(مقطع من رواية «بريتيوم»)*رمَتْ أمي أوّل –وأجمل- ذكرى جمعتني أنا بـ بابا الذي كان دائم الانشغال. كانت تلك المرّة الأولى التي يهديني فيها هديةً ثمينة وأقضي معه وقتاً أطول من المعتاد. «دودو» لم يكن مجرّد قطعة خشبية، «دودو» كان بابا. أيتذكّر أحدٌ غيري المرّة الأولى التي كتب فيها كلمة بابا في طفولته؟ «الصحن الذي تحته نقطة وموصول بعصا طويلة». كان المعلّمون يكتبون لنا كلمة بابا بالحبر الأزرق على دفتر صغير، ويضعون لنا نقاطًا تحتها كي ننسخها بقلم رصاص:
بــابا
بابـا
بابــا
وفي كلّ مرّة، كنا نكتبها بطريقة مختلفة عن التي سبقتها. ما زلتُ إلى يومنا هذا، أكتب كلمة بابا وكأنني تعلّمتها للتو، أكتبها وأنا أشدّ على القلم، أكتبها وكلّ باءٍ تختلف عن الأخرى، باء ممدودة وعصا طويلة وكأن زاوية التقائهم سندًا لي، أكتبها بأنامل شريهان تلميذة الروضة التي لا تريد أن تكبر ولا أن تتخلّى عن ذكرياتها الجميلة مع أبيها.
منذ اللحظة التي فقدتُ فيها "دودو" أصبحتُ حريصة على كلّ غرض يجمعني بذكرى جميلة، أو حتى مؤلمة، المهم أنّها ذكرى. لو استطعت أن أُحضر خزنة مصفّحة ضد الكسر والرصاص لأحفظ ذكرياتي داخلها بعيدًا عن أيادي أمال، ما كنت لأتردد. عِوضًا عن فكرة الخزنة، رحتُ أخبئها داخل صناديق الأحذية الكرتونية الفارغة وأحشرها أسفل خزانة الملابس، ذكرى تلو الأخرى، حتى صرت أمتلك سبعة صناديق من الذكريات.
*********************
لم أكن مرتاحة إطلاقًا، لماذا قبلتُ هذه الدعوة؟
ربطة عنقه السوداء الرفيعة مشدودة أكثر من اللازم حول عنقه الغليظ، كان شبيهًا بأحمد زاهر، لا أحمد زكي. يأكل طبقه بنهم، راح يكلّمني عن الـ«فاهيتا» التي تذوّقها في سفرته الأخيرة إلى تركيا وهو يحرّك الشوكة والسكين بكلتا يديه كقائد أوركسترا يميل بعصاه لضبط الإيقاع. اضطربت دقّات قلبي وتوسعت حدقتا عينيّ وأنا أفكر: «ستنزلق الشوكة من يده لا محال وتستقر في صحن الغواكامول أمامه، وسيتلوّث قميصه الأبيض المخطط بالرمادي الخفيف». لم أعد أحتمل. تذكّرت توبيخ أمّي لي، مرّات عديدة كلّما لوّثت ملابسي أثناء تناولي الطعام، ولم تزل إلى اليوم تصرخ بي بنبرة اشمئزاز وهي تشدّ على أسنانها: «لِك نفسي شي يوم تاكلي وما توسخي تيابك، متل الصغار، بدّك مريولة ع صدرك». اختنقت أكثر، تشنَّج فكيَّ السفلي وأحسست بوخزٍ أسفل عيني اليسرى، وكأنّ شللًا قد أصاب العصب الثالث، ستبدأ نوبة الصداع النصفي. حاولت جاهدة أن أتناول قليلًا من صحني، بعد إصراره، وأنا أبتسم ابتسامةً مصطنعة. لمحت بعض الـ«صوص» على شاربيه الرفيعين، ناولته منديلاً ورقياً من دون أن أقول شيئاً، شكرني مبتسماً وهو يرفع حاجبيه قليلاً. بدأ صوت أفكاري يعلو في رأسي: يبدو أنّ تصرّفي هذا قد أعجبه! لا، أنا لا أهتم بك، أنا أحافظ على سلامة أعصابي من أفعالك الفوضوية، تنفّسي، «ريلاكس». قطع حديثه الذي لم أسمع نصفه ليقول لي بصوته الغليظ، محاولًا ترقيقه وهو يشير إلى صحني بسكّينه: «صحنِك بعده ملان يلّا، بعد في الديسّير». مدّ عنقه نحوي، غمزني وأكمل ممازحاً بصوت منخفض: «مش رح قول عنّك فجعانة هههه».
أجبته في نفسي: «الله يلعن الساعة يلّي قبلت فيها يكون اللقاء عالغدا».
لا أخفي أنّه يبدو أنيقاً وجذاباً إذا أزحنا فوضويته جانباً، لكنّه كان يجب أن يبدّل ملابسه بشيء مريح أكثر من هذه البزّة الرسمية التي تخنقنا معًا. لم يمسك لسانه منذ أن جلسنا، يتكلّم أكثر من زوزو، وكأنه يقضي صبحياته معها. أخبرني قصصاً كثيرة ونكات «مهضومة» لم تعد تُغريني، لكنّها جعلتني أهدأ قليلًا. استغربت هدوءه وبرودة أعصابه، وكأنّ أزمة المصارف واحتجاجات العملاء لم تمرّ أمامه، أو أنّه ناجح في إدارة عواطفه والفصل بين عمله وحياته الخاصّة، أنا لا أستطيع الفصل بينهما، «نيّاله». فتحت فمي لأشاركه فكرة لكنّي أغلقته مسرعة، فقد نسيت اسمه! حسّان أم حسام؟ ها هي ذاكرتي تخونني في الوقت الذي لا يجب أن أنسى. سعلت قليلًا لأغطّي ارتباكي، سكب الماء في الكأس أمامي قائلًا بقلق مبالغ فيه: «صحّة صحّة» ثم أكمل بنبرة واثق فخور: «إيه كنت عم قلّك، بموسم المطوق الشباب ما بيتصيّدوا بلايي..»، قطّبت حاجبيّ لاإرادياً، ليرتفع صوته ضاحكًا ويضيف: «هههه لا لا مش هلّأ، راحت لآخر السنة». تمنّيت أن أخبره بأنّي أكره صيد العصافير والصيادين كذلك، ضحكت ضحكةً قصيرة وقلت بهدوء: «أنا بستأذن شوي». حملت حقيبتي الـ«كلاتش» الجلدية السوداء، فهاتفي موجود فيها بوضعية صامت على عكس هاتفه الـ «آيفون» الذي لم يتوقّف عن الرّنين، إلّا أنّه لم يعتذر ولم يقم بكتمه. مشيت مسافة أربعين متراً تقريباً من طاولتنا إلى دورة المياه، أرض المطعم مبلّطة ببلاط «غريس» إسباني رمادي لامع، خفت أن تنزلق قدمي كعادتي على هذا النوع من البلاط، فمشيت على بحذر شديد، كما أنني لا أحبّ إزعاج أحد بطرطقة كعبي العالي. فتحت باب الحمّام بكوع يدي اليمنى «أسود! حدا بيعمل حمّام أسود؟» قلت بصوت عالٍ وبنبرة حادة لا داعي لها، لقد لجأت إلى الحمّام لكي أرتاح قليلًا، لا لأختنق بالسواد أكثر!. تناولت هاتفي من الحقيبة، لم أسجّل رقمه بعد، فتحت تطبيق الواتس آب وقرأت محادثته من جديد Housam إذاً اسمه حسام، بالميم. غسلت يديّ وخديّ بالماء البارد، أخذت نفساً عميقاً وخرجت.
مشيت ببطء بين الطاولات أفكر بعلاقاتي السابقة التي لم تكن مجرّد ارتباط وانفصال، كنت أمتلك مهارة صيد الرجال، حيث كان الطُعم، بالإضافة إلى جمالي وذكائي، حيويتي الزائدة، كلامي المعسول وعفوّيتي «المقصودة». كنت أختارهم كحسام، بمناصب مهمّة لكن أكثر وسامة منه، أتحايل بجميع الطرق لأجعلهم يُغرمون بي ثمّ أدفنهم بعدها في ذاكرتي، واحدًا تلو الآخر، وأعود لأبحث عن فريسة أخرى: يهيم بي، أتركه، أدفنه، أبحث من جديد، يهيم بي. لم أشعر أن عدد الضحايا قد ازداد. كنت عصفورة حبيسة خلال فترة زواجي، قطعت حينها عهداً على نفسي أمام الله أن لا أعود للصيد من جديد إن خلّصني من سجني. ما إن حصل ذلك حتّى نسيت العهد وعدت إلى لعبتي، وحده زياد استطاع أن يوقفني عند حدّي، بعد اختفائه عدت لـلّعب بقوانين ومعايير جديدة: لم أعد أهتم بالشكل الخارجي للشريك ولا حتى بشهاداته العلمية ولا بحالته المادية، أصبح كل همّي أن أجد من يتقبّلني بمزاجيتي الحادة، بطبعي الحنون الهادىء المحبّ والخلوق كالإلَهة باستِت، وطبعي المشاكس الحاد، المنفعل والغاضب الذي يجعلني أصرخ وأشتم وأقلب الطاولة على من أمامي، حتى على أولئك الذين يحبونني حين أكون سِخمت. أعتقد أنني وجدته. يجب أن أنهي هذا اللقاء.
أربعون متراً جعلتني أتّخذ قراراً مصيرياً. إنّ زياد على حق، فور وصولي إلى المنزل سأحرق كلّ أوراق الماضي وأطوي صفحته، سأعترف لآدم بأنني معجبة به، لا بل أنني قد تعلّقت به. إنني شاكرة لهذا اللقاء، لقد جعلني أحسم خياري، أريد أن أكون معه وحده، مع آدم. وصلت إلى الطاولة حيث يجلس حسام، وقفت إلى جانب كرسيه وأحنيت له رأسي قليلًا، ثم قلت بنبرة فيها لطف حقيقي هذه المرّة وابتسامة صادقة: «ليك حسّان» -بدا متفاجئاً وأشار إليّ أن أجلس على الكرسي لكنني تجاهلته- وأكملت قائلةً: «عفواً حسام، أنا كنت حب الصيد كتير بس من اليوم اعتزلته نهائي، مش هيدا الشي يلّي عم فتّش عليه، فرصة سعيدة. شكرًا عالغدا». ربّتُ على كتفه بأطراف أصابعي، ثمّ أدرت ظهري وخرجت.

*من رواية «بريتيوم» كتبها خمسة كتّاب مع بعضهم (حسين شكر، جيهان حمود، محمد الصغير، نور يونس، وبشرى زهوة) وهي ستصدر هذا العام عن «دار ــ المجمّع الإبداعي».