«أعمى. فكّر الأديب اليافع: نحن عميان. ثم جلس ليؤلّف «العمى» وليذكّر القارئ المحتمل بأننا نشوّه العقل حين نُهين الحياة، وبأنّ أصحاب السلطة في العالم يهينون يومياً الكرامة الإنسانية، وبأن الكذبة الكونية أخذت مكان الحقائق المتعدّدة، وبأن الإنسان توقّف عن احترام نفسه عندما فقد احترامه لأشباهه من المخلوقات»: إنها كلمات جوزيه ساراماغو (1922-2010) الأديب البرتغالي في خطبته العصماء عند استلامه جائزة «نوبل» للأدب عام 1998. رسالة قرّع فيها «الرجل الأبيض» على كلّ موبقاته في استغلال نظرائه من البشر واحتلال أرضهم وقتلهم بكل ما توافر له ذلك الغول من وسائل، من الحروب «المقدسة» إلى التكنولوجيا الذكية والصواريخ الموجهة. اليساري الذي لا يلين انضم عام 1969 إلى الحزب الشيوعي البرتغالي المحظور، وتنقّل في وظائف ميكانيكية عدة قبل أن ينتقل إلى الصحافة ثم الترجمة. سيذيع صيته عام 1982 حين صدرت روايته «الإله الأكتع»، لتكرّ من بعدها سبحة أعماله التي جعلته علامة فارقة ليس في الأدب الإيبيري فحسب، بل في الرواية العالمية، بما في ذلك «سنة موت ريكاردو رييس» (1984) و«قصة حصار لشبونة» (1989) و«الإنجيل يرويه المسيح» (1992) وأشهر أعماله «العمى» (1995) وغيرها. من التزامه الشيوعي والإنساني، كانت لفلسطين محبة خاصة في قلب ساراماغو، كقضية عدالة لم توفّر إسرائيل جهداً في إطفاء وهجها واستقطاب الكثير من رموز اليسار الأوروبي وكتّابه ومنظّريه إلى جانبها، إضافة إلى أسماء كبيرة في الرواية أغرتها بجائزة «القدس» ككونديرا وبورخيس وكاداريه وأوكتافيو باث ومن حذا حذوهم. إلا أنّ صاحب «كل الأسماء» ظلّ وفياً لآخر قضية كولونيالية في هذا القرن، فزار الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات في مقرّه في رام الله قبيل حصارها من الجزار أرييل شارون عام 2002 وهدم مخيّم جنين بالجرافات، مع مجموعة من الفائزين بجائزة «نوبل». مشاهداته هناك دفعته إلى كتابة نص «من أحجار داوود إلى دبابات جُليات» الذي كان بمثابة الصفعة للدعاية الصهيونية ومزاعم التفوق الأخلاقي لجيش المحتلين والمستوطنين. نشر النصّ في حينها في جريدة «الباييس» الأسبانية، وها نحن نُعيد نشره في «كلمات» في وجه من يهين الحياة وكرامة الإنسان كل يوم.
تؤكّد بعض السلطات الدينية المعنية بالشؤون الإنجيلية أنّ سفر صموئيل الأول كُتب في عهد سليمان أو بعده مباشرة، أي قبل السبي البابليّ الشهير، بينما يؤكّد فريق آخر من الباريسيين الذين ليسوا أقل كفاية أنّ سفر صموئيل الأول والثاني أيضاً كُتبا بعد النفي إلى بابل، وإن البناء التاريخي والسياسي والديني للنصين يخضع لطريقة تقسيم الأحداث نفسها في سفر التثنية، من حيث التتابع والتسلسل: تحالف الله مع شعبه، خيانة هذا الشعب، عقاب الله، توسّلاتهم ثم أخيراً عفو الله عنهم.
إذا كان النص المبجّل ينتمي إلى عهد سليمان، فيمكننا القول إنه مرّ عليه قرابة ثلاثة آلاف عام. وإذا كان من قاموا بتحرير هذا النص فرغوا منه بعد عودة اليهود من المنفى، فعلينا أن نُنقص خمسمائة عام تقريباً من الثلاثة آلاف عام. إن هذا الاهتمام الشديد بتحرّي الدقة في تحديد التاريخ والزمن هدفه الأوحد هو لفت نظر القارئ إلى أنّ الحكاية الدينية الشهيرة التي تُحكى عن المعركة بين الراعي داوود والعملاق الفلسطيني جُليات- التي انتهت قبل أن تبدأ- تروى للأطفال في شكل خاطئ من خمسة وعشرين أو ثلاثين قرناً على الأقل. على مرّ العصور، أخذت الأجزاء المهمة في القصة، تتطور بما يتوافق مع الرؤية غير التحليلية لأكثر من مئة جيل من المؤمنين/ المستعمرين من اليهود والمسيحيين، ويا للتزييف المضلّل عن التباين القاسي بين حجم العملاق جُليات الذي يصل طوله إلى أربعة أمتار والتركيبة الجسدية الهزيلة لداوود الأشقر الضعيف. لكن هذا التباين المفزع يتم تعويضه، بل الإفادة منه لمصلحة داوود الإسرائيلي، لأنه فتى ذكي، بينما جُليات مجرد كتلة غبية من اللحم.
كان الفتى ذكياً فعلاً حين أخذ معه، قبل ذهابه لمواجهة الفلسطيني، خمس قطع من الحجارة الملساء، وجدها على ضفة نهر صغير قريب، فوضعها في الخرج الذي يحمله. أما الآخر فكان شديد الغباء إلى درجة أنه لم يدرك أن داوود أتى مسلحاً بمسدس. بالطبع سيستاء عشاق الحقائق العظيمة، ويجيبون مستنكرين بأنه لم يكن مسدساً، وإنما مقلاعاً بسيطاً متواضعاً كالمقاليع التي كان يستخدمها خدام أبراهام لرعي القطيع في الزمان المنصرم.
إذا كان الإسرائيلي تمكّن من قتل الفلسطيني وصنع النصر لجيش «الله الحي» وجيش صموئيل، فإن هذا لم يتمّ لأنه أكثر فطنة وذكاء، وإنما لأنه كان يحمل معه سلاحاً بعيد المدى، وكان يعلم كيف يستخدمه. إن الحقيقة التاريخية البسيطة البعيدة من الخيال، تخبرنا أن جُليات لم يكن لديه الفرصة حتى ليضع يديه على داوود. أما الحقيقة الأسطورية الشهيرة، صانعة الأوهام، فتخدعنا منذ ثلاثين قرناً بهذه الرواية المبهرة التي تحكي انتصار الراعي الصغير على وحشية المحارب العملاق الذي لم يحمه في النهاية البرونز الثقيل المصنوع منه درعه وخوذته. وأياً كانت العبرة التي نستطيع أن نخلص إليها من هذه القصة المسلسلة، فإن داوود في معاركه الكثيرة التالية التي جعلت منه ملكاً على يهود أورشليم، بل جعلت قوته تمتد إلى الضفة اليمنى من الفرات، لم يعد أبداً لاستخدام الخرج أو الحجارة. في السنوات الخمسين الأخرى، نمت قوات داوود إلى درجة أنه أصبح من الصعب التمييز بينه وبين العملاق الشامخ جُليات، بل نستطيع أن نجزم، من دون أن نسيء للوضوح المدهش للأحداث، أنّ داوود تحوّل إلى جليات جديد ولكن جليات لا يسير محملاً بأسلحة مصنوعة من البرونز الثقيل ولا نفع لها.
إن داوود الزمان القديم ذلك يحلّق الآن في طائرات الهليكوبتر فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويطلق الصواريخ على الأبرياء العزل، وداوود العصر المنصرم ذاك يقود أحدث دبابات العالم وأقواها، ويسحق ويفجر كل ما يعترض طريقه. داوود الملحمي ذاك، أعيد تجسيده الآن، في صورة مجرم حرب يُدعى آرييل شارون يطلق في وجوهنا بكل تبجّح رسالة «شعرية» دقيقة، مفادها أنه يجب القضاء على الفلسطينيين أولاً، ثم التفاوض مع من يبقى منهم ثانياً!
إن هذه الفكرة تلخص تماماً الإستراتيجية السياسية لإسرائيل من عام 1948 مع بعض التغييرات التكتيكية فقط في بعض الأحيان.
لقد تسمّمت عقولهم بتلك الفكرة التبشيرية عن إسرائيل العظمى، فتحوّل حلم التوسع في نشر الصهيونية المتطرفة إلى حقيقة. وهم ملوثون بهذا «اليقين» المفزع المتأصل فيهم، الذي يجعلهم يرون أنه في هذا العالم المفجع العبثي يوجد شعب مختار من الله. ولذا بالتالي فإن كل أفعال هذا الشعب مبررة ومسموح بها أوتوماتيكياً باسم أهوال الماضي ومخاوف اليوم، تلك الأفعال يحكمها في المقام الأول هاجس العنصرية والتعصب. فقد تربّى هذا الشعب وتشكّل على فكرة أن أي معاناة سببها أبناؤه أو يسببونها للآخرين، وتحديداً الفلسطينيين فإنها ستكون دائماً أقل كثيراً مما عانوه هم أنفسهم في الهولوكوست.
واليهود لا يكفّون عن نبش جرحهم بأنفسهم كي لا يتوقف عن النزيف، وكي يجعلوه غير قابل للشفاء أبداً، ويظلون يطلعون العالم عليه كما لو كان علماً لدولتهم.
نصّب الإسرائيليون أنفسهم ملاكاً لكلمات الرب القاسية في سفر التثنية: «لي الانتقام والعقاب». إسرائيل تريد أن تُشعرنا جميعاً بالذنب تجاه الأهوال التي رآها اليهود في الهولوكوست. إسرائيل تريدنا أن نرفض الاحتكام إلى أدنى مستوى من المنطق والعقل إزاء أفعالها، وأن نتحوّل كلّنا إلى تابع مطيع، سلس القيادة يخضع تماماً إلى إرادتها. إسرائيل تريدنا أن نصدق بالقبول على كل جرائمها التي أصبحت بالنسبة إليها أمراً واقعاً واجب النفاذ. إنها تريد الحصانة المطلقة.
ولا يمكن أبداً من وجهة نظر اليهود أن تخضع أفعال إسرائيل للعقل، لأنّ أبناءها عُذّبوا، ووضعوا في غرف الغاز، وحُرقوا في معسكر اعتقال أوشفيتز.
وإنني أتساءل لو أن اليهود الذين فقدوا حياتهم في مراكز التعذيب النازية تلك، وهؤلاء الذين ظلوا مطاردين على مرّ عصور التاريخ، والذين انغلقوا على أنفسهم في أحياء «الغيتو» الفقيرة، ترى لو أن هذه الجموع الهائلة من البائسين رأت الأفعال الدامية التي يأتي بها أحفادها الآن، ألن يشعروا بالخزي والعار؟ أوليست المعاناة الشديدة هي دائماً أقوى دافع كي لا نتسبب في معاناة الآخرين؟
انتقلت حجارة داوود إلى أيادٍ أخرى. فالفلسطينيون هم الذين يلقونها الآن. وأصبح جُليات في الجانب الآخر، كما أصبح مسلحاً مجهزاً أفضل من أفضل الجنود في تاريخ الحروب أجمع. هذا بالطبع إلى جانب مساندة الصديق الأميركي الوفي. ثم يتحدثون عن جرائم القتل الرهيبة للمدنيين اليهود! الجرائم التي يقوم بها من يسمّونهم «الإرهابين الانتحارين» وهي جرائم رهيبة من دون شك، ومدانة من دون شك، لكن من المؤكد أنّ إسرائيل ما زال لديها الكثير لتتعلمه إذا كانت غير قادرة على فهم الأسباب التي تحمل كائناً بشرياً على أن يحول نفسه إلى قنبلة.

النص من ترجمة سهير عصفور أستاذة الأدب الإسباني في «جامعة حلوان» (مصر). نشرت الترجمة حينها في جريدة «الحياة» اللندنية، كما نشرت نسخة مترجمة منه في مجلة «الكرمل»، وفي كتاب يحمل اسم «المفكرة» عن «دار دال» السورية، بترجمة عدنان محمد