كان غسان كنفاني (1936-1972) الابن الثالث لوالده المحامي الذي التحق بمعهد الحقوق في القدس وتخرّج محامياً برع في مرافعاته في القضايا الوطنية، وخصوصاً أثناء ثورات فلسطين واعتقل مراراً بإيعاز من الوكالة اليهودية بعد انتقال الأسرة للعمل والعيش في يافا. التحق اليافع غسان بمدرسة «الفرير» الفرنسية المرموقة في يافا. إلا أن دراسته الابتدائية فيها لم تستمر سوى بضع سنين، إذ إن أسرته كانت تعيش في حي المنشية الملاصق لتلّ الربيع في يافا التي ستتحول في ما بعد إلى تل أبيب. وسيشهد محيط السكن والدراسة أولى المناوشات بين العرب واليهود على إثر قرار تقسيم فلسطين، ما اضطر الأسرة إلى العودة أدراجها إلى عكّا حتى نيسان (أبريل) 1948، حين سقطت المدينة بيد العصابات اليهودية بينما أصداء مجازر كفرقاسم ودير ياسين والطنطورية تتردد بقوة في صفوف شعب كامل حملته النكبة على النزوح والتشرّد. غادر صاحب «رجال في الشمس» إلى لبنان حيث أقام لفترة قصيرة في بلدة الغازية الجنوبية قرب صيدا، ومنها بالقطار إلى دمشق، حيث بدأت أمارات النبوغ تبدو على ملامح الفتى، فبرز تفوقه أثناء دراسته الثانوية في الرسم والموسيقى، كما عمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف، وأحياناً في التحرير، ناهيك بمشاركات في برنامج «فلسطين» على أثير الإذاعة السورية. عمل بعد انتهاء الدراسة في التدريس في مدرسة «الأليانس» التي غدت محجّة لطلّاب أسر اللاجئين الفلسطينيين، ثم التحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي وأوكلت إليه في حينها مهمة تنظيم جناح فلسطين في «معرض دمشق الدولي للكتاب»، قبل أن يفصل منها لأسباب سياسية. سافر غسان من بعدها إلى الكويت حيث مكث ستّ سنوات كانت كافية لصقل شخصية الأديب الصلب قراءةً وكتابةً، ليكتب باكورة قصصه «القميص المسروق» وينال عليها جائزة تقديرية في مسابقة أدبية. تشكّل الوعي السياسي باكراً لدى صاحب «أم سعد»، إذ سحرته شخصية جورج حبش الذي التقى به للمرة الأولى عام 1953، لينتسب إلى «حركة القوميين العرب» التي كان حبش أحد مؤسسيها، ويُطلب منه عام 1960 مغادرة الكويت إلى بيروت للعمل في جريدة «الحرية». ثم شرع في كتابة مقال أسبوعي لجريدة «المحرر» البيروتية. انتسب كنفاني إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وهي الفرع الفلسطيني لـ «حركة القوميين» العرب عام 1967، وتولّى تحرير صحيفة «الهدف» من عام 1969 حتى استشهاده عام 1972 بعملية للكوماندوس الإسرائيلي في بيروت، مع ابنة شقيقته الصغيرة لميس. الحالم بعودة فلسطين كاملة من دون نقصان، ورث عن والدته مرض السكري. كما أنّ نمط حياته المنذورة بالكامل للقضية والكتابة على مختلف أنواعها بين الرواية والقصص القصيرة والمسرحيات والدراسات المقارنة أدّت إلى إصابته بمرض النقرس الذي يفتك بالمفاصل ويسبب لصاحبه آلاماً مبرحة، إضافة إلى قصور حاد في عمل الكلى والأجهزة الدموية. تعرّف غسان إلى زوجته آني في مؤتمر طلابي عقد في يوغسلافيا عام 1961، لتتطور علاقة الحب مع الصبية الدنماركية المتحمّسة للقضية الفلسطينية إلى زواج رزقا فيه بولدين: فايز وليلى. الكاتب الذي كان يرى في فلسطين رمزاً كاملاً للإنسانية، وكان رائداً في تأسيس عمل ثقافي جدّي يكون بمثابة رافعة للعمل السياسي، كرّس نفسه بحق كمؤسس للأدب الفلسطيني المقاوم بعد النكبة، كما وضع الأدب الفلسطيني في مصافّ الأدب العالمي، إذ قورنت روايته «ما تبقى لكم» برواية «الصخب والعنف» لفولكنر، وتحول أدبه إلى منارة لكل الحالمين بـ«أرض البرتقال الحزين»، وانتشال فلسطين من بكائيات اللجوء والتفجع على الوطن المفقود وبعثها باحثة عن التحرير والكرامة. حين سقط غسّان مضرّجاً بدمه، رثاه الشاعر محمود درويش، الذي أكمل لوحة فلسطين الأدبية في جناحها الشعري بكلمات تشير إلى المدى الذي سيبلغه أدب كنفاني وقدرته الريادية على فتح أفق المواجهة الحضارية مع العدو: «لن نلتقي به بعد. لن نسمع مزيداً من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية. ولكنه يقتحمنا دائماً بقوة كلماته التي لا تموت. كم كتب الفلسطينيون وماتوا! لكن حبرهم كان يجفّ مع دمهم. كتاباته قد تكون هي النادرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها. وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من غسان كنفاني».

* المراجع: «غسان كنفاني، القائد والمفكّر السياسي» ـــ بسام أبو شريف (دار رياض الريس للكتب والنشر، 2015)