غطّت أبحاث حليم بركات مجموعةً واسعة من الموضوعات حول المجتمع والثقافة والدولة العربية. من خلال أكثر من 20 كتاباً والعديد من المقالات، قدّم نظرةً ثاقبة للقضايا الاجتماعية والسياسية الرئيسية مثل الاغتراب، وأزمة المجتمع المدني والهوية والحرية والعدالة في العالم العربي.في عام 1993، أصدر كتابه «العالم العربي: المجتمع والثقافة والدولة» (مطبعة جامعة كاليفورنيا) الذي كان ذا هدف طموح وشامل هو: تحليل الحالة المعاصرة المتدهورة للأمة العربية. وصف النهج الذي اقترحه لتحليل المجتمع العربي بأنه ديناميكي (يعامل المجتمع على أنه متغير وليس ثابتاً)، وديالكتيكي (يؤكد التناقضات الاجتماعية والصراع الطبقي)، ونقدي (يهدف إلى تغيير الوضع الراهن).
قسّم بركات تحليله إلى ثلاثة أقسام: الهوية العربية وقضايا التنوع والاندماج، والهياكل والمؤسسات الاجتماعية (أي الأسرة، والطبقات الاجتماعية، والدين، والسياسة العربية)، وديناميات الثقافة العربية. في تشخيصه لأمراض العالم العربي، هاجم الخطاب الاستشراقي لمُتخيله الثابت وغير الصحيح عن العالم العربي. إذ لا يعترف معظم المستشرقين بوجود العالم العربي، بل يتحدثون بالأحرى عن «شرق أوسط» يحتوي على مجموعة مذهلة من الجماعات الدينية والعرقية واللغوية. يصفون الجزء العربي من هذه المنطقة بأنه منقسم بشكل ميؤوس منه، دينياً وثقافياً، وعاجز عن التحديث. يشير بركات إلى أن المستشرقين يناقضون أنفسهم عندما يتحدثون عن طبيعة المجتمع العربي المنقسمة ووجود «عقل أو عقلية عربية». علاوة على ذلك، تشرح أغلبية «الدراسات» الاستشراقية مقاومة التغيير بين العرب من منظور المواقف الثقافية، متجاهلةً بذلك العلاقة السائدة بين التبعية والنصوص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهذه المقاومة. مثل هذه التأكيدات «تكشف العداء تجاه العرب (وخاصة تجاه المسلمين) الذي يكمن وراء العديد من الادعاءات العلمية».
رأى بركات أن الأجندة الكامنة وراء هذه الدراسات الاستشراقية هو تبرير وجود إسرائيل والحفاظ على الوضع الراهن في ظلّ الهيمنة الصهيونية والغربية. وبينما انتقد بشدّة هوس المستشرقين بالركود والانقسام في العالم العربي، لم يُغفل التناقضات الداخلية للمجتمع العربي الذي ينجذب باستمرار بين قطبين متعارضين: الماضي مقابل المستقبل، الشرق مقابل الغرب، التقليد مقابل الحداثة، مقدس مقابل علماني، والعرق مقابل التضامن الطبقي، والوحدة مقابل التجزئة، وما إلى ذلك. أدرك بركات العقبات الرئيسية التي تجعل المجتمع العربي شبه مختلّ وظيفياً وهي: التشرذم، التبعية، التخلف، التفاوتات، الاستبداد، والاغتراب.
وما ميّز تحليل بركات عن تحليل المستشرقين هو التركيز على الجودة الديناميكية للمجتمع العربي التي تتضمن احتمال النجاح أو الفشل، بينما قضى المستشرقون بشكل منهجي على أي احتمال للتحسين لصالح خدمة القوى الموجودة. لذا رسم بركات ثلاثة اتجاهات محتملة لمستقبل العالم العربي: استمرار التبعية والانحلال الحاليين، أو رؤية دينية «تقليدية»، أو الرؤية «التقدمية».
تضمّن مشروع بركات التقدمي للمجتمع العربي خمسة عناصر، يجب تبنيها كلّها أو رفضها في حزمة واحدة: العلمانية، والديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، والحرية الفردية، والوحدة مع التنوع. هذه العناصر فقط، من وجهة نظر بركات، ستزود المجتمع القومي العربي ببرنامج «تقدمي وواقعي» يمكن استخدامه لتعزيز إنشاء أمة عربية موحدة وديموقراطية ومتساوية وعلمانية.
ولتقديم حجة قوية لرؤيته، قارن بركات مشروعه هذا بما سمّاه الرؤية الدينية التقليدية. لم ينخدع بالادعاءات الإصلاحية والرؤية العالمية لمجموعات الإسلام السياسي، بل اعتبرها مجرد تكرار تقليدي مُعدّل للأفكار الإسلامية الأولى التي دائماً ما كانت تُخفي الكثير من التشدد والراديكالية. لذا انتقد بركات الرؤية الدينية على أنها «إطار مرجعي مطلق وتكرار لعصور وسطى، بدون برنامج واضح لحلّ المشكلات المعقدة». إن رفض بركات للخيار الإسلاموي كان نقطة مُضيئة في مشروعه الذي يمكن اعتباره تنبُئياً لما سيحدث خلال أحداث ما سُمي بالربيع العربي وسيطرة الإسلامويين على الحُكم وفشلهم السريع وما ارتكبوه من عُنف وإرهاب ضد الشعوب العربية.
ساعد الفكر الماركسي الذي تأثّر به بركات في بناء مفهوم صارم لوظائف التدين.
في تنبّئية فريدة، رأى بركات أنّ الإسلاموية ليست بديلة عن الأنظمة العربية الرجعية (بالنظر إلى أنّ الكتاب صدر عام 1993)، بل هي سلاح للنظام الحاكم ضد القوى القومية والعلمانية. كما اعتقد أنّ الإسلاميين متعاونون مع الأنظمة التقليدية والسلطوية ضد اليسار، مؤكداً أن «اليسار العربي» مستبعد ومهمّش ومحروم ومضطهد.
لم يغفل بركات أنّ الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والحرية والعلمانية هي المبادئ التوجيهية للحركات القومية، بما في ذلك البعثية والناصرية وغيرهما في اليسار العربي. والفرق الوحيد هو أنّ «تحرير فلسطين» قد تم إسقاطه واستبداله بـ «الديموقراطية». عندما استولى بعض هذه الجماعات على السلطة، لم يقمع الجماهير باسم الوحدة والمساواة وتحرير فلسطين فحسب، بل فشل أيضاً في تحقيق أي من هذه الأهداف. هكذا أصبحت هذه العبارات تدريجاً بلا معنى. لهذا، كان بركات ناقداً لهذه الحركات، مؤكداً على ضرورة المساواة والعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، مُعتبراً أن الأنظمة القومية العربية مسؤولة إلى حد كبير عن تدمير المجتمع المدني في العالم العربي.

راهنيّة أفكاره
في حقبة ما بعد الربيع العربي، تمزّق العالم العربي، ما جعل ضرورياً العودة إلى دراسة نقاط الهوية المتعددة التي أثارها حليم بركات، من الأسرة والقبيلة والدولة إلى الدين واللغة والتأثير الخارجي في العلاقات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية بين الشعوب والدول.
قد يبدو تصوّر هوية عربية تشمل كلاً من الوحدة والتعددية مثيراً للانقسام بطبيعته. ومع ذلك، فإنه فقط من خلال فحص جوانب الهوية المتشابهة والمتباينة على حد سواء، يمكن للمرء أن يتصور بشكل صحيح الطبيعة الحقيقية للهوية العربية. وهذا ما أقدم عليه حليم بركات مُعتمداً على الثقافة المشتركة وكذلك الاختلافات، وعلى مكان مشترك في التاريخ وعلى الخبرة المشتركة، وعلى الصراعات والمواجهات الكامنة في هذه التجارب. شملت هذه الهويات المحددة الانتماءات اللغوية والدينية والإقليمية والقبلية والعرقية.
منذ نشأت الهوية القومية العربية، كان يُنظر إليها على أنها تستند في المقام الأول إلى اللغة. وبالنسبة إلى العديد من العرب، تتجاوز اللغة العرق أو الدين أو القبيلة أو المنطقة. لذلك، يمكن اعتبار اللغة العامل الموحِّد بين العرب تقريباً. ونظراً إلى أن اللغة العربية تتجاوز أيضاً حدود الدول، تساعد اللغة العربية في خلق شعور بالقومية العربية. وبخلاف الباحث العراقي ساطع الحصري، الذي رأى أن الأشخاص الذين يتكلمون لغة واحدة يجب أن يكون لديهم قلب واحد وروح واحدة، لذلك يجب أن يكونوا أمة واحدة وبالتالي دولة واحدة، اعتبر حليم بركات أن للهوية العربية طبيعةً دياليكتيكية حيث تختلف اللهجات من منطقة إلى أخرى، وهناك اختلافات شاسعة بين النسخ المكتوبة والمنطوقة، والعديد من البلدان تستضيف مواطنين ثنائيي اللغة، بل إنّ العديد من العرب أميون.
ونظراً إلى أن غالبية العرب مسلمون، غالباً ما يُنظر إلى الهويتين (العربي والإسلامي) على أنهما لا تنفصلان. ومع ذلك، كان هناك تياران متباينان داخل العروبة - أحدهما ديني والآخر علماني - عبر التاريخ العربي. بعد انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية في القرن العشرين، برزت القومية العربية على رأس الوحدة الدينية. استمر هذان التياران في التنافس ضد بعضهما حتى يومنا هذا. اليوم، تقدم الأصولية الدينية بديلاً للقومية العلمانية. توجد أيضاً طوائف دينية مختلفة داخل الإسلام وغالباً ما يتم تقديرها على الدين ككلّ، ما يؤدي إلى الفتنة الطائفية والصراع. في الواقع، قد تكون المسافات الاجتماعية-النفسية بين المسلمين السنة والشيعة أكبر من المسافة المتصوّرة بين الأديان المختلفة. ويمكن أيضاً إدراك الهوية العربية من خلال عدسة الهوية المحلية أو الإقليمية. عبر التاريخ العربي، كانت هناك ثلاثة توجهات قومية رئيسية في العالم العربي. القومية العربية ترفض الدول ذات السيادة القائمة باعتبارها إبداعات مصطنعة وتدعو إلى الوحدة العربية الكاملة. ويعترف التوجه القومي الإقليمي بوجود اختلافات واضحة في الهوية بين المغرب العربي وبلاد الشام ودول الخليج. ويتصرف كل منها وفقاً لمصالحه الإقليمية الخاصة وينظر إلى نفسه على أنه أقرب إلى جيرانه المباشرين منه إلى العرب في «المناطق» الأخرى. والثالث هو التوجه القومي المحلي الذي يصر على الحفاظ على استقلال وسيادة الدول القائمة.
كما توجد صراعات بين القبلية والقومية، حيث تشكل الأسرة الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي في المجتمع العربي التقليدي ولا تزال تمارس تأثيراً قوياً على تكوين الهوية. بالإضافة إلى ذلك، يتم التأكيد على الولاءات القبلية في دول الخليج والسودان والمغرب العربي. حاولت الأسرة السعودية تجميع فسيفساء من القبائل في دولة قومية. وعلى الرغم من أن الحكومة الحاكمة منقسمة إلى بيروقراطية الدولة والعائلة المالكة، فإن غالبية ولاء المواطنين يذهب للأخيرة، وليس للأولى. أما العرق، فهو عامل آخر حاسم في الهوية العربية، يمكن تعريفه بمصطلحات ثقافية ولغوية وكذلك من حيث النسب من أسلاف مشتركة بعيدة. خلال الاستعمار الأوروبي، حاول المستعمرون مفاقمة الخلافات بين البربر والعرب لإبقاء الناس منقسمين. هذا سهّل إقامة حكم استعماري أكثر سلطويّة. ويعرّف الأكراد أنفسهم أيضاً بلغة وثقافة. بناءً على تميزهم العرقي، كانوا يقاتلون من أجل حكم ذاتي لكردستان مستقلة تضم أجزاء من تركيا والعراق وإيران. وبهذه الطريقة، فإن الاختلافات العرقية المفروضة والمتصوّرة تهدّد البناء الشامل للهوية العربية. أيضاً، تسهم الفوارق بين العرب الأغنياء والعرب الفقراء في التفتت الاجتماعي والسياسي، وهذا موجود بين شعوب الدول العربية الفردية، وكذلك بين الدول العربية الغنية والفقيرة، أي بين الدول المنتجة للنفط وغير المنتجة للنفط. ويمكن أن تؤدي النزاعات الخارجية أيضاً إلى مزيد من التشرذم بين الدول العربية. كما إن إنشاء دول مصطنعة في العالم العربي، نتيجة وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو، جعل من الصعب على الدول العربية أن تتوحد في مواجهة الصراع الخارجي، وأخيراً يعمل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كقوة موحدة ومُسبّبة للانقسام. يدعم جميع العرب تقريباً حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، مع ذلك، فإن الفصائل المختلفة في العالم العربي تفضل المفاوضات وحلّ الدولتين، أو الكفاح المسلح والهجمات ضد الإسرائيليين. هذا الانقسام يُستغل من قبل الأنظمة القمعية والحركات الشعبوية والقوى الرجعية والتقدمية والمعسكرات المعتدلة والرافضة.
وأخيراً رأى حليم أنّه نادراً ما تتميز الثقافة بالتوحيد الكامل. على العكس، فإن ديناميكيتها تعكس التنوع والتعددية والتناقضات. لم تكن هناك حاجة لتأكيد هذه الحقيقة لولا تحريف الواقع من قبل كل من المستشرقين الغربيين والعلماء العرب التقليديين. مال المستشرقون الغربيون إلى التأكيد على الطبيعة «الثابتة» بدلاً من الطبيعة «المتغيرة» للثقافة العربية. وبالمثل، مال العلماء العرب التقليديون إلى التأكيد على القيم التقليدية بدلاً من التركيز على ثقافة عربية معاصرة ومتطورة.
لذا يجب أن تأخذ خصوصية الهوية الثقافية العربية في الاعتبار، فهي تقدم واقعاً إنسانياً شديد التعقيد يشمل اللغة والدين والانتماء الإقليمي والولاءات القبلية والعرقية والقوى الخارجية. كل هذه العوامل تتغير وتتطور باستمرار. فقط من خلال فحص جميع الفروق الدقيقة في الثقافة والمجتمع العربي، يمكن تشكيل صورة للهوية العربية في العالم الحديث.
حياة حليم بركات كانت مشروعاً لقراءة حياة العالم العربي من خلال فسيفساء الأصوات والروايات المجمعة.