ليس هناك اجابة بسيطة فالموضوع معقد للغاية. وتهم شيوخ السلف ليست بلا اساس. فابن رشد، مثل غيره من كبار اهل العقل والعلم في تاريخنا, صدرت منه بالفعل اقوال ومواقف وكتابات ساعدت «اهل السلف» في توجيه تلك التهمة له. ولكن هناك نقطة مهمة ينبغي الالتفات اليها هنا، وهي أنّ ابن رشد، وبقية المُبدعين والعباقرة في تاريخنا، لا يمكن اختزال فكرهم ضمن نطاق ثنائية الإيمان/ الكفر! هؤلاء كانت عقولهم كبيرة وآفاقهم واسعة ونظرتهم أعمق بكثير من أن تنطبق عليهم تلك المعايير التبسيطية: مؤمن/ كافر. وبعبارة أخرى: هؤلاء العباقرة كانوا في مستوى فكري آخر بالقياس الى عامة الناس وشيوخهم. وبالتالي فإن إخضاعهم لمقاييس من لا يعرف قدرهم ولا يناظر عقولهم خطأ جسيم يؤدي الى سوء في الحكم والتقدير. أي أنّ هناك مشكلة في الفهم والاستيعاب من قبل خصومهم من شيوخ السلف ومن يتبعهم من العامة. فبحكم التميّز والابداع، كان ايمان هؤلاء الناس مختلفاً عن غيرهم. ولذلك كانت تصدر من الواحد منهم علامات واشارات ونقيضها! نعود الى ابن رشد. فهو في الواقع كان قاضياً شرعياً، بل شغل منصب كبير القضاة في اشبيلية (الاندلس). وهو ايضاً ألف كتاباً سمّاه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» تكلّم فيه بروحٍ اسلامية مئة في المائة وأكد على أنّ الفلسفة (الحكمة) لا تتناقض مع الدين (الشريعة)، وأن ما يبدو في الدين مناقضاً للعلم والمنطق يمكن تأويله وفهمه بما يقبله العقل، وبتعبيره هو «ما قيل من مخالفة الحكمة أو الفلسفة للشرع دعوى باطلة… فالحكمة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة».
وقال ابن رشد إنّ «العقل هو الذي يعطي الإنسان شرف تمثيل الله على الأرض وخلافته»
كان ابن رشد مؤمناً بحاجة النصوص الدينيّة إلى التأويل والاجتهاد، وكان جازماً باستحالة القيام بمثل هذه المهمة من دون استخدام النظر العقليّ في قراءة الشريعة. فاذا كان جوهر العقيدة تنظيم العلاقة بين الله والإنسان، فلا يمكن إجراء ذلك من دون تحكيم العقل، لأنّ هذه العلاقة تستوجب نظراً في الموجودات ومسبّباتها والنتائج المترتّبة عليها، وهي أمور يستحيل الخوض فيها والوصول إلى نتائج في شأنها من دون النظر العقليّ.
يرى ابن رشد وجوب اتّفاق الشريعة مع أختها الحكمة أي الفلسفة، وإذا ما بدا من تضارب بينهما، يتوجب عندها على العالِم اللجوء إلى التأويل، بمعنى الغوص في باطن الآيات القرآنية وعدم الاكتفاء بالظاهر مما تقدّمه من معانٍ.
وقال ابن رشد: «نحن نقطع قطعاً أنّ كل ما أدّى إليه البرهانُ وخالفه ظاهرُ الشرع، ان ذلك الظاهرَ يقبل التأويل». فكل شيء لا يقبله العقل والبرهان العلميّ يجب تأويله. وشدد ابن رشد على التوفيق بين الدين والفلسفة عبر استخدام العقل في تشذيب ما يتصل بالأديان كلها من تفسيرات بعيدة عن المنطق ومتسمة بالاوهام والاساطير.
وتحدث ابن رشد عن «مدينة الغلبة» التي رأى فيها نموذجاً للدولة الاستبدادية ولطغيان الحاكم فيها واضطهاده الشعب، وهي النقيض للمدينة الفاضلة التي تسود فيها العدالة ويمتنع الظلم عن ابنائها.
وفي ثنايا كتابه، نجد له كلاماً صريحاً يدل على اعتقاده بالحياة الأخرى، وبالثواب والعقاب، أي أنّه يتكلم كعالمٍ مسلم يؤمن في قلبه بالاسلام.
ولكنه حين يتكلم كفيلسوف، بلغة العقل المجرّد، نرى منطلقاته تختلف وأسلوبه! فهو بهذه الصفة لا يمكنه ببساطة أن يسلّم بفكرة الخلق من العدم. اذن ماذا؟ هل يُنكر الخلق الالهي؟ الجواب هو بالنفي. فالخلق عنده ليس من العدم، بل من مادة موجودة أصلاً. الخلق هو تغيير من شكل إلى آخر. وبلغته هو «إن كل فعلٍ يُفضي الى خلق شيءٍ انما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضي شيئاً لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق. وهذا الشيء هو المادة الاصلية التي صُنعت الكائنات منها». ولكن ما هي هذه المادة؟ هي شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه و لا غنى عنه. وبناءً عليه، يكون كل جسم ابدياً بسبب مادته، أي انه لا يتلاشى ابداً لأن مادته لا تتلاشى ابداً. وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة الى حيز الفعل لا بد له من هذا الانتقال والاّ حدث فراغ ووقوف في الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم بل لما حدث شيء قط.
لن استرسل أكثر في تفاصيل فلسفة ابن رشد. لكن ظاهر تماماً من الكلام أنّه لا ينكر فكرة الخلق، وانما مفهوم الخلق عنده اختلف. فالخلق هو تولّد الكائنات وخروجها بعضها من بعض والفاعل (الله) انما يقوم بتسهيل هذا الخروج والتوليد، أي أنّ الفاعل (الله) هو محرّك لتلك العملية.
أما كيف تكون السيطرة الالهية التي تحدثت عنها الاديان، أو ادارة الله للكون، فهي عنده على النحو التالي: الأمر يشبه حكومة المدينة (أي البلد). فكما أنّ كل شؤون المدينة تتفرق وتتجه الى نقطة واحدة وهي الحاكم العام فيها، فيكون هذا الحاكم مصدراً لكل شؤون الحكم، ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشؤون كذلك الخالق في الاكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات. وبناء على ذلك لا يكون لله علم بالجزئيات التي تحدث في العالم وانما يكون له علم بكلّياته أي إجمال الاشياء وانواعها لا مفرداتها.
وأما بشأن فكرة الخلود، فله كلام طويل نقتطف منه قوله إنّ «العناية الالهية منحت الحيّ الفاني المقدرة على التوالد لتخليد نوعه وتعزيته بهذا الخلود النوعيّ عن الفناء». كما تحدث عن «العقل الفاعل» وهو المصدر الذي يستمد منه العالم القوة والحركة، وهو الأبديّ الخالد، و«العقل المنفعل» وهو الذي في الانسان والذي يفنى معه. ويستخلص من كلامه أنّ الانسانية بعمومها هي الخالدة ولكن ليس الافراد. وهذا طبعاً يناقض الفكرة الدينية التي تقول بانبعاث الافراد وخلودهم في الحياة الآخرة حسب مبدأ الثواب والعقاب.
وهذا النوع من الكلام الفلسفي هو الذي أدى بخصومه الى اتهامه بإنكار مبدأ خلق الله للكون، وبالقول بقِدَم العالم وانكار انبعاث الانسان بعد الموت، وبالتالي الزندقة والالحاد.
وأختم هذا المقال بايراد التهمة التي وجهها ابن تيمية لابن رشد (ولابن سينا وللفلاسفة المسلمين عموماً) بأنهم يعتقدون أنّ الرسول محمد (وبقية الانبياء) خاطب الناسَ (العامة) على قدر عقولهم وحدّثهم بما يفهمون, فلجأ الى «التخييل»، أي أنّه خاطب الجمهور بما يخيّل إليه، مع علمه أن الحق في ذاته ليس كذلك. أي أنّ الرسل كذبوا من اجل المصلحة.


*كاتب و باحث من الاردن