لا يمكن المقارنة بين «المعهد العالي للفنون المسرحية» في سوريا اليوم وبين عزّه أيّام زمان! المثال صريح وواضح. منذ فترة دعي الجمهور لحضور امتحان طلاّب السنة الثانية بعرض كوميديا ديلارتي بعنوان «الخدم المتحذلقون» (إعداد عن «زواج لوفيغارو» للفرنسي بيار بومارشيه، و«خادم سيّدين» للإيطالي كارو غولودوني- إشراف حسن عويتي في المسرح المكشوف). التاريخ يعيدنا بسرعة الضوء ربع قرن إلى الوراء عندما خرّج النجم جمال سليمان دفعة من المعهد على المسرح نفسه بعرض «خادم سيّدين» ذاته. حينها لعبت الممثلة المعتزلة سمر كوكش دور الخادم، وشاهد الجمهور دفعة مختمرة كانت على ناصية الاحتراف ليلتها! لكن المقارنة ستكون ظالمة حكماً لطلاب سنة ثانية سبق أن اختُبروا قبل أشهر على يد مريم علي في مادة أنماط، وظهر غالبيتهم بسوية ملتفة، لكن الاختبار الثاني وضعهم في موقف حرج مع الجمهور! المفارقة بأن الجمهور غالباً هو كناية عن زملاء الطلّاب في المعهد وذويهم ورفاقهم الذين يبهرهم أي شيء، ويمتهنون التشجيع ولو كان المستوى متواضعاً! على العموم، كان لنا موعد ثان خلال أيام هذا الأسبوع بتخريج دفعة جديدة أسهمت العميدة السابقة للمعهد جيانا عيد بالتأسيس الخاطئ لها، عندما قبلت عدداً كبيراً قوامه 23 طالباً وهو رقم قياسي لم تستوعب المؤسسة الأكاديمية على مدار تاريخها كلّه إلا أقّل منه بكثير!تسلّمهم سامر عمران في سنة التخرّج، فلمح بأنه أمام خامات غضّة، لم تتعلم ربما حتى الأساسيات في فّن الأداء. لذا قرر أن يهرب من وضعهم بشكل إفرادي على المجهر النقدي! عروض التخرّح تختلف عادة عن المسرحيات الكلاسيكية غالباً بذريعة أن الاستاذ المشرف يبذل قصارى جهده ليظهّر طلّابه، ويختبر إمكانياتهم على الملأ، وليس ليستعرض مفرداته المهنية كمخرج! ما شاهدناه في عرض «3021» (نص وإخراج سامر عمران ـــ مشروع تخرّج المعهد هذا العام، بالإفادة من روايتي «العمى» لسارماغو و«وادي العميان» لهربرت جورج ويلز) هو فرجة بصرية، وحالة تجريبية جديدة، تعتمد على رؤية مخرج بالعمق النهائي للمعنى، كونه عرضاً ينتقل إلى فضاءات مختلفة، وتصعيد متواتر بصيغة مبتكرة، ويلحق الجمهور بالممثلين والعرض من بهو الصالة إلى مهجع، ثم إلى فضاء عام في باحة المعهد، بعدها إلى زواريب المعهد التي تتحوّل إلى سوق، وأخيراً إلى خشبة المسرح الإيطالي التقليدي! الدفعة عددها 23 بالإضافة إلى الخرّيجين الذين استعان عمران بهم وهم 9 طلّاب من بقية الدفعات. هكذا، صرنا أمام 32 ممثلاً نشاهدهم على مدار ساعة ونصف الساعة قريباً من دون أن يترك العرض فرصة وافية لتمحيص موهبة كلّ واحد على حدة. الحكاية تفترض بأن وباء يصيب الناس بعد ألف عام، يفقدهم البصر ويتحولون إلى عميان، يعودون نتيجة التقاتل والجريمة إلى أصولهم الحجرية الأولى، ثم تكرّ السبحة ليفقد هؤلاء تباعاً بقيّة حواسهم وآخرها الكلام. كأنه يقول طالما هناك لسان يتحرّك ستظل الحروب قائمة، والإنسان منذ قابيل هابيل، بنى امتداه على التقاتل والدم. التجريب متعة، واللحظة البصرية المدهشة التي تصدم الجمهور عند الخروج للفضاء المكشوف، لتدار الحالة الدرامية بمقترح العودة نحو بدائية الإنسان، مترفة بالمتعة والطقس المسرحي المختلف عن السائد. لكننا كنا أمام تهاو واضح لألف باء التمثيل على مستوى الأداء الفردي عند غالبية الممثلين. الإلقاء طلائعي بامتياز، الصوت متلاش. التحّكم بعضلات الوجه شبه معدوم، العيون المدركة تكاد تكون خاوية! طبعاً الاستثناءات موجودة لكّننا نبحث عن القاعة هنا! ترى هل كنا أمام خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل حقاً، أم أننا في عرض تجريبي لمخرج محترف يدير مجموعة هواة، يحاول مداراة ضعفهم الأدائي بأي طريقة، خاصة أننا نعرفه جيداً، وقد خبرنا تمايزه منذ أكثر من عقد حين قدّم «المهاجران» (نص لسلافومير مروجيك، إخراجه وتمثيله مع محمد آل رشي) في قبو فقير وصغير قرب «مقبرة الدحداح»؟ يومها حبس أنفاسنا على مدار ثلاث ساعات متواصلة!