاف والرسوم، فمن وضع برنار حلوى، وقد أهدى النسخة الفرنسية التي افتتحها بقصيدة «الوردة الشامية» (لاروزا دماسينا) إلى زوجته أولغا.
في ربع القرن الأخير، انكب على التراث الشعري والملحمي السوري وراح يترجم الأساطير السورية/ الكنعانية والآرامية/ إلى العربية. صدرت له في هذا المجال، كتب عدة عن دار «الأبجدية» في دمشق نذكر منها ملحمة «بعل وموت»، «قصائد أوغارتية»، و«الأصول الكنعانية للمسيحية».
■ ■ ■

عندما أنهيت دراستي في فرنسا وناقشت أطروحتي الجامعية وقررت العودة إلى الوطن، لفّت بنا (فايز وأنا) أولغا زوجته، في سيارتها «رينو +5» الحوض الباريسي، في رحلة وداعية، ولكن شاءت الظروف أن أعود ثانية إلى باريس، واشتغلنا سوياً فايز وأنا على معجم «المصطلحات القومية الاجتماعية». لكن العمل لم يتم لأنني قفلت راجعاً إلى البلاد، ولم أعد أعرف ما إذا كان فايز قد أتمّ العمل لوحده، أو توقف حيث انتهينا... هذا ما سأحاول التأكد منه في المقبل من الأيام!
فايز مقدسي أضناه السفر والمنفى والتعب فحزم أمتعته ورحل!