ما أشبه اليوم بالبارحة! لم يتغيّر شيء من جوهر الحركة الصهيونية في تغذّيها على ثلاث طرائق لاستدامة كيانها: الأبارتهايد، الترانسفير والإبادة. هي الأشكال الكولونياليّة الثلاثة التي خضعت لها غزة، أكثر من غيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، حيناً على التوالي وأحياناً بالتزامن، مع ثابتٍ أساسي: دعم الولايات المتحدة الأميركية الدائم بالسلاح والمال والتغطية السياسية، في الإيغال بدماء الفلسطينيين عامة، والغزاويّين خاصة. النصوص التاريخية أدناه محاولة لفهم مَقْتَلَةِ اليوم عبر مَقْتَلَاتِ الماضي، للخروج بخلاصة مفادها أنَّ لا شيء تغيّر في المشروع الغربي الدائم لإبادة هنود المشرق العربي: الفلسطينيون، من أجل تأبيد خضوع هذا المشرق للقوى الاستعمارية الغربية بدعم من باقي وكلائها في هذه المنطقة التي ستبقى ملتهبةً إلى أن تقرّر كل شعوبها مصيرها بيدها، على رأسها الشعب الفلسطيني.تنقسم النصوص التاريخية التي انتقيناها إلى فئتين: نصان لمؤرخَيْنِ فلسطينيين، ونصّان لمؤرخ إشكالي هو إيلان بابيه (انسلخ عن «إسرائيليته»، ليعرّف بنفسه كباحث غربي) صار نصيراً للفلسطينيين وحقوقهم التاريخية، ومفكر أميركي هو نعوم تشومسكي انتقل من البحث اللساني إلى تفكيك خطابَي البروباغاندا الأميركي والصهيوني حول نشر الحرية والديموقراطية عبر التدخلات العسكرية الجائرة وتغطيتها الإعلامية الملفَّقة والزائفة. نختتم الملف بأحدث مقالة لإيلان بابيه في شكل رسالة وجّهها يوم العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى بني جلدته سابقاً

1. عبد القادر ياسين:
انطلاقة الحركة الوطنية في القرن العشرين

حين خرجت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الوجود، كان بين أعضاء لجنتها التنفيذية الأولى ثلاثة أعضاء من قطاع غزة، هم: حيدر عبد الشافي وقُصي العبادلة وفاروق الحسيني، من 14عضواً هم مجموع أعضاء اللجنة، فضلاً عن رئيسها. في الدورة الثانية للمجلس الوطني (القاهرة، 1965)، حلَّ جمال الصوراني، وحده، من بين أبناء القطاع في تنفيذية المنظمة، وفي الدورة الثالثة للمجلس (غزة، 1966)، استمر الصوراني، وأُضيف إليه مجدي أبو رمضان غداة النكسة.
دعت المنظّمة إلى عقد المؤتمر الأول للاتحاد العام لعمال فلسطين في مدينة غزة، وعُقد فعلاً بين 14 و17/4/1965، بينما عُقد في مدينة القدس، أول مؤتمر للمرأة الفلسطينية (15-20/7/1965). في السياق نفسه عُقد في مدينة غزة، المؤتمر الأول للأدباء والكتّاب الفلسطينيين (29/11-3/12/1966). شهدت الأسابيع القليلة التالية لبدء المنظّمة عملها، صراعاً محتدماً بين فرع حركة القوميين العرب في القطاع والشيوعي، فقد استفز ذاك الفرع وصول اليساري حيدر عبد الشافي إلى موقعه ذاك، ووصل الصراع إلى ذروته خلال الاحتفال بعيد النصر (23/12/1964) وخمد، موقتاً، قبل أن يستعر من جديد لمناسبة انتخابات قيادة التنظيم الشعبي لمنظمة التحرير، وفيها رشَّح القوميون العرب أحد كوادرهم (يونس الجرو) في مقابل حيدر عبد الشافي، لقيادة التنظيم في مدينة غزة، ففاز الأول، بعدما كان القيادي البارز في حركة القوميين العرب، وديع حداد، قد حضر، خصّيصاً من بيروت لهذا الغرض.

خالد حوراني ـ «تسلّق الجدار 2» (أكريليك على كانفاس ـــ 121 × 102 سنتم ــ 2022)

وأبلغ عبد الشافي بأن القوميين سيمنحونه أصواتهم، لكن حداد لم يفِ بوعده وغدر بعبد الشافي. وفي الجولة الأخيرة لاختيار رأس التنظيم في قطاع غزة، فاز عبد الشافي على مرشح القوميين، محمد شعبان أيوب. وانزعج الشقيري من نجاح عبد الشافي، فأصدر الأول فرماناً، قضى بإخضاع كل فرع التنظيم لمدير مكتب المنظمة في القُطر المعني. وهكذا، تلقّى التنظيم الشعبي كله الضربة القاضية.‬ في هذه الأثناء، شنَّت أجهزة الأمن المصرية حملتَيْ اعتقال، لأيام، ضد المشتبه بانتمائهم إلى حركة «فتح»، كانت آخرها، بعد يوميْن من الاعتداء الإسرائيلي على قرية السموع في الضفة الغربية (13/12/1966). ‬وبعد، فقد كان منطقياً أن تُولد فكرة العمل الفدائي الفلسطيني المعاصر في قطاع غزة، وفي أوساط الإخوان بالذات؛ التي لم تطاولها حملة الاعتقالات التي طاولت الجماعة في مصر (خريف 1954) بعد اتهامها بمحاولة اغتيال عبد الناصر. تحوَّلت الجماعة في قطاع غزة إلى العمل السري، وإن غادرها جميع أعضاء القيادة الإخوانية، بل إنّ رأس تلك القيادة، الشيخ عمر صوَّان، استنكر أعمال الإخوان في مصر، فأبقته الحكومة المصرية على رأس بلدية مدينة غزة، مكافأةً له. وقد تحوَّل الإخوان إلى العمل السري، وما عاد يهمّهم إحراج النظام الناصري، وقد خبر أعضاء من الجماعة أهمية العمل السياسي الائتلافي، في روابط الطلاب الفلسطينيين عموماً، وفي رابطة القاهرة، على نحوٍ خاص، الأمر الذي تعزَّز في تجربة جبهة المقاومة الشعبية، بعدما كانت الضربات الموجعة التي كالتها «الكتيبة 141 فدائيون» لإسرائيل، قد أكدت لجميع الفلسطينيين إمكان إيلام إسرائيل وهزِّ مشروعها الاستعماري.‬ لقد وجد هذا التحرك الجديد كله تعبيراً أدبياً عنه، وخصوصاً في الشعر الذي نظمه معين بسيسو، وهارون هاشم رشيد، وكمال ناصر وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) وفدوى طوقان وغيرهم، ممّن وصفوا آلام اللاجئين وآمالهم في العودة.‬
(عبد القادر ياسين: «الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2022).

2. رشيد الخالدي:
في سياق العدوان الثلاثي

اقتَرَح بن غوريون في آذار (مارس) 1955 القيامَ بهجوم واسع على مصر واحتلال قطاع غزة، إلا أنّ الوزارة الإسرائيلية رفَضَتْ هذا الاقتراح، ثم رضَخَتْ في تشرين الأول (أكتوبر) 1956 بعدما حَلَّ بن غوريون مَحَلَّ شاريت كرئيس للوزراء وربحتْ شعاراتُهُ ومشاريعُهُ. انتقلَتْ سياساتُ بن غوريون العدوانية إلى أتباعِهِ من أمثال موشيه ديان، واسحق رابين، وآرييل شارون وسيطَرت على أسلوب تعامل الحكومة الإسرائيلية مع جيرانها منذ ذلك الحِين.
‏قامَت إسرائيل بالتحضير لهجومِ 1956 عبر سلسلةٍ من العمليات العسكرية ضد الجيش المصري ومواقع الشرطة في قطاع غزة.‏ تصاعَدتْ إلى هَجماتٍ قُتِلَ فيها 39 جندياً مصرياً في رَفَح في شباط (فبراير) 1955، كما قُتِل 72 في خان يونس بَعدها بستة أشهر. قُتِلَ مزيدٌ من الجنود في هجمات متتالية، إضافة إلى كثير من المَدَنيين الفلسطينيين. اضطرتْ مصر بعد انكشاف ضَعف جيشِها للتّخلي عن عدم انحيازها وحاوَلَت شراءَ أسلحةٍ من بريطانيا أولاً، ثم من الولايات المتحدة. عندما فشلَتْ تلك الجهود، وافقَتْ مصر في أيلول (سبتمبر) 1955 على صفقةٍ كبيرة لشراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا، حليفة الاتحاد السوفياتي. كما أَمَرَت الحكومة مخابراتها العسكرية بأن تساعِدَ المقاتلين الفلسطينيين الذين كانت تَمنَعهم قَبل ذلك من شَنِّ عمليات ضد إسرائيل، بدافعٍ من عدم قُدرَتِها على الردّ على هجماتِ إسرائيل وبسبب حَرَجِها أمام الرأي العام المصري والعربي. لم يتأخّر الردّ على هذه التطورات الجديدة، وكان الردّ مدمِّراً. وهكذا، فإنّ هجمات دامية قليلة شَنَّتْها جماعاتٌ فلسطينية مقاتِلة في بداية الخمسينيات ضِدَّ رغبة أغلب الحكومات العربية دفَعَتْ إسرائيل في النهاية إلى شَنِّ حرب السويس في تشرين الأول 1956 ولم تَقُم إسرائيل بذلك الهجوم لوحدها، وكان لشركائها أسبابهم الخاصة للهجوم على مصر.‏ ‏غَضِبَ المستعمرون التقليديون الذين كانوا في مواقع المسؤولية في بريطانيا وفرنسا بسبب تأميم مصر لشركة قناة السويس الفرنسية-البريطانية. تمّ تأميمُ القناة ردّاً على إلغاء وزير خارجية أميركا لخطّة قَرضٍ من البنك الدولي من أجل بِناء سَدِّ أسوان. كما أنّ فرنسا سَعَتْ إلى إنهاء دَعم مصر لثوار الجزائر الذين كانوا يَتَدَرَّبون عسكرياً ويَجعلون من القاهرة منصَّتهم السياسية والإعلامية. كذلك ثار غَضَب حكومة أنتوني إيدن‏ المحافِظَة في لندن بسبب طَلَبِ النظام الجديد في مصر أن تُنهي بريطانيا وجودَها العسكري هناك الذي استمر 72 سنة. كما استاءَ البريطانيون من دَعم مصر لأعمال القوميين ضد بريطانيا في العراق والخليج وعَدَن وأجزاء أخرى من الوطن العربي. دفَعَتْ هذه التحديات تلك الدولَتَين للانضمام إلى إسرائيل في غَزوٍ شاملٍ لمصر في تشرين الأول 1956.
‏(رشيد الخالدي: «حرب المائة عام على فلسطين، قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017»، ترجمة: عامر شيخوني، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2021.)

‏3. نعوم تشومسكي:
«أبيدوا جميع البهائم»

‏شنّ الأميركيون-الإسرائيليون يوم السبت 27 كانون الأول (ديسمبر) 2008 آخر هجوم لهم على الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم. استغرق التخطيط للهجوم، بحسب الصحافة الإسرائيلية، أكثر من ستة أشهر. واشتمل التخطيط على عنصرين: الجيش والدعاية. وارتكز إلى الدروس التي تعلّمتها إسرائيل من اجتياح لبنان عام 2006 الذي اعتُبر سيّئ التخطيط والدعاية. ويمكننا الوثوق، إلى حدّ كبير، بأن ما عُمل وقيل كان مقصوداً وسبق التخطيط له. ‏يتضمّن ذلك بالتأكيد توقيت الهجوم: قُبَيْل الظهر عند عودة التلاميذ من المدارس في الوقت الذي تدور فيه الحشود في شوارع مدينة غزة ذات الكثافة السكانية العالية. لم يستغرق الأمر أكثر من بضع دقائق لقتل ما يزيد على مئتي شخص وجرح سبعمئة، في افتتاح مبشّر للمذبحة الجماعية في حق المدنيين العزّل العالقين في قفص صغير، ولا مكان لهم يهربون إليه. ‏استهدف الهجوم بنوعٍ خاص احتفال التخريج في كلية الشرطة وقتل عشرات من رجالها. وسبق للقسم القانوني في الجيش الإسرائيلي أن انتقد الخطط لأشهر، لكنه عاد ووافق عليها بضغطٍ من مديره المقدّم بنينا شارفيت-باروخ. وأفادت«هآرتس» أنه أيضاً تحت تأثير الضغط، أجاز شارفيت-باروخ والقسم القانوني بمهاجمة المباني الحكومية التابعة لـ «حماس» والتخفيف من قواعد الاشتباك، ما أدى إلى سقوط عددٍ كبيرٍ من الإصابات في صفوف الفلسطينيين. وتابعت المقالة إنّ قسم القانون الدولي يتبنّى مواقف متساهلة ليحافظ على حضوره وتأثيره. والتحق شارفيت-باروخ بعد ذلك بكلية الحقوق في جامعة تل أبيب على الرغم من اعتراضات مدير مركز حقوق الإنسان فيها وغيره من هيئة التعليم.‏ ‏ولاحظ أستاذ الحقوق في الجامعة العبرية يوفال شاني أن قرار القسم القانوني استند إلى تصنيف الجيش للشرطة بأنها تشكل قوة مقاومة في حال التوغّل الإسرائيلي في قطاع غزة، مضيفاً أنّ المبدأ يفرّقهم بشق النفس عن جنود الاحتياط الإسرائيليين أو حتى عمن بلغوا السادسة عشرة وسيتم تجنيدهم بعد سنتين، وبالتالي اعتبار معظم سكان إسرائيل أهدافاً مشروعة للإرهاب. وفي قياس آخر، تبرّر قواعد الجيش الإسرائيلي للاشتباك الهجوم الإرهابي في آذار (مارس) 2009 على متخرجي الشرطة في لاهور الذي أدى إلى مقتل ثمانية منهم ووُصف عن حق بالهجوم البربري؛ غير أنه أمكن لقوات النخبة الباكستانية، في هذه الحالة، قتل الإرهابيين أو اعتقالهم، وهو خيار غير متوفّر للغزاويّين. وتضفي شخصية كبيرة في قسم القانون الدولي مزيداً من الشرح على النطاق الضيّق لمفهوم الجيش الإسرائيلي في حماية المدنيين: لا يجب احتساب الأناس الذين يدخلون إلى منزل ما، على الرغم من التحذير، ضمن الإصابات اللاحقة بالمدنيين لأنهم اختاروا أن يكونوا دروعاً بشرية. وليس عليّ، من وجهة النظر القانونية، أخذهم في الحسبان. أما بالنسبة إلى الأناس الذي يعودون إلى منزلهم لحمايته فيُعتبرون مشاركين في القتال.‏ بعد مرور أسبوعين على الهجوم الذي بدأ في يوم السبت، وقد دُكّ معظم غزة وتحوّل إلى ركام وقارب عدد الوفيات الألف، أعلنت وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، التي يعتمد معظم الغزاويين عليها للبقاء، أن الجيش الإسرائيلي رفض السماح بدخول شحنات الإعانة إلى غزة، متذرّعاً بأن المعابر مقفلة يوم السبت. وهكذا مُنع الطعام والدواء عن الفلسطينيين وهم على حافة الموت بسبب تكريم اليوم المقدّس، فيما أمكن في يوم السبت ذبح المئات بواسطة الطائرات القاذفة والمروحيات الأميركية.‏
‏لم يسترعِ التقيّد المزدوج بيوم السبت سوى القليل من الانتباه، وهذا منطقي. ففي سجل أحداث الولايات المتحدة-إسرائيل الجرمية لا تستأهل هذه الوحشية والاستخفاف أكثر من مجرّد حاشية، وهذا مألوف للغاية. واستشهاداً بمقارنة ذات صلة، افتُتح اجتياح حزيران (يونيو) 1982 الإسرائيلي المدعوم أميركياً للبنان بقصف مخيّمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين اللذين سيشتهران لاحقاً بوصفهما مسرح المجازر الرهيبة التي أشرف عليها الجيش الإسرائيلي. أصاب القصف المستشفى المحلي – مستشفى غزة – وقُتل أكثر من مئتي شخص بحسب روايات لشهود العيان أوردها أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط. وشكّلت المجزرة الفصل الأول في اجتياح أدى إلى ذبح نحو 15 ألفاً إلى 20 ألف شخص، ودُمّر الكثير من جنوب لبنان وبيروت، ونُفذ بدعم أميركي عسكري ودبلوماسي حاسم. وتضمن ذلك ممارسة حق النقض لقرارات في مجلس الأمن تسعى إلى وقف العدوان الإجرامي الذي بوشر به بشكلٍ لا يُخفى للدفاع عن إسرائيل من تهديد التسوية السياسية السلمية. وهو ما يتناقض مع التلفيقات المغرضة عن معاناة الإسرائيليين من وابل القصف بالصواريخ، وهي من إبداع منتحلي المبرّرات.‏
(نورمان فنكلستين: «غزة، بحث في استشهادها»، ترجمة: أيمن ح. حدَّاد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020).

4. نعوم تشومسكي وإيلان بابيه:
التلفيق والمراوغة

وجدت إسرائيل ومؤيدوها أنفسهم في مأزق من جراء صور الفظائع التي توالت من غزة وطفحت بها التغطية الإعلامية الدولية، لذا سعوا إلى ترميم السمعة الملطخة للدولة اليهودية. وبعد فترة وجيزة من انتهاء عملية الرصاص المصبوب في 18 كانون الثاني (يناير) 2009، نشر أنتوني كوردزمان تقريراً بعنوان: «حرب غزة، تحليل إستراتيجي». وبما أن كوردزمان محلل عسكري ذو تأثير، وأنّ تقريره يتضمن ملخصاً دقيقاً للتبريرات المرتجلة التي عكفت إسرائيل على نشرها بصفة منهجية مع تزايد الانتقادات للاجتياح، فإنّ هذا التقرير يتطلّب معاينة دقيقة. يبرّئ كوردزمان في تقريره إسرائيل من أي إثم، ويستنتج بجلاء أنها لم تنتهك قوانين الحرب، إلا أنه يضيف تنبيهاً أساسياً بأنه ليس معنياً بإصدار حكم قانوني أو أخلاقي بشأن سلوك إسرائيل، وأنه ينبغي للمحلّلين غير المتمرّسين في القوانين المعقّدة للحرب، ألا يصدروا مثل هذه الأحكام. بيد أنّ حكم البراءة القاطع الذي أصدره، وهذا التنبيه الحذر، لم ينسجما بسهولة في تقريره. فقد أكد أن لا قوانين الحرب ولا السوابق التاريخية تمنع استخدام إسرائيل لمقادير هائلة من القوة، وفي الوقت نفسه امتنع عن الخوض في إصدار حكم قانوني أو أخلاقي بشأن مسألة التناسبية. ومن حيث الجوهر، ذهب كوردزمان إلى تبرئة إسرائيل تماماً من أي ذنب جنائي في الوقت الذي تمسك فيه بمذهب اللاأدرية. كما زعم أنه غالباً ما يكون تطبيق قوانين الحرب صعباً أو مستحيلاً. وإذا كان هذا صحيحاً، فمن أين أتى استنتاجه بأن إسرائيل لم تنتهك قوانين الحرب؟ كما زعم أن قوانين الحرب متحيّزة ضد إسرائيل لأنها لا تُلزم أو تقيّد الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل «حماس». ومن الناحية العملية، لم يبدُ واضحاً أن قوانين الحرب ألزمت إسرائيل أو قيّدتها. في مقابل ذلك، وفقاً لبروفيسور القانون في جامعة هارفرد، دونكان كينيدي، فإنّ قوانين الحرب في الواقع تحابي القوات التقليدية على حساب القوات غير التقليدية في الحروب غير النظامية. لقد كان التحليل الذي عرضه كوردزمان متحيّزاً تماماً لمصلحة الملخصات الإخبارية التي أصدرتها إسرائيل.. وقد تيسِّر له الاطلاع عليها بفضل زيارة رعاها مشروع إنترتشينج، وباستخدام تقارير يومية صادرة عن الناطق باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية. أما كان ينبغي له أن يذكر أن مشروع إنترتشينج مرتبط باللجنة الأميركية اليهودية التي لا تألو جهداً في التبرير لإسرائيل؟ وظل كوردزمان على امتداد جولته يضع ثقته العمياء في تصريحات السلطات الإسرائيلية. وعلى النقيض من ذلك، بات المعلّقون الإسرائيليون الذين يحظون بالاحترام شكّاكين بمصادر الحكومة الإسرائيلية. فقد علّق عوزي بنزيمان في صحيفة «هآرتس» أن سلطات الدولة، بما في ذلك مؤسسة الدفاع وفروعها، اكتسبت سمعة سيئة في ما يتعلق بصدقيتها. وكتب ب. مايكل في صحيفة «يديعوت أحرونوت» أنّ البيانات الرسمية التي أصدرها جيش الدفاع الإسرائيلي ما انفكت تحرّر نفسها تدريجاً من أغلال الحقيقة، وأن صميم هيكل السلطة – أي الشرطة والجيش والاستخبارات – بات موبوءاً بثقافة الكذب. وقد ثبت الكذب الإسرائيلي مراراً بخصوص مسائل عدة أثناء عملية الرصاص المصبوب، بما في ذلك استخدامها للفوسفور الأبيض. بينما كان الاجتياح جارياً، أفاد الناطق باسم جيش الدفاع الإسرائيلي لقناة «سي. أن. أن»: بوسعي أن أقول لكم وبكل تأكيد إن الفوسفور الأبيض لا يُستخدم بتاتاً، في حين قال رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، غابي أشكينازي، للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي: الجيش الإسرائيلي يتصرف فقط وفقاً لما يسمح به القانون الدولي ولا يستخدم الفوسفور الأبيض. حتى بعدما وثقت منظمات حقوق إنسان عديدة بالبرهان القاطع الاستخدام الإسرائيلي غير القانوني للفوسفور الأبيض، أصرّ تحقيق عسكري إسرائيلي على هذه التلفيقات. وتأمّل محلل سابق في وزارة الدفاع الأميركية يعمل محللاً عسكرياً مع منظمة «هيومان رايتس ووتش» في سلسلة الأكاذيب الإسرائيلية أثناء حرب لبنان في عام 2006 وأثناء عملية الرصاص المصبوب قائلاً: كيف يمكن لأي شخص أن يصدق الجيش الإسرائيلي؟

(نعوم تشومسكي وإيلان بابيه: «غزة في أزمة، تأملات في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين»، من دون ذكر اسم مترجم النسخة العربية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2012).


إيلان بابيه: لهذا أنا مع الفلسطينيين
أصدقائي الإسرائيليين، ليس سهلاً علينا الإمساك ببوصلتنا الأخلاقية في كل الحالات، لكنها إذا كانت تشير شمالاً - لجهة إنهاء الاستعمار والتحرر - فمن المرجح أن تكون دليلنا في خضم هذا الدفق الهائل من البروباغندا الضبابية السامة. كما أنه ليس سهلاً الحفاظ على البوصلة الأخلاقية عندما يتموضع المجتمع الذي ننتمي إليه - بقادته ووسائل إعلامه على حد سواء - في حيز أخلاقي رفيع؛ ويتوقع منا مشاركتهم غضبهم الذي عبروا عنه في سياق ما حصل صباح يوم السبت السابع من أكتوبر. هناك طريقة واحدة فقط لمقاومة إغراء الانضواء تحت لواء هذا الغضب، بمعنى الوصول إلى فهمٍ واضح للطابع الاستعماري الاستيطاني للحركة الصهيونية والشعور بالهلع من سياساتها التي تمارسها ضد السكان الأصليين في فلسطين، في مرحلة ما من حياتك - حتى بصفتك مواطناً يهودياً في إسرائيل.
فإذا كنت تملك مثل هذا الإدراك، فلن تتردد إذن في مقاومة الإغراءات سالفة الذكر، ولو كانت الرسائل السامة ستصور لك الفلسطينيين كحيوانات، أو «حيوانات بشرية». هؤلاء الأشخاص أنفسهم، أصحاب تلك الرسائل، يصرون على وصف أحداث السبت الماضي بأنه «هولوكوست» بإساءة واضحة لاستخدام ذكرى مأساة عظيمة. ومثل هذه المشاعر والرسائل والعبارات تنقلها وسائل الإعلام والسياسيون الإسرائيليون ليل نهار. وفي الحقيقة، هذه البوصلة الأخلاقية هي التي دفعتني، ودفعت غيري في مجتمعنا، للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني بجميع الطرق المتاحة. وهذا ما يسمح لنا، في ذات الوقت، الإعجاب بشجاعة المقاتلين الفلسطينيين الذين استولوا على 12 قاعدة عسكرية، وتغلبهم على أقوى جيش في الشرق الأوسط. كما أنه لا يمنع أشخاصاً مثلي من إثارة تساؤلات عديدة حول القيمة الأخلاقية أو الاستراتيجية لبعض الإجراءات التي رافقت هذه العملية.
ولأننا عملنا، على الدوام، على إنهاء الحالة الاستعمارية في فلسطين، فقد كنا نعلم، أيضاً، أنه كلما طال أمد القمع الإسرائيلي، قلّ احتمال أن يكون النضال التحرري «عقيماً» كما كانت حال كل نضال عادل من أجل التحرير في الماضي، في أي بقعة من هذا العالم. وهذا لا يعني عدم رؤيتنا المشهد على اتساعه، ولا حتى لدقيقة واحدة. فهو يعبر عن صورة شعب مستعمَر يقاتل من أجل البقاء، في الوقت الذي انتخب فيه مضطهدوه حكومة، مصممة على تسريع وتيرة الدمار، والقضاء، في الواقع، على الشعب الفلسطيني أو حتى إنهاء كفاحه للاعتراف به كشعب وكيان. وهذا ما دفع «حماس» للتحرك وبسرعة. من الصعب التعبير عن هذه السجالات المضادة؛ لأن وسائل الإعلام والسياسيين الغربيين ساروا خلف الخطاب والرواية الإسرائيليين، على الرغم من طبيعتهما الإشكالية. وتساورني شكوك عن إدراك من قرروا تزيين مبنى البرلمان في لندن وبرج إيفل في باريس بألوان العلم الإسرائيلي، كيف تم استقبال هذه البادرة، التي تبدو رمزية، في إسرائيل. وحتى الصهاينة الليبراليين يمكنهم، ولو بقدر من اللباقة، قراءة هذا العمل وهذه الإيماءة، كتبرئة كاملة لجميع الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948؛ وما تمثّله هذه الإشارة، بالتالي، كتفويضٍ مطلق لمواصلة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل الآن ضد سكان غزة.
لحسن الحظ، كانت هناك أيضاً ردود فعل مختلفة على الأحداث التي تكشّفت في الأيام القليلة الماضية. وكما كانت عليه الحال في الماضي، فإن قطاعات كبيرة من المجتمعات المدنية في الغرب لم تنخدع بهذا النفاق بتلك السهولة التي كان عليها الأمر فعلاً في حالة أوكرانيا. يعرف الكثير من الناس أنه منذ حزيران (يونيو) 1967، تعرض نحو مليون مواطن فلسطيني للسجن من دون محاكمة؛ ولو لمرة واحدة في حياتهم على الأقل؛ تعرّضوا فيها للعديد من الانتهاكات والتعذيب والحجز الدائم. يعرف هؤلاء الناس أيضاً الواقع المروّع الذي خلقته إسرائيل في قطاع غزة عندما أغلقت المنطقة، وفرضت عليها حصاراً محكماً، ابتداءً من عام 2007، ومواصلتها المستمرة في قتل الأطفال في الضفة الغربية المحتلة. وهذا ليس جديداً على الحركة الصهيونية على أيّ حال، إذ دائماً ما كان العنف أحد الوجوه الثابتة للصهيونية منذ قيام إسرائيل في عام 1948. فيا أصدقائي الإسرائيليين الأعزاء، وبسبب قطاعات المجتمع المدني هذه بالذات، سوف يثبت في نهاية المطاف خطأ حكومتكم ووسائل إعلامكم، لأنهم لن يكونوا قادرين على اللعب أو المطالبة بلعب دور الضحية دائماً، والحصول على الدعم غير المشروط، والإفلات من العقاب على جرائمهم في الوقت عينه. وسوف تظهر، عاجلاً أم آجلاً، الصورة الكبيرة، رغم الطابع المتحيّز لوسائل الإعلام الغربية. لكن السؤال الكبير هنا: هل ستتمكّنون من رؤية الصورة الكبيرة ذاتها - التي نراها نحن - بوضوح أيضاً؟ رغم السنوات الطويلة من التلقين والهندسة الاجتماعية؟ وليس أقل أهمية من ذلك، هل أنتم قادرون على تعلّم الدرس المهم الآخر، وهو درس يمكن استخلاصه من الأحداث الأخيرة، أي، كيف لا يمكن للقوة المطلقة وحدها خلق توازنٍ بين نظام عادل من ناحية؛ وتأسيس مشروع سياسي غير أخلاقي من ناحية أخرى؟
لكن هناك بديل. في الواقع على الدوام، كان هناك بديل متاح: أن تكون فلسطين متحررة وديموقراطية من النهر إلى البحر. فلسطين التي ترحّب بعودة اللاجئين وتبنِّي مجتمعٍ لا يميز بين أفراده على أساس الثقافة أو الدين أو الإثنية. سوف تعمل هذه الدولة الجديدة على تصحيح شرور الماضي قدر ما يمكنها، من حيث عدم المساواة الاقتصادية وسرقة الممتلكات والحرمان من الحقوق، بما يبشر بفجر شرق أوسط جديد. وهذا يدفعنا للعودة إلى ما ابتدأ به حوارنا؛ ليس سهلاً دائماً التمسك ببوصلتنا الأخلاقية، لكنها إذا كانت تشير شمالاً - إلى جهة إنهاء الاستعمار والتحرر - فمن المرجح أن تكون دليلنا عبر دفق هذه الدعاية الضبابية السامة والسياسات المنافقة واللاإنسانية، التي غالباً ما ترتكب باسم «قيمنا الغربية المشتركة».

المصدر: مقالة إيلان بابيه «أصدقائي الإسرائيليين: لهذا السبب أدعم الفلسطينيين» .palestinechronicle.com ــــ 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ـــ ترجمة محمود الصباغ
إيلان بابيه أستاذ في «جامعة إكستر» يوصف بأنه أحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين سعوا إلى كتابة تاريخ تأسيس «إسرائيل»، منذ إصدار وثائق الحكومة البريطانية والإسرائيلية ذات الصلة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. من مؤلفاته: «التطهير العرقي في فلسطين»، و«الشرق الأوسط الحديث»، و«تاريخ فلسطين الحديثة: أرض واحدة، وشعبان»، و«عشر أساطير عن إسرائيل».