تسمّوا باسم تلك الأرض المباركة، أرض الجنوب، فصار اسمهم «شعراء الجنوب» وباتت قصائدهم أشبه بوزّالها وقندولها، وحورها وصفصافها، وماء ينابيعها وغمامها، أنشدوها وغنّوها في الزمن الصعب، في زمن الاجتياحات و«القبضة الحديدية» و«الحزام الأمني» ليجترحوا معجزتها بالنشيد، وليقيموا مآتمها وأعراسها بحنّاء القصائد وخضاب المراثي، ويزاوجوا بينها وبين الأرض المباركة من حولها: فلسطين. لئن تفرّقوا من بعدها طرائق شتّى، أو غيّب بعضهم الموت، فقد ظل ذلك العصب المتوتّر في أشعارهم يزاوج في كل حرب، التغريبة الفلسطينية مع كربلاء جبل عامل، «هنا ليس يُطلقُ نسرٌ جناحيهِ/ فوق روابي كفَرْ برعمَ المستعارةِ من حاجب الشمسِ/ إلّا ويترك ظلّاً لهُ/ في أخاديد سهل الخيامِ/وما من قصيدةِ شعرٍ تعهّدَ مطلعُها/ بحرُ حيفا بموج البداهةِ/ إلا وأكْمَلَها بحرُ صورْ»: نستذكر في هذه الحرب الوحشية على غزة وفلسطين وجنوب لبنان أناشيدهم الجديدة والقديمة، التي تصهر أحزان الأرض العربية ليخرج من دمنا ودمعنا ذلك الطوفان: «صليتُ ببغداد صلاة الدمْ/ ونثرتُ بغزة أوجاعي/ وعبرت الجسر الواصل ما بين الموت وأضلاعي/ دمعي أصل الطوفان/ وقرباني جسدي/ فاقطع إن شئتَ يدي/ ستموج الغابة بالأغصان/ ويعلو للأشجار عويلٌ/ حتى يثقبَ سقفَ القبهْ/ من لم يعرف وجع الإنسانِ وغربته في الأرضِ/فلن يعرف ربّه»
1- فلسطين
(شوقي بزيع)

لن أدلّ الكلام عليها
لتأويل ما سرّبَت من غموض تضاريسها
حجُبُ الظّن،
أو لانتشالِ الكنايات من عقْمها
وهي أوسع من كنية لبلادٍ
وأبعد مما تقول الظنونْ
وهي مهدٌ عميق التجلّي لرفد المعاني
بمجهولها،
حيث يُسرى بأفئدة الخلْقِ
نحو اختبار الحياة التي اختلّ ميزانُها
بالقرابين أو بالزنازين،
أو بقُلامةٍ شمسٍ تُضيء تضاريسها
عتمة القابعين وراء حديد السجونْ
وهي الأرض موؤودةً
تتقمص في لحظة الكشْفِ
ما تشتهي أن تكونْ
ولذا لا أقول اسمها
كي أعرِّف ذاك المضيقَ الذي يَصِلُ
النهر بالبحر،
بل كي أُوائم نقصانها في التجسُّدِ
مع توقها المستقيم إلى الاكتمال،
وكيما يُضمّد أوصاله بالحروقِ
من ائتمنوها على كنز أحلامهم،
ولتكْتبه باشتعال الحصى
حلماتُ السواقي،
ومن فقدوا النطْق بالحشرجات،
وتكتبه الأمهاتُ بضوء العيون
ففلسطينُ، أبعد مما تشير الخرائط،
أبعد من وجهها في الأساطير
مفتَتَحٌ للولوجِ إلى عالمٍ لم تُمسُّ براءاتُه،
والتفاتةُ شعبٍ من اللاجئين
إلى قدسهم رُكَّعاً،
وهي جَفْر الغياب الموارى
وراء حقول الأسى،
ومكانٌ لتنمو الجبالُ الصغيرةُ
والعشبُ
والناسُ
جنباً لجنبٍ،
وكيما نعود إليها إذا أزِف الوقتُ
كي نتّقي بالدموع مصاغاتِ غصّاتها
ولنطفوَ، ولو غَرَقاً،
فوق ماء بحيراتها،
ولنكلأ جرحى جبين التراب المهيضِ
ونحرثُه ميِّتينَ
ولو بالجفون
لن أدلَّ الكلام عليها إذن
كي أُعدَّ لياء اسمها ما يساندها من هُوًى،
أو أصيّر من غنّة النون في آخر الاسمِ
طُعماً لذئاب الأنين
فهي عين قصيدتها المستعادةِ
من حسرة الشعراء القدامى،
ومن فطرةٍ غير مفطومةٍ عن روائحِ
سمّاقها المشتهى،
وهي ما ليس ينفدُ من أرجوان الغروبِ
الذي وشّحته البيوت بقرميدها،
والنسيم الأليف الذي يتعهد ولهانَ
نومَ السنينْ
وهي عربدة الياسمينِ على شرفات الحنينْ
ولذا ليس ينقص هذي القصيدةَ
إلا اجتراح تباريح للرمزِ
أعلى من الامتثال إلى عصبٍ عاقرٍ
في غُثاء الخطابةِ
أو شطط سافرٍ في كلام المديح،
فما من بلادٍ تحنُّ إلى سِفْر تكوينها
في كتاب الوجودِ المقدّسِ
إلا وتعني فلسطين،
ما من حطامٍ لأندلسٍ تمَّ خسرانها في الزمانِ
وظلَّ بريقُ مناراتها يتوغل ظمآنَ
في لجج الدم
إلّا ويعني فلسطينْ
وما من حشاشةِ قلبٍ
تبادَلَها عاشقان على مذبح الوجْد
إلّا وتعني فلسطينْ
ففلسطين ليست فقط قِبلةً لانهماك الجمالِ
بتأليف نُصبٍ له
من رخام العناءْ
ولا حجّةً لتبرّج أنشودةٍ
بزؤان الصراخ الملفّقِ في واجهات الغناءْ
ولا هي في عمقها محض جغرافيا
من هواءٍ وطينٍ وماءْ
ولكنها توْقنا للعروج المصفّى
إلى سدّرةِ الروح في منتهاها الأشفّ
ورغبتنا في الإصاخة، حافين من كل صوتٍ،
إلى أنبل التمتمات
التي رفعتْها الحناجرُ فوق النعوشِ
لتبلغ أذنَ السماءْ
وهي ما يستعين به الوحيُ
كيما يعيد النفوسَ إلى رشدها
كلّما نقص الحبّ في الأرضِ،
أو أفرغَتْ من بهاء مزاميرها
جُعبُ الأنبياءْ
وهي لو لم تكنْ لتوجّب تأثيثها
من سراب التمني،
ومن حاجة الكائنات الى آيةٍ للظهورِ
ومن حاجة الاعوجاج
إلى الاستواءْ
لن أدلّ الكلام عليها إذن
كي أُعرفني بالمرايا التي طالما اصطدتُ
من سنديان انعكاساتها في مروج الخيالِ
بزوغاً لأوّلِ عطرٍ شَممتُ،
وأوّل أنثى عشقتُ،
وأوّل وادٍ تعهَّدني بالنّواح،
وأوّل جائحةٍ للخسارات واكبها بالزغاريدِ
جنازُ طفلٍ قتيلْ
وأنا من تهجّى صغيراً
تفتّح نيرانها البرعميّ،
ومن زوّدته رياحينها بالطراوةِ
والخفر الصّلب،
واستودعته شجيراتها الواقفات على الأفقِ
سلسلة من هضابٍ
وصفّ نجومٍ طويلْ
وأنا من وُلدتُ
على بُعدِ خمس سواقٍ وعشرين مذبحةً
من ثراها العليلْ
وأنا من رعتْه أغاني النساءِ
الطريّةُ حدّ الدموع
بأصوات من واصلوا حفرهم بالأظافر
تحت الترابِ
لكي يبلغوها،
ومن سقطوا دون أسمال صلصالها المرّ
جيلاً فجيلْ
وأنا من تحامت ذراها شتاءاته بالسيولِ،
فلا قطرةٌ من مياهٍ
جرتْ في عروق الجنوب النحيلةِ
إلّا وقد رفدتْها بأشهى الغيوم اخضراراً
جبالُ الجليلْ
فهنا حيث يغدو الجنوب شمالاً
لما خزّنته فلسطينُ من عائدات الأغاني،
ويغدو الشمال جنوباً
لمن أشعلوا النار فوق التلالِ
لكي يهتدي الشهداءُ بعناقهمْ
وهْي تخطو إلى الضوءِ
ناهضةً من رماد العصورْ
تتلاقى عظامُ الضحايا على طرفيّ الحدودِ،
وتُسندُ ظَهرَ القبورِ
القبورْ
هنا ليس يُطلقُ نسرٌ جناحيهِ
فوق روابي كفَرْ برعمَ المستعارةِ من حاجب الشمسِ
إلّا ويترك ظلاًّ لهُ
في أخاديد سهل الخيامِ،
وما من قصيدةِ شعرٍ تعهّدَ مطلعُها
بحرُ حيفا بموج البداهةِ
إلا وأكْمَلَها بحرُ صورْ
لن أدلَّ الكلام عليها إذن
غير أنّي سأرفو بإبرة آلامها
ما تناثر من لغتي
فوق رمل سواحلها المستباحْ
ربما لن يقدّر لي لَثم تلك البيوتِ
المواراةُ جدرانُها خلف أسلاك
برقِ أريحا اليتيم،
ولن أستطيع ولو مرّةً أن أُشذب رمّانها
من لحاء اليباسِ
وزيتونها من سموم التخلّي،
وقد لا أشاطر أقمارها الانعقادَ
على جدول من مياهٍ قُراحْ
ولكنّني،
يا تراباً وهبناه أنبل أبنائنا
والتحفْنا بأثدائِهِ رضّعاً
وبأشواكه صبْيَةً
وبأثلامه عجَّزاً،
سوف أضفُرُ صوتي بأعتى الرياحْ
لأسألك الآن:
كم من مسيحٍ علينا انتشال انتظاراتهِ
من سفوح القيامة؟
كم من غروبٍ ذبيحٍ
علينا اختراع احمرارِ لحنّائه؟
كم حِداداً علينا تلقُّفه بالسواد،
وكم نجمةً تتحلّق من حولها
سرّةُ العالمين
توجّب أن تمحّي كي يطلّ الصباح؟
وهل ثمّ من مطْهر للعبور
إلى مهدك الأمّ
لم نمتحنه بأكبادنا؟
أو سراديب لم نغْشَ أنفاقها بالأظافرِ،
أو ثلّة من شقائقَ
لم نلتفت نحوها بالجراح؟
وكم من شموعٍ سنوقدُ؟
كم من شهيدٍ سيسقطُ؟
كم من ربيعٍ سيوأدُ حيّاً،
لكي يخرج الله عن صمتِهِ،
بعد أن نفخ الرّوح فيها،
وأعلنها قبلةً ومصلّى
وأيقونةً للرؤى،
ثمّ أسْلمها لمخالب أعدائها...
واستراحْ

2- كلّما جاءت الحرب
(جودت فخر الدين)

-1-
كلّما جاءت الحربُ،
أُنذِرُ نفسي بصفّارتيْنِ:
بواحدةٍ، أستخفُّ بكلّ عدُوٍ سوى الخوفْ.
بثانيةٍ، لا ألوذُ بأيّ حليفٍ سوى الخوفْ.
وإذْ تنتهي الحربُ،
أبقى أسيرَ التشتُّتِ ما بين خوفٍ وخوفْ.
-2-
كلما جاءت الحربُ،
أرسمُ لي خطّةً،
فألازمُ بيتي مُحاطاً بخطّيْنِ:
خطِّ دفاعٍ، وخطِّ هجومٍ ،
إذا انهارَ خطُّ الدفاعِ أحرّكُ خطَّ الهجوم،
إذا انهارَ خطُّ الهجومِ ألوذُ بخطِّ الدفاع،
وإذْ تنتهي الحربُ،
أبقى أسيرَ التذبذب بين الدفاعِ وبين الهجومْ.
-3-
كلما جاءت الحربُ،
أُنشِئُ جسريْنِ بيني وبيني:
فجسرٌ لكي أستعيدَ معاني الحروبِ التي عِشتُها،
وجسرٌ لكي أستشفَّ معاني الحروب التي
لم تجئْ بعدُ، لكنّها سوف تأتي.
وإذْ تنتهي الحربُ،
أبقى أسيرَ التخبُّطِ بين معاني الحروبْ.
-4-
كلما جاءت الحربُ،
أُوقِفُها عند بابي،
أُخاطبُها قائلاً:
قبل أن تدخلي اعتذري،
فأنا قد عرفتُكِ منذ الطفولةِ،
ما زِلتِ تأتينِ دون اكتراثٍ بما أتصوّرُهُ عنكِ،
ما زِلتِ تأتينَ،
تقتحمينَ انشغالي بنفسي.
أتستأذنينَ ولو مرةً؟
كلما جاءت الحربُ،
أُوقِفُها عند بابي،
أخاطبُها، علّنا نتفاهمُ...
لكنها الحربُ،
تدخلُ دون اعتذارٍ،
وتقذفني خارجاً،
فإذا بيَ أسعى،
لكي أتدبّرَ بيتاً جديداً... لأسئلتي.
-5-
كلما جاءت الحربُ،
أرنو إليها بعينيْنِ مُشْفِقتيْنِ،
أُراقبُها، وأخافُ،
وأهزأ منها إذا عنُفَتْ.
ثم أسأل نفسي:
أأتركها تتقدمُ،
مُتّخذاً ما يُحصِّنُ (أو يتراءى كذلك)؟
أم أتجاهلُها، وأُشيحُ بوجهيَ عنها،
لكي تتحرّقَ في كيْدِها؟
أم أواجهُها بسلاحي الذي أتكتّمُ عنهُ؟
فما زلتُ أُخفيهِ حتى يناسبَني الوقتُ...
كنتُ لأُفصِحَ عنهُ،
ولكنّها الحربُ...
للحربِ أسرارُها .
(٢٥/١٠/٢٠٢٣)

3- دخان القرى
(محمد علي شمس الدين)

هو القلب... أم حفنة من دخان القرى؟
قال لي صاحبي:
نشأنا معاً
وضحكنا معاً
وشربنا معاً وحْل أقدامنا
فهل أنت مثلي، غداً، ميّتٌ في المدينة؟
قلت: هذا اتجاهي
من النهر حتّى احتراقاته في الخليجْ
جنوباً
جنوباً
جنوباً
وكلّ الجهات التي حددتني
غدت واحدة.
قال لي:
أنت لا تعرف الأرض والآخرين؟
قلت: أمّي نهتني عن الموت إلّا على صدرها
قال: خُذ رقم قبري...
وغابْ
ولما التقينا
بكينا معاً فوق صدر الترابْ
■ ■ ■
هو القلب أم حفنة من دخان القرى؟
كان لي صاحبٌ واقفٌ في الظهيرة
بين متراسه وبين الدموع الصغيرة
طفلةٌ لا تنامْ.
حين غنّت لها أمّها في الظلامْ
أغلقت بابها خشية العابرين
ثمّ قالت لها:
عمّم الجند بين البيوتْ
أن تغنّي
إذن
أن تموتْ.
■ ■ ■
هو القلب أم حفنةٌ من دخان القرى؟
كان لا يشتري التبغ قبل الرصاصْ
ولكنّه حين مات
شاهدوا بين عينيه شكلاً غريباً
على شتلة التبغ أو صورة الكف خضراء... خضراءْ
وفي نقطة من زوايا الجسدْ
بقعةٌ للدخان
■ ■ ■
هو القلب أم حفنةٌ من دخان القرى؟
مرّةً زارني في العشاء الأخير
كان صحني مليئاً بأشياء لا أذكر الآن منها
سوى شاهدين
دمى والجريدة:
قرأنا عناوين كلّ المساكين تحت الجسور
قرأنا سطور الجُثث
وما خبّأ الموت بين السطور
قرأنا معاً شاهدات القبور
وموتاً فموتاً عبرنا إلى دورة الخبز باب المدينة.
طاب لي أن أغنّي على بابها:
«بكى صاحبها لمّا رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت لا تبكِ عينك، إنّما
نحاول (خبزاً) أو نموت فنُعذرا»
بكى من غنائي وقال:
هو الخبز أم دورة للمغنّي؟
ولمّا هوى، مال نحو الغناء
هو القلبُ أم غابةٌ من دخان القُرى؟
محبّون كانوا هنا، ثمّ غابوا
ولم يتركوا غير أسمائهم
جلسنا نعدّ احتمالات أقدامهم في المدينة
وسرنا معاً
وجدنا الحوانيت تمشي إلى فندق في الضواحي
وجدنا الضواحي توابيتَ للنائمين
وفوق الثريات لحم طري
وأهدابها أعينٌ للطّغاة
غرسنا على جمجمات الطواغيت أعلامنا
وعدنا نُغنّي لمن لا ينام:
سلامٌ إلى مطلع الفجر وقع الخُطى
سلامٌ إلى مغرب الشمس وقع الظلام
■ ■ ■
هو القلب، أم نجمة القطبِ للتائهين؟
يجيئون مثل الطيور الأخيرة
على جانحِ نجمة
بقعة من دم مثل نجم المساء
على جانح: شارة للفدائي
(..................)
أو للذي وحدته الدماء
كان لي صاحب واقف في العراء
بين يافا
وامتداداتها في الشرايين
لا تقطعوا:
كلّ جذر لنا موصلٌ للسماء
كلّ جذر لنا موغِلٌ في السماء

4- حزنٌ منفردٌ على كأس
(محمد العبد الله)

«تمطرُ في القلب... تمطرُ في المدينة»
من يُنادمُني الكأس؟
والساعة تأوي إلى التاسعة
والمدينة تأوي إلى موتها
والروح تأوي إلى الوحشةِ الواسعة
من يُنادمُني الكأسَ؟
-صحّة الشهداء!
تذكّرتُ شيئاً، دماً (من لم يمتْ بالسيف...)
تمطرُ فوق المصابيح
تمطرُ فوق الشوارع
تمطرُ فوق الدماء
تنهضُ من غفوةٍ أعين الشهداء
-ماذا فعلتم؟
-«ولا تحسبن....»
- ماذا فعلتم؟
-«المجدُ لل..»
ماذا فعلتم؟
-«دماءُ الشهيد...»
-وماذا فعلتم؟
تصرُّ الدماء
من يُعوّضني الموت؟
من يُقاسمني الوحشة الواسعة؟
من يُنادمُني الكأسَ؟
-صحّة الطيبين!

5- شمس الخيام
(حسن العبد الله)

شمس الخيامِ أبْهى
من هذه الشمس التي تصلُنا
منهكةً عرْجاء
عبرَ بِناءٍ راكبٍ على بِناءْ
■ ■ ■
أين فضاءُ سهل مرجعيونَ
من هذه الفُضَيِّئاتِ الغائراتِ كالثقوبِ
في أحياء شارع الحمراءْ؟
وما الذي تفعلهُ الشمسُ
على هذي السطوح الصَّلبة الغبراءْ؟
هناك يمشي الضوءُ فوق التلِّ
ثم فوق السهلِ
ثمّ فوق شجرِ البستانِ
ثم فوق الماءِ
قبل أن يُضيءَ البسمة الحمراء
فوق ثغرِ كُوْزِ التينِ
قرب الورقةِ الخضراءْ
■ ■ ■
شمسُ الخيامِ
سُكّرِيَةُ الشعاعِ في الصيفِ
- وفي الشتاء؟
- حامضةُ الشعاعِ في الشتاءْ!
الشمسُ
أين الشمسُ؟
تلك الشمسُ
شمس الشرقِ
فوق جبلِ الشَّيخِ
وشمسُ الغربِ
فوقَ قلعةِ الشقيفِ
أين شمس المرجِ فوق «الماءِ والخضراءْ»؟
■ ■ ■
لا شيء غير لطخةٍ حمراءَ
فوق صفحة سوداءْ
■ ■ ■
وتُظلمُ الأرجاءْ
يختنقُ الهواءُ بالبارودِ
والترابُ بالدماءْ
ولم تزل
تجرُّ إسرائيلُ
رجلها العرجاءْ
فوقَ ثرى الجنوبِ المُظلمِ- المُضاءْ
بالنارِ – بنتِ الشمسِ - في يد المقاومينَ
فليقدِّر القُرّاءُ
أيّ ليلٍ من ليالي النَّفسِ
أيّ غضبٍ وصَخَبٍ وراءَ
هذه القصيدةِ
الهادئةِ الإنشاءْ...

6- ما بعرفن
(عصام العبد الله)
ما بعرفن...
ما شايفن...
لَفّوا وجْوهن بالقهر
ما بعرفن...
ما شايفن...
خَبّوا سلاحن بالوَعر...
خَبّوا أساميهن...
ما في حدا بشوفهم إلّا إذا ماتوا..
وتْعلّقوا متل التِّحف، متل القمر عم ينْخَطف
مِنْعدّهم..
صاروا عدد متل الخَطَر مارق عَ سهل الجَمْر
ويعدّ دعساتو

7- مقام السيدة البيضاء
(جوزيف حرب)

كانت ترافقنا نِساءٌ آخذاتٌ شكْل فارسةٍ، دمٍ، حريّةٍ، ورسولةٍ، وشهيدةٍ، ويدٍ نراها مِشعلاً أو رايةً. كُنَّ الدليلة في الطريق إليك، أو كنّ المُبشّرة التي صُلِبت لأجلكِ، وارْتَدت مِنديلَ مَريمها، وقمصان العُذارى البِيضَ، وانطلقت لِيُولد بعدها في هذه الأرض الحمامُ، وقاومت حتّى غَدا الزيتون تمثالاً لها. هُنّ اللواتي جِئنَ بالبُشرى لنا، وجعلننا نأتي إليكِ ونحن نؤمن أنّك الغفران والرحماتُ، يمشي بينهنَّ، أمام موكبنا، رِجالٌ آمنوا بيديكِ، ماتوا في سبيلكِ، عُلّقت أعناقهم فوق الرماح. لأنّهم كرَزوا بهذي الأرض باسمكِ. فافتحي أبوابك البيضاء أيّتها البهيّة كي نرى الفجر الجديد لعالمٍ كنّا نظنُّ وجودَه بعد المَمات
كنزهةِ يوم الأحد
فإذا بنا نَبنيه، كي نحيا به
فوق التراب إلى الأبد

8- النهايات
(حسين نصر الله)

-1-
لا تعبروا دمي إلى النهر الأخير
أرخى ظلّه الصفصاف
ووقفت عند باب الظلّ أنتظر انشغال الغيم عنّي
كي ألمس وجهي المُخضّب بالأزقة
سافرت كثيراً حتّى اهتديت إلى جسدي
وأيقنت أنّ نوارس البحر لا تأتي الضواحي
أكره الماء البعيد
ما دمت لا أمسك الماء بغير الذاكرة
أكره الماء البعيد
لكنّني أعشق أيّ هالك يُلامسني
من يخلع عن جسمه ثياب الغيب
ويغطس في التبن أو النبيذْ
-2-
لا تعبروا صوتي، لا تهتفوا الأعياد
حلمي تدحرجه الإناث وأسنان العساكر
أرى أمهات عصرن أثداءهن ورحن يجمعن الحليب والقبور
أرى كلاباً تحكّ جلودها بالجماجم
وأرى قبوراً لا تتسع لجسم عنزة
-3-
خذوا حنجرتي وأسرجوا البحر
لنبدأ رقصة الوطن فوق غبار المدينة
-4-
لا تنتظر زبداً في الدخان
لا تزرع القطن في الصحاري
تعوّد أن يكون دمك محراثاً لبذرة
وابدأ من الآن بحفر قبرك
-5-
انتهت الحرب
انتهت السماء
واضح هذا القتيل
واضح هذا القاتل
طافحٌ بالدخان رأسي
ورغبتي صافية مثل القيامة
إنّني أهوى قلمي، وأبدأ الشعر والحوار
بعض الرجال خرجوا من ثقوب أعشاشهم
عند الصباح
قالوا كلاماً جميلاً
ثمّ لا أدري
رأيت المدينة ترتدي رماداً وأغانٍ
رأيت حائطاً ينفُض عن جسمه الصور القديمة
رأيت في وجوه القادمين تعب البنادق
كانوا يجرون خلفهم ابتسامات لها رائحة الأسماك
كانوا يجرّون أسئلة مطفأة
ثمّ لا أدري؟...
-6-
تعالوا نحفر خندقاً لأشواقنا الضائعة
أصغر من سرير هذه السماء
أصغر من امرأة أحلامنا
انتهت زرقة البحر في العيون
أصعب النهايات ابتدأت
إنّي أحمل عدّة فرحي العتيق وأركض...
لا أحد يسمع انفجار صدري
وحيداً أفتح جهة مغدورة في الزمان
وحيداً أسقط في السرير
-7-
لا تنتظر زبداً في الدخان
لا تزرع القطن في الصحاري
تعوّد أن يكون دمك محراثاً لبذرة
وابدأ من الآن بحفر قبرك
انتهت الحرب

9- وعباس يعدو أمام الجنازة
(الياس لحود)

(عباس مقاتل جنوبي واروه في تراب إحدى القرى)
وعبّاس قد كان... تبذره الريح عبر الذّرى
وعبّاس قد صار... أنشودة في شفاه الصبايا
وتنهيدة في صدور القرى
مدّ عينيه للنّار من هبّةٍ في الحدود
بين ليل الجنوبِ
وليل المدينة والبحر زنداه
بين المحاريث والجبل المعشّب جمراً تلاقيْته
متُّهُ...
ولكنّه كان أسرع منّي التهابا
وغطّى المدينة والجبل المسرف بالدفءِ
صدّقت نفسي ولم أحتجبْ
وها أنذا بينكم
ساكناً في السلامة
مسترسلاً بالمراثي
ومُستبسلاً بالكلام الجريء
(فليسقط الشعر والشعراء
وليسقط السامعون والقائلون
إن لم تكن ظلمة الحق في كلّ وغدٍ رصاصة)
■ ■ ■
... وعبّاس قد كان... تزفره الشمس
من غُرف الطين
من موسم الفقراء
من أعين الطيبين
عبّاس... عبّاس!
ماذا فعلت؟ المسافات تنزفُ
بين الجنوب وبينك درباً طليقاً
وترنيمةً من نسيج الرصاص
ومن مهج المبدعين التراب ارتعاش الوطنْ
وكم كسرة قٌطّرَت جسَداً في المجاري
هنا قاتلٌ هالكٌ بالقتيلْ
هنا قاتلٌ غارقُ في الدماء
... هنا قاتلٌ غارقُ في الدماء
■ ■ ■
وتسبقنا في المعابر وحدكَ
نمشي وراءكَ...
أو في موازاة قبرك نبكي
ونلهث حزناً ونحكي
وتتركنا في الكلام وتمضي
إلى حيث يَرشفك البحرُ
والجبل النازف نحو الجنوب
■ ■ ■
عبّاس.. عبّاس
ماذا تركت لنا
وماذا تركنا لك اليومَ
ندعوك أن تسمع الخبرَ... أطفالنا يهتفون
«عبّاس.. عبّاس»
قُلْ لي وإن كنت لا تتقن الكلمات قُل لي
«متى تصبح الدمعة المشرئبّة أغنية الشمس
يستبشر الكادحونْ»
■ ■ ■
وماذا تقول الجروح/ الوطنْ؟
وماذا يقول الربيع/ الوطنْ؟
نناديك من بين أشلاء أمجادنا
أيّها الوطن المرُّ
في كلّ يوم نوافيك جرحاً
وفي كلّ ليلٍ نساقيك جُرحاً
ونمضي إلى فجرك الأرجواني في عرسك البكرِ
ندعوك أن تطلب الآن منّا الحساب
فها نحن نحسب بعد الجنازةِ أنقاضنا
وعبّاس يعدو أمام الجنازة يُبصرنا ميّتِينْ...
نناديك من بين أشلاء أمجادنا
أيّها الوطن النابت عبر الخرائبِ
من عرقٍ أحمر
من هتافٍ وريقٍ...
نناديك أن تهدم الأمسَ
أن تبني الخبز والعرسَ
عبّاس... عبّاس
عبر الحدود السديمية الريحِ
يبزغ جيش الصباح
ومن تحت كلّ القبور الحرائقُ تمشي
ومن تحت كلّ القبور الحرائق تمشي
ودفءٌ يُحرّك قلب الوطن