قال ساراماغو بأنّ الكاتب يكتب أدباً محلياً، والأدب العالمي يبدعه المترجمون. وانطلاقاً مما قاله ساراماغو، تساءلت: أين الأدب العربي من الأدب العالمي، وخاصة ما تشهده الساحة الأدبية العربية من كثافة غير مسبوقة في نشر الأعمال الأدبيّة. وطبعاً هذا يشكل ظاهرة صحية لأن الزمن كفيل بالغربلة والبقاء في الأخير هو للأدب الجيد والأقوى ولو بعد حين. لكن في ظل هذا التراكم ونجاح أعمال عربية نجاحاً منقطع النظير، لم يستطع أي كاتب عربي أن يحقق نجاحاً عالمياً. فحتى نجيب محفوظ نفسه لم يصبح «بيست سيلر» بالرغم من نيله جائزة نوبل، فأعماله على الصعيد العالمي لم تنلْ حظَّها كفاية. هل السبب يعود للترجمة التي لم تُحسن نقل هذا الأدب إلى القارئ في الضفة الأخرى والمترجم لم يحسن التفاوض مع النص العربي وتعاملَ معه باستخفاف، ولم يبحث وفي الدلالات النفسية والاجتماعية للألفاظ وسياقاتها المختلفة، لأن النص الأدبي ليس كلمات قاموسية بل محمولات ثقافية وإجتماعية؟ أم أن نجاح الكاتب العربي عالمياً مقرون بالسياسة التي ترفع الأعمال التي تخدمها، أو لربما إنّ الآداب العالمية قاربت هموم الإنسان في كل مكان.وهنا تبرز أدبية الأدب وقضاياه الإنسانية، أقصد قوة النص.أيضاً بعض الأعمال الأدبية لا تدور في فلك الرؤية الغربية كالأدب الصيني والياباني والكوري والأميركولاتيني، لكنها نجحت في الوصول إلى العالمية. هل اللغة التي كتبت بها الأعمال الأدبية العربية لا يمكن أن تترجم؟ إذ يجب على المترجم فك شفرات النص وإعادة كتابته كي يترجمه!؟
قرأتُ أخيراً بعض الأعمال العربية المترجمة إلى الإنكليزية، والتي ترجمها مترجمون أكفاء، لكنني لاحظتُ أنهم في بعض المواطن اعتمدوا على الترجمة الحرفية التي لم تقتلْ فقط النص فحسب، بل قتلتْ ثقافته. لا شك في أنه سيصل إلى القارئ الآخر مشوهاً مبتور القوام.
لا أعتبر أبداً أنَّ الترجمةَ تتوقف عند إجادة اللغتين؛ الأصل والوصل، بل تتجاوزها إلى معرفة الثقافة وكل ما يتعلَّق بالكاتب ومؤلفاته. بل أكاد أجزم أنّ أهم عامل في نجاح الترجمة هو الاجتهاد، بمعنى البحث والتقصي والقراءات الموازية، أي التعامل مع النص كأنه بحث، الجميع يمكنه أن يتقن اللغة لكن ليس كل متقن للغة مترجماً.
برأيي لا يوجد مترجم جيد يتقن الترجمة بل مترجم مجتهد في كل نصٍ يبحث عن أشياء جديدة. يجتهد كي يصل إلى ما يودُّ الكاتب قوله والحفاظ على رسائل النص ومحاولة إيصالها إلى القارئ المتلقي بشكل يتلاءم مع لغته.
قرأتُ منذ أيام رواية عربية مشهورة جداً (ترجمَتْها مترجم له إسمه في الترجمة للغة الإنكليزية)، أخطأ في أمور بديهية، ليس لعدم معرفته باللغة، بل لكونه لم يجتهد كفايةً في البحث ولا أتعب نفسه، إنما تعامل باستخفاف؛ ولم يحاوِل إخراج النص بروحه كما أراده كاتبه، وكما يتمنى أن يتلقّاه القارئ الإنكليزي الجاهل للعربية.
الترجمة في الأخير، هي فن يعتمد على مزاج المترجم وحبّه للنص وتفانيه في عمله، وليس التعامل مع النص كسلعة وبضاعة يجبُ تسليمها في الوقت المحدد من دون مراعاة لجودتها وصلاحيتها. ومما خلصت إليه أيضاً أنّ المؤسسة الثقافية الغربية لا تنظر إلى العرب بوصفهم أكفاء لإنتاج ثقافة وإنتاج أدب وفن، فأعمال مثل روايات نجيب محفوظ و إلياس خوري لم تنشر في دور كبيرة مثل «بنغوين». والدور التي نشرت لهم، لم تعد طباعة العمل مرة ثانية. وهذا بتأكيد من صديق أراد شراء عمل لإلياس خوري مترجم إلى اللغة الألمانية. إذا نجاح الترجمة والأدب مرهون بقضايا سياسية لا أدبية. ولعل هذا ما لمّحت إليه أحلام مستغانمي في «الأسود يليق بك» عندما قالت البطلة: «كلّ من حاورها من الصحافة الأجنبية أرادها ضحية التقاليد الإسلامية، والرجل العربي. عندما أجابت بغير ما يريدون سماعه، أولى لها الإعلام ظهره، وألغيت دعوتها لبرنامج تلفزيوني. لن تفوز بشهرة، لن تفتح بابها في الغرب إلاّ لمن يتقن دور الضحية، مضحياً بقيمه. لذلك الضوء الساطع ثمن ما كانت جاهزة لدفعه». بمعنى الغرب لن يعترف بك إلا عندما تقدم له تنازلات، أو تنجح في مجال حقوق الإنسان، وكما قال محمود درويش: نحن نختلف في رواية التاريخ، أي أن من يجيد سرد التاريخ للآخر بما يتماشى و فكره سينجح لا محالة. حتى روايات أحلام مستغانمي برغم أنها نشرت في أهم دار نشر بريطانية «بلومسبوري»، لكن أعمالها المترجمة لم تنجح أبداً. ورواية «باب الشمس» لإلياس خوري التي نشرت في لغات عدة، لم يعد طبعها للمرة الثانية إلى اللغة الألمانية، ولربما ندموا لترجمتها لأن موضوعها مزعج بالنسبة لهم.
الخلاصة: لن ينجح كاتب عربي عند الغرب، ولن يصبح «بيست سلر» أبداً، عدا الدوائر التي تعنى بحقوق الإنسان. وأيضاً وجب القول من باب الإنصاف وابتعاداً عن نظرية المؤامرة أنّ بعض الكتاب العرب لا يمكن ترجمة أعمالهم كنزار قباني، فشعره مبني على اللغة لا الفكرة، بينما نجد أنّه يمكن ترجمة أدونيس لأن شعره أفكار، والأفكار يمكن لأي لغة أن تحتضنها.
نشير هنا إلى الناقد الأميركي آدم كيرش الذي صنّف الرواية العالمية بأنها يمكن أن تكون محلية لكنها عالمية من حيث مخيالها السردي كروايات أورهان باموق، لكنه ذكر أيضاً أن الروائي يجب أن يطهر لغته من كل ما لا يمكن ترحيله إلى ثقافات جديدة على حد تعبيره. كما أن العربي ربما لم ينجح في التعاطي مع هذا الفن الغربي أي الرواية بما يتماشى والإنسان في كل مكان، وإلا لما أحببنا الآداب التي وصلتنا من خلال الترجمة كأعمال دوستويفسكي وغيره. هناك العديد من الأعمال العربية التي أخذت جوائز مهمة جداً كرواية «سيدات نساء القمر» جوخة الحارثي (جائزة المان بوكر العالمية)، لكن الرواية برأيي لم تنجح كما يتوجب لا عربياً ولا عالمياً. وبرأيي، لو قدمت رواية قوية ومختلفة ستجعل الآخر رغماً عنه يلتفت إليها ويقرأها.