في الذكرى الثالثة لغيابه، نستذكر المطران إيلاريون كبوجي علّنا نستخلص الدروس والعبر. بداية رغم نضاله المميّز وتضحياته الأسطورية، لم يُنصف المطران من الذين ناضل من أجلهم. كم نحن مُقصِرون بشرح مواقفه والقيم التي عمل من أجلها. لذلك أدعو إلى تشكيل هيئة قومية دائمة لتكريمه ونشر تجربته الرائدة للأجيال الشابة، فهو قدوة وبطل ورمز للاستنهاض.عندما احتلّت «إسرائيل» الضفة الغربية في الخامس من حزيران 1967، وشاهد أمام عينيه الجثث والظلم، تحوّل مطران المحبة والسلام إلى ثائر ضدّ الاستبداد، فأسّس مطران القدس إيلاريون كبوجي أوّل خلية فدائية في المدينة المقدسة، جاعلاً من عباءته الكهنوتية درعاً لمقاومة سلطات الاحتلال، معتبراً أنه لا يستطيع أن يكون مُحايداً وهو يرى رعيته تتبدّد وشعبه يُقهر ويُقتل. فقرر مقاومتهم بكل ما أُوتيّ من قدرة، وبشتى الوسائل، فسار على طريق المسيح الذي استعمل القوة لطرد لصوص الهيكل. وهو بهذا العمل، كان رائداً ومؤسّساً للمقاومة القومية العابرة للطوائف والمذاهب والأديان، وغير محصورة في كيانٍ من كيانات سايكس – بيكو، فشارك في العمليات الفدائية التي ساهم في تنظيمها، أبطال من فلسطين وسورية ولبنان والأردن، من مسيحيين ومسلمين وعلمانيين.
اليوم، إذ نُشارك في تكريمه، نستذكر معاً نهج المقاومة القومية الذي جسّده:
فقد مَثَّل المطران من خلال مسيرته مجموعة قيم، أبرزها «لاهوت المقاومة»، وهو مفهوم ونهج نضال سبق «لاهوت التحرير» والمواقف البابوية المتحررة من قيود التقليد والتحالف مع الاستبداد والسلطة. وقد تكرس هذا النهج بنداء «وقفة حق» التي سجلها ممثلون عن الطوائف المسيحية في فلسطين ضد الاحتلال ومع شرعية المقاومة في عام 2009.
أعطى المطران كبوجي بنضاله من أجل المسألة الفلسطينية، بُعداً قومياً وإنسانياً:
• فقد كان المطران كبوجي رمزاً للحياة المشتركة، بقدر ما هو مطران مسيحي، فقد كان مسلماً لـ«رب العالمين» بالتقوى والتسامح، وكان مع حوار الحياة المسيحي – الإسلامي، ومع القضايا الإسلامية المحقة.
• كان عروبياً بكلّ ما للكلمة من معنى، ورغم كونه من مدينة حلب السورية، فقد كان يعتبر نفسه فلسطينياً بقدر ما كان سورياً ولبنانياً، وعروبياً بشكل عام. هكذا كان حاسماً في مسألة هويته المشرقية العربية، في زمنٍ ما زال البعض يُشكك بهويته لأرضه وشعبه.
كان يؤمن بالإنسان أولاً بغض النظر عن طائفته وملّته. كان رجلاً عملياً من خلال تجسيد كلامه إلى فعل، فخلق نهجه وطبقه على نفسه غير آبهٍ بما تعرض له من تعذيب في السجن والمنفى.
من خلال مواقفه، أكد المطران كبوجي أن حربنا مع «إسرائيل» هي حرب وجود لا حرب حدود، مهما ضاقت أو وسعت، لأنها صراع على الأرض، فهذه الأرض إما لنا وإما لهم. فكان المطران ضد التسويات والمساومات، وضد أيّ شكل من أشكال التنازل والمهادنة حتى لا تفقد القضية بعدها الجذري والاستراتيجي.
ومن الدروس التي يجب أن نأخذها من خلال نضال المطران كبوجي أن القدس والدفاع عنها ضرورة، لما لها من رمزية دينية ووطنية، لكن علينا في الوقت نفسه أن لا ننسى فلسطين كل فلسطين، التي يتطلب الدفاع عنها تضامناً عربياً نفتقده هذه الأيام، والتأكيد أن الدول العربية مرتبطة مصيرياً بالدفاع عن فلسطين. فقد أثبتت الأحداث أننا لا نستطيع استعادة فلسطين من دون نهضة عربية شاملة وجذرية ومستمرة، وكما لا نستطيع أن نحقق نهضة عربية بالتخلي عن فلسطين. لذلك فلسطين ما زالت مرتبطة عضوياً بقوة سورية خاصة والعالم العربي عامة، وبحرية المواطن العربي، لأن التحرر والحرية كلٌ لا يتجزأ.
هكذا كان المطران كبوجي، وعلى طريقه نسير من أجل تجديد العروبة، وتجديد مسيرتنا من أجل تحرير فلسطين، وتحرر المواطن في العالم العربي من قيود الاستبداد والتبعية والتخلف والجهل.
فقد جسد المطران كبوجي البعد القومي للمسألة الفلسطينية، لأن فلسطين هي جزءٌ من الذات السورية. فلا فلسطين يُمكن أن تتحرر من دون سورية. ولا سورية قادرة أن تُدير ظهرها لفلسطين، وترفع شعار سورية أولاً، لأنها عندئذ تفقد معناها ودورها وذاتها، في زمن نشهد فيه محاولة لتصفية المسألة الفلسطينية عبر «صفقة القرن» بجعل القدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ورفض حق العودة وفرض التطبيع على العرب، في وقت نرى بعض العرب بدأ يُجاهر بالتحالف مع «إسرائيل»، بعدما فكوا ارتباطهم بالقضايا القومية المشتركة، لا سيما المسألة المركزية فلسطين، ما يُؤكد أن الصهيونية أصبحت ثلاثية الأبعاد: صهيونية يهودية، صهيونية مسيحية، وصهيونية عربية.
والصراع اليوم على سورية، وفي سورية هو صراع بسبب فلسطين أولاً. إنه صراع من أجل ضمان أمن «إسرائيل»، واستكمال سلب كامل أرض فلسطين، ما يستلزم إضعاف سورية وإلهاءها بمشاكلها الداخلية حتى تتمكّن الدولة اليهودية من فرض مشروعها وتوسيعه تدريجاً بالتهويد والاستيطان حيناً، والتوسع عندما تتاح الظروف والإمكانيات. بهذا المعنى الصراع في المنطقة هو صراع على وجودنا كهوية وحق ومصير، وهو ليس مجرد صراع على حدود الدولة اليهودية التي ترسمها موازين القوى والتسويات السياسية المرحلية.
وبهذا المعنى أيضاً، الحروب التي خاضتها الجمهورية العربية السورية لم تكن حروباً للدفاع عن فلسطين وحسب، بل عن ذاتها ووجودها. كما أن الحروب التي خيضت ضدها، وتُخاض اليوم عليها، ليس المقصود منها إخضاع سورية وتقسيمها أو احتواءها لذاتها، بل نصرة للمشروع الصهيوني الاستعماري الذي يستهدف حماية أمن «إسرائيل» ومصالح الرأسمالية الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، ومنع سورية من تحقيق ذاتها عبر تعطيل نهضتها، واستنزافها بفوضى وفتن وإغراقها في فراغ القوة، بالإضافة إلى منع أيّ تقارب في المشرق العربي، وإغراق دوله في حروب داخلية تقسيمية لتفكيك المجتمع ولمزيد من التجزئة، وكل ذلك بسبب وجود «إسرائيل» ومشروعها التوسعي الاستعماري على أرض واحدة يتنازع عليها مشروعان متناقضان وجودياً.
وهذا الواقع يفرض على سورية بالذات أن تُصارع من أجل ذاتها ووجودها، ومن أجل عودة الروح إلى العروبة الواقعية، ومن أجل إعادة بناء البيت العربي على أسس جديدة تُعيد الاعتبار إلى العروبة الحضارية كرابط جامع لأقاليمها. وهذا ما جسّده المطران كبوجي في مسيرته إنه سوري المُولد، لبناني المنشأ، فلسطيني الكفاح، مشرقي عربي الهوية... إنّه شخصية قومية بفكره ونهجه، نحتاج إليها اليوم، للدفاع بصدق وإخلاص عن وجودنا، بإعادة تأسيس مقاومة قومية شاملة وجذرية عابرة لكيانات سايكس – بيكو، ومذاهب الطوائف، تُحقق تحرير الأرض وحرية الإنسان.

1- أُلقيت هذه الكلمة في مكتبة الأسد في دمشق، وذلك خلال الحفل التكريمي الذي نظمته دار دلمون الجديدة للمطران إيلاريون كبوجي، شارك فيه: الأب إلياس زحلاوي، د. حسن حمادة، النائب نبيل ملاح والكاتب الصحافي سركيس أبو زيد. مع كلمة مسجلة للمناضلة الفلسطينية ليلى خالد.