في أوّل مبادرة لبنانية من نوعها منذ الثمانينيات، تنظّم «غاليري مارك هاشم» معرضاً جماعياً لـ 18 فناناً فلسطينياً بعنوان «جسر نحو فلسطين» في «مركز بيروت للمعارض». البطء وغياب التوثيق وتسليط الضوء سمات واضحة يعانيها المشهد التشكيلي في فلسطين، لكن غالبية التجارب التي نشاهدها في معارض خارجية تقدم فناً بسيطاً يسقط في المقاربات المباشرة، ويميل إلى شرح نفسه.
ما يدفعنا إلى أن نتساءل عن دور التلقي الفني، فهل ما نفعله هو عملية تلقين تاريخية للآخر؟ وهل تستطيع أيقونات تشير إلى الهوية وتلعب دورها التحريضي ضمن معركة المقاومة أن تكون فخاً محبباً تقع فيه العين من دون مهرب؟ الإجابات القاطعة تحمل مغالطات كثيرة، لكنّ «جسر نحو فلسطين» يقدّم صورة أكثر إشراقاً وتأثيراً لمشروع متعدد الأوجه والتحولات تقوده أسماء تنتمي إلى أجيال وطموحات فنية مختلفة. بين المشغولات اليدوية والرسم والتجهيز والتصوير الفوتوغرافي والفيديو آرت والديجيتال آرت، ثمة محاولة لإزاحة المعاني الجاهزة عن أماكنها، وخلق استعارات جديدة يمكن تقاسمها مع جمهور عريض.
يتعاطى ناصر السومي مع الصورة ذات المرجعيات الدامغة والمؤثرة في الذاكرة الجمعية. يعيد تأسيسها وفق منظور يمنحها دلالات رمزية جديدة. يقدم تجهيزاً من الخشب والمرايا، يجسم جملة محمود درويش «بيروت خيمتنا» في قصيدته «مديح الظل العالي». السومي المولع بالأصباغ الطبيعية يشتغل على تقنية التركيب في عمله «أيقونة ليافا» وهو عبارة عن مجموعة من الصناديق تحتوي على كتابات عُهدت إليه من السكان المغتربين من مدينة يافا الساحلية، أغراض ومناخات نفسية ورسائل وهمسات غامضة أودعها في صناديقه الثلاثين بالإضافة إلى شموع مضاءة وقوارير زجاجية مليئة بماء المدينة وقشور برتقال مُنسّق على خلفية إنديغو (صبغة طبيعية باللون الأزرق النيلي كانت من اختصاص أهل يافا). إعادة خلق مواجهة مع الأمكنة لإظهار الإقصاء والإلغاء والتحايل العلني على التاريخ عند ناصر السومي تقابله محاولة محمد مسلّم تحرير أعماله ولو بشكل جزئي من ذهنيتها المألوفة. النقل والدمج يخلقان لقاءات جديدة وحيوية تُطور فرادة «حصار الحصار»: فالصبيّة الفلسطينية تتزين بعقد من حبات الزيتون الخضراء بدل اللآلئ، والبرتقالة تخترقها آلة الحرب الفولاذية وكرتونة بيض الدجاج تمتلئ بالصبار الذي يجوهر المعنى. نقولا الصايغ كان أول من استخدم هذه النبتة كرمز للصبر والثبات وتأكيد الارتباط القوي بالأرض.

الصبيّة تتزين بعقد من حبات
الزيتون الخضراء في أعمال
محمد مسلّم


يدخل ستيف سابيلا بيوت
المهاجرين في بلدان الشتات مبتكراً شكلاً بصرياً للمنفى
أمام القدرة البشرية على إلغاء الآخر وتشريع قتله، لا نجد خلاصات قطعيّة في أعمال بشير مخول. سطح الصور يخضع للتغير والمحو المستمر، لكن القيمة الأكبر تكمن في تقليص تعبيرية ومقومات أعماله الفنية إلى أقصى درجاتها. عبر «جروح»، يتعقب مخول آثار القذائف الإسرائيلية على جدران بيروت. وتتفاعل ظلال الفجوات التي أحدثتها هذه القذائف مع حركة المتفرج أمامها بفعل الصور التي تنطوي على لعبة مرايا تقوم بعملية نفي وتفكيك لما تعتقد العين أنه ثابت ويقيني ونهائي. لا نستغرب القسوة في الأعمال، تلك المواضيع الجارفة والخطوط الفاصلة بين المُشتهَى والواقع البشع لكائنات على حافة الانهيار لم تأت من فراغ. تروما الحرب تظهر بكيفيات مختلفة في صور رانيا مطر لمخيمات لبنان. تفاصيل كثيرة تُطلّ عليها شخصيتها «الحنظلية» التي تؤرشف اللحظة بكل آلامها وجحيمها وتطلعاتها إلى شمس أخرى تنهي عتمة الأمس. بالألوان نفسها، يرسم تيسير بركات النزوح وأزمنة النكبات، وتنحاز كاميرا رلى حلواني لتأويلات النور والظل في وجوه الناس ووقفاتهم التي تنبئ عن عزلة وهشاشة وعدم يقين.كأنها إعادة تركيب مستمر لحيوات ضائعة في نهاية المطاف، بأمانة فجة أحياناً تهدف إلى تأكيد المعنى وترك تأثيرات قوية لدى المتلقي لكنها تقود العمل الفني إلى مقولات تقليدية ونمطية.
أما حين نتحدث عن ستيف سابيلا ابن القدس، فإننا بالضرورة نتحدث عن مزاج متطور لا نجد له مرجعيات محلية بالمعنى الحرفي. الجانب البحثي في ما يقدمه من فن يفوق المادة العاطفية الموظّفة فيه. هنا بوسع سلسلته الفوتوغرافية أن تجمع المستوى البصري والمفهومي، وتصور حياة المهاجرين وبيوتهم في بلدان الاغتراب بهدف ابتكار شكل بصري للمنفى الذي لم يعد فعلاً جسدياً خالصاً، بل حالة ذهنية. ودائماً في إعادة قراءة لوجع وطني من خلال توليفات بصرية، تعود الكوفية في أعمال منذر جوابرة إلى حقل الرموز التي لا تزال تحتمل تأويلات جديدة كما تقدمها ليلى الشوا بألوان البوب آرت، بالإضافة إلى تجهيز لبندقية AK 47 مشغولة بريش وفراشات ملونة وكريستال «شوارفسكي» بعنوان «حيث تسكن الأرواح».
لا نغفل ما يتضمنه مشروع سلسلة «غيرنيكا غزة» لمحمد الحواجري من جنوح حقيقي لتمرير ما يمكن اعتباره متعة للناظر. يدمج بين لوحات لفنانين عالميين وصور فوتوغرافية من الواقع الفلسطيني. هكذا نجد عاشقي شاغال المحلّقين فوق مدينة «فيتبسك» في سماء القدس المشطورة بالجدار العازل، وتتحول ساحة الباستيل في لوحة دولاكروا الشهيرة «الحرية تقود الشعب» إلى إحدى ساحات المجازر الفلسطينية.
التحريف يحرّض المتلقي على قبول اقتراحات جمالية غير مألوفة. الجوكندا الملثمة تتصدّر تظاهرة شعبية، وجنود الاحتلال المدججون بالأسلحة في طريقهم للهجوم على الفلاحَين النائمين في لوحة «القيلولة» لميليت، بينما تُوصل خطوط كهرباء وفوانيس إضاءة تبرعاً من أهالي غزة إلى أهالي «غيرنيكا» إثر قصفها، ما يضعنا في حيرة حيال استبطان مصائر هذه المخلوقات التائهة بين الفكاهة والعسف.
لن نجد صعوبة في تلمس الهواجس التي تتفق عليها غالبية الأعمال على رغم الاختلاف في الأدوات التعبيرية. ربما غرق كثير من التجارب في الكيتش والتعبيرات السياسية، لكنها في المحصّلة استطاعت أن تقدم خصوصية فضاء مشحون، شائك وملتبس بكل ما فيه من أمنيات وخيبات. تلك القسوة المضمرة والعلنية، هي تجسيد للضريبة التي يدفعها الفلسطيني كي يستحق وطناً.