ترجمة: محمد ناصر الدينيحلّ الزمن الذي يمكن فيه للإنسانية مشاهدة إبادة شعب وهي تقف مكتوفة الأيدي بين ظهرانينا مرة أخرى. إنّ الإبادة تحدث بلا قيود باستثناء المقاومة. مقاومة تجعل بالتأكيد آلية التفسير تعمل لتُسائل هذه الإبادة ولكنها لا توقفها. لا كلمات وافية تصف تجربة الإبادة والموت النازل بالفلسطينيين اليوم، والسبب في عدم كفاية الكلمات أنّ المفاهيم تُعاني حالة أزمة عامة: كسؤال بدئي، ما هي مفاهيم الحياة والموت؟ أكثر الاشتغالات تعقيداً مع هذين المفهومين هو التفسير الجدلي الذي يمتنع في نهاية المطاف عن تحديد أيّ منهما كمعرفة مستنتَجة: لا يمكننا أن نعرف ماهية الحياة والموت، لكن يمكننا تأمّل صراعهما المفتوح، حيث لا فكاك بتاتاً من تصوّر أحدهما دون الآخر.
وفقاً لجورج كانغيلام، الذي حارب الفاشية ودعم النضال الجزائري ضد الاستعمار، فإنّ «الحياة تُعاش في صمت الأعضاء». حريّ بحيويته العقلانية أن تقضّ مضاجع الجدليّين، فالحياة هي نشاط الاستيعاب، تقنية للعيش، حيث تعتبر الباثولوجيا والسقم والمرض بمثابة دعوة لمراجعة الحياة والمعنى. وفقاً لهذا التفسير المميز للحيوية: الحياة هي نشاط معياري بقدر ما يُنتج المعيار عبر التوغل في المعياري. ماذا يعني حقاً أن نكون على قيد الحياة؟ يُطرح هذا السؤال على وجه التحديد عندما تعلّق شروط المعيشة، ونصبح واعين بالحياة، ليس عبر آنية غير وسيطة فحسب، ولكن عبر خطأ، ونقص، وحدّ مفروض على العيش.

هاني زغرب ــ «دروس في الطيران 7» (مواد مختلفة على كانفاس ـــ 200 × 160 سنتم ـــ 2010)

لا يمكن التفكير في الحياة إلا عندما تغدو موضوعاً يجب إدراكه: ليست الحياة موضوعاً إلا إذا اعترفنا بأنها مشروطة بقدرة الذات على التعرّف إلى القيود المفروضة على الحياة. حافظ كانغيلام على هذا الخط من التفكير ضد الفاشية، وكان هو نفسه منخرطاً في المقاومة ضد حكومة فيشي. بعبارة أخرى، الفاشية ليست الأيديولوجية الوحيدة التي تتبنّى ما يعنيه أن تكون حياً، أن تكون إنساناً. علاوة على ذلك، فإنّ كونك إنساناً ليس أمراً مسلّماً به، ففي هذه النسخة من الحيوية العقلانية التي أناقشها هنا، كونك على قيد الحياة أو العيش هو أسلوب للعيش، وهو نوع من البراكسيس النظري.
لا يمكن التعارض بين البراكسيس والنظرية بالنسبة إلى الذات البشرية، فهي واحدٌ من أكثر المآزق التي لا مفرّ منها والتي ينخرط فيها الوعي الإنساني. ممارسة التحليل النفسي برمتها هي حاشية على هذه الإشكالية: إن ساحة معركة الجدلية موجودة هنا. هل يتمّ حلّ الحياة والموت عبر تركيب منفصل؟ هل مفهومهما متّجه دائماً إلى الأزمة؟ وهكذا... تطرح مقاومة الناس في غزة اليوم سؤالاً جدياً على كل هذه المآزق: الأطفال الذين وُلدوا وترعرعوا في سجن مفتوح طوال العقدين الماضيين، وهم يعانقون جثث إخوتهم أو آبائهم، هو أبلغ درس في معنى أن تكون إنساناً.
إنهم يتحدثون عن مفهوم الحياة ذاته: التحديق في عين دافع الموت (هنا على شكل الإبادة الجماعية والإفناء الكامل الذي تنفذه الدولة الصهيونية) مع التمسك بالكلمات، ومواساة الموتى خشية أن يتخلّوا عن قضية العيش. ثمة عنصر في المشاهد التي تطلّ علينا من غزة، لم نره من قبل في التاريخ الحديث، على الأقل ليس على الشاكلة ذاتها.
في الواقع، أؤكد وبشدّة على أنها ليست حالة فريدة، فالفرادة الوحيدة في هذا المقام هو الوجه الشرير للتلذّذ القبيح بالإبادة الجماعية، بل إنّ شعب غزة يدعو إلى إنسانية يجب بناؤها. ليست النزعة الإنسانية الفارغة الواهية لخطاب حقوق الإنسان، التي سمحت بدورها لفرادة المعاناة أن تلبس ثوبها الصهيوني، بل عالمية ملموسة تنظر من خلفها إلى ابتسامة التلذذ القبيحة وتقول لها: لديّ سبب للعيش أنتِ تجهلينه تمام الجهل. ليس لديّ أيّ مبرر، ليس لدي أي ملاذ في حساباتك المعيارية مع القواعد والقوانين، ليس لديّ أيّ ملاذ في نظرياتك عن التبرير، ومع ذلك فأنا لست شكلك غير العقلاني من المتعة التي تشارك في تدمير الحياة: أنا قيمة سلبية، مرض يواجهك بالسؤال نفسه حول معنى العيش، في البقاء على قيد الحياة.
من كان يظن أنّ الباثولوجيا سيكون لها مثل هذا الوجه البريء الحسَن؟ نعم، بهذا المعنى تكون الذات الفلسطينية باثولوجية، وتتطلّب منا اليوم، في كل مكان، نحن الذين نرى مشاهد المعاناة التي لا تُطاق، أن نفكر مرة أخرى في معنى أن نكون على قيد الحياة. عندما نبكي وحدنا قبل النوم في أسرّتنا، ينتابنا إحساس عميق بعدم القدرة على المواساة، وبالذنب حتى عندما نعيد سرد الصورة التي رأيناها، الصورة التي يعلم كلّ منا أنها لن تختفي أبداً، صورة تطاردنا لسبب مفاهيميّ. هذا الشعور المخيف باليأس من الحياة، الذي يجب أن نحمله ونتعايش معه، على أمل أن يتغلب عليه أولئك الذين لطالما قنطوا بطريقة أو بأخرى. كيف يمكن التغلب على كل هذا اليأس؟ أليس هذا هو السؤال الذي يجب على كل كائن حيّ أن يطرحه في هذه اللحظة ونحن مضطرون إلى مشاهدة الفظاعة ذاتها لما يعنيه أن تكون إنساناً؟
كيف نستمر في العيش بعد هذه الهجمة الهمجية؟ كيف يمكن أن تستمر الحياة بعد هذا الانحدار إلى الهمجية؟ إنّ همجية أوشفيتز تتضاعف في همجية الدولة الصهيونية. ومن الواضح أنه لم ينجَز شيء معتبَر في القرن الماضي لمنع تكرار الإبادة الجماعية، وتكرار الادعاء الفاشي بأن الحياة قوة، وإرادة للحياة، وإرادة للسلطة. الحياة لا شيء بدون الإخفاقات في القدرة على العيش، وفقط عندما تتشكّل هذه الإخفاقات تاريخياً واجتماعياً، نبدأ حقاً في فهم معنى أن نكون على قيد الحياة. إن الشعب الفلسطيني الذي يكافح ضد الإبادة هو النفي الحقيقي لمتعة الحياة القبيحة بحدّ ذاتها، في تأكيدها لذاتها وإنكارها لكل قيمة سلبية.

* أستاذة محاضرة ومديرة برنامج الدراسات الإنسانية النقدية في الجامعة الأميركية في بيروت