لم يعرف الشاعر التركي ناظم حكمت أنّ الدفتر الذي كان يرسم عليه وجوهاً ويكتب شعراً وهو في المرحلة الابتدائية، سيصير دفتراً من حياة شعرية ونضالية لشاعر مهم. صارت تُعرف بلاده تركيا بأنّها بلاد ناظم حكمت. هو الذي ولد في سالونيك، مسقط رأس مصطفى كمال أتاتورك باني تركيا الحديثة، لتصبح هي مسقط رأس باني الشعر التركي الحديث. ألهمت حياته وكتبه وقصائده الكثير من الشعراء في تركيا والعالم، وكَتب عنه الكثير من أصدقائه والمقرّبين منه. في كتاب الشاعر اللبناني الزميل محمد نور الدين الصادر حديثاً عن «دار الفارابي» تحت عنوان «ناظم حكمت، من قمة الرأس حتى أخمص القدمين» ما يُثير الاهتمام والقراءة، ربما لأنه لا يهتم فقط بالمسارات الثلاثة التي ترتكز إليها حياة ناظم حكمت (السياسية والشخصية والأدبية)، بل إنّه يصحّح بعض الأخطاء التي وردت في كتب سابقة عن ناظم حكمت، ويجمع وثائق هامة من كتب أخرى ورسائل أصدقائه إليه.
علاقته الأهم كانت مع شاعر الثورة البلشفية فلاديمير ماياكوفسكي (بورتريه لناظم حكمت بريشة فيرسيل كوروسو/ زيت على كانفاس ــ 2009)

شكّل السجن محطةً شبه دائمة. في حياة شاعرنا. تنقّل بين السجن والمنفى، هو الشاعر الشيوعي الذي انحاز للفقراء والمهمّشين وأحلامهم، الذي ظل منتمياً بعقيدته إلى الحزب الشيوعي حتى بعدما فصلوه منه عام 1936. كان يرى الشيوعية نزعةً إنسانيةً يمكن أن تكون موجودة داخل كل إنسان، وظلّ صلباً في مواقفه السياسية. ومن أجل ذلك، أمضى حياته مناضلاً سياسيّاً، كان أكثر مَن عرف حياة السجون، فقد حُكم عليه بـ 61 عاماً، أمضى منها ثمانية عشر عاماً في السجن.
يُستهلّ الكتاب بسيرته هو عن نفسه على شكل قصيدة طويلة يبدؤها ناظم بأنه ولد عام 1902 ولم يعد إلى مسقط رأسه. فهو لا يحب العودة إلى الوراء وينهيها بأنه عاش كإنسان. يكتب بعدها محمد نور الدين سيرته ابتداء من مولده وتأثير محيط العائلة عليه، كخالته سارة، وجدّه الوالي ناظم. كان جده شاعراً أيضاً يتمنّى أن يكون ناظم شاعراً. خصّص له ولدراسته جزءاً من راتبه التقاعدي ليتعلم الفرنسية. تعلّم ناظم لمدة سنة في مدرسة ذات ثقافة فرنسية، وأنهى المرحلة الابتدائية مع صديقه والي نور الدين الذي سيصبح صديقه الأوفى يرافقه في سفره وحياته. انطلق ناظم شعرياً عام 1920، فبدأ ينشر في أكثر من مجلة واسمه يظهر إلى جانب أسماء مهمة مثل جناب شهاب الدين، وجلال ساهر، وحسين سيرات، ولاقت قصائده حفاوة كبيرة لدى النّقاد.
كان الشعر رفيقاً له في حياته التي أمضاها بين السجن والسفر والمنفى. عندما التقى صديقه سيفي كيبمان، كان ناظم ينوي الذهاب إلى أنقرة للمشاركة في حرب التحرير، وقد ترك قصيدة «الشباب» على الطاولة، يقول فيها: «اذهب اليوم وعلى الطرق المقفرة إبك». وفي بلاد لينين، حيث قرّر الأصدقاء الثلاثة، ناظم ووالا وضياء الذهاب عام 1921، كان عالماً جديداً ينتظر ناظم.
يقول: «أريد أن أرى الرفيق لينين وأسأله كيف قام بالثورة، ومن ثم أعود إلى بلادي لأقوم بالأمر نفسه». تسجّل ناظم في السنة التحضيرية للجامعة هناك، والتقى طلاباً من مختلف الجنسيات. لكن علاقته القوية المميزة والقوية مع شاعر الثورة البلشفية فلاديمير ماياكوفسكي كانت الأهم. فقد كان بيت ماياكوفسكي مفتوحاً، وكان ناظم يتردّد إليه دائماً ليلتقي بالشاعر الذي تأثّر به كثيراً. نظر ناظم إلى نفسه على أنّه مثل ماياكوفسكي، شاعر ينتمي إلى تيار المستقبلية. لكن ناظم اتجه إلى البنائية بعد ملاحظة أحد الأصدقاء، فسمّاه ماياكوفسكي «الشاعر المتلون».
وصف بيروت التي زارها بأنّها «مقرّ مثالي لكلّ انسان» وفيروز بـ «أجمل صوت في حياته»


لم يمنع ذلك ناظم من رسم طريقه الخاص، بعيداً عن المستقبليّة والبنائيّة. في موسكو، بدأ ثورته الشعرية، وبعدها بسنوات ستتبلور هويّته الشعرية أكثر، وينشر في عام 1929 الكتاب الأشهر في تاريخ الشعر التركي الحديث «835 سطراً» الذي جاء وقعه كالقنبلة. كان جديداً بشكله ومضمونه، محدثاً أصداء كبيرة جداً. عنوانه دلالة على أنّ الشعر الجديد مؤلّف من أسطر، لا من أبيات منظومة. هدم ناظم البنية القديمة للشعر، وأحسّ بمسؤولية أن يكون قدوة الشعراء الشبّان المقبلين. وفي عام 1930، أصبح من أهم شعراء تركيا وأشهرهم. في ذلك العام، كان رئيس الجمهورية مصطفى كمال قد بدأ ينشط خارج أنقرة. في إحدى السهرات، طلب أن يأتي ناظم ليسمع قصائده، لكن ناظم رفض. وفي نهاية نيسان (أبريل) 1931، فُتح تحقيق ضد ناظم على مجموعاته الأخيرة بتهمة تحريض الشعب وإثارة البلبلة. وقد دافع عن كونه شاعراً شيوعياً قائلاً: «نعم أنا شاعر شيوعي، وهذا مؤكّد وأعمل لأكون شيوعياً أصيلاً، وهذا ليس جرماً يعاقب عليه القانون».
كانت التحرّكات السياسيّة للحركة الشيوعية في تركيا محظورة في تلك الأعوام، تشمل النشاط الفكري والأدبي من شعر ورواية وترجمات ومقالات. نشاط كان يقوم به كتّاب أمثال ناظم حكمت، وزكريا سيريتل، والروائية سعاد درويش وكمال طاهر. كانت علاقة ناظم بالنساء أيضاً مثيرة للاهتمام، فقد كانت حياته تحتشد بالنساء، الزوجات والعاشقات. لكن أشهر ثلاث نساء، هم بيراية ومنور وفيرا. كانت بيراية متزوجة من قبل، تعرّفت إلى ناظم عن طريق شقيقته. كانت مثقفة جداً، وناظم يأخذ رأيها في شعره. وبفضل أشعار الحب التي كان يرسلها لها من سجنه، تحولت بيراية إلى أحد أهم رموز الأدب التركي.
طرد ناظم من الحزب الشيوعي، بعد خلاف مع قيادته حول العقلية الجامدة للحزب، فأصدر الحزب الشيوعي التركي بياناً بعنوان «بيان في مواجهة ناظم حكمت». بعدها، أمضى مرحلة صعبة بين عام 1938 و 1950 بين القضبان، في سجن بورصه، وسجن أنقره العسكري، وسجن تشانقيري. كان يرسل قصائده وهو في السجن إلى كمال طاهر وأمه جليلة وأحياناً إلى زوجته وحتى إلى بلدان أخرى، وكان يتم إخفاء بعضها في التراب وفي أماكن سرية، والمساجين يسمعون أشعاره.
بدأت قضية ناظم تظهر في الصحافة الغربية. ومن ذلك ما كتبته إلسا تروبوليه في مجلة «الرسائل الفرنسية» حول الشعراء الذين يستحقّون أن تكون حياتهم ملحمة ومنهم بوشكين، وبايرون، وفيكتور أوغو، وخريستو بوتيف، ونيرودا وناظم حكمت. وفي بلغاريا، أسّس طلاب في مدينة شومين جمعية باسم ناظم حكمت. لم تكن الطريق إلى الحرية سهلة، فقد قام ناظم بإضراب عن الطعام وكذلك أمه جليلة خانم التي تضامنت معه. المحطة الجميلة بعد الطريق إلى الحرية، وزيارة موسكو للمرة الثالثة والأخيرة، هي زيارته لبيروت.
لم تكن بيروت جديدة على ناظم، فهو كان يرغب بزيارتها في السجن. أخبر زميله في السجن اللبناني علي البرجاوي: «إن بيروت مقر مثالي لكل إنسان». في 1960 زار ناظم بيروت والمناسبة تكليفه من قبل قيادة مجلس السلم العالي تقليد المفكر اللبناني الشيوعي الدكتور جورج حنا ميدالية المجلس المعروفة باسم «ميدالية جوليو كوري». لم يستطع منظّمو الزيارة استصدار تأشيرة دخول لناظم بعد رفض الأمن ذلك، لكن بعض الأدباء تحدثوا إلى الشاعر سعيد عقل الذي ذهب برفقة الكاتب جورج شحادة إلى مدير المرفأ وطلبا منه دخول ناظم حكمت. أمضى ناظم مدة أسبوع في بيروت وزار بعلبك برفقة شاعر العامية ميشال طراد. وأقيمت سهرة فنية وفكرية في منزل فيروز والرحباني، فقال ناظم عن فيروز التي غنّت له بحب: «إنّ صوتها من أجمل الأصوات التي سمعتها في حياتي».
هي سيرة مهمة وحافلة بالأحداث والقصص، ودراسة شيّقة ليس فقط لمعرفة ناظم حكمت الإنسان والشاعر، بل أيضاً لتأمّل تلك العلاقة بين الشعر والنضال والحياة والمنفى وكيف تصبح الحياة بذاتها قصيدة ملهمة. ربما استطاع ناظم أن يقول في حياته أشياء لم يقلها في الشعر كما قال في قصيدة له لزوجته بيراية: «الكلمة الأجمل التي أريد أن أقولها لك/ هي الكلمة التي لم أقلها بعد».