ماذا كان إدوارد سعيد (1935-2003) ليقول ــــ لو أنّه بقي على قيد الحياة ــــــ في المقتلة/ الملحمة الفلسطينية الدائرة اليوم على أرض غزة بعد عشرين عاماً على رحيله؟ كيف كان المثقّف الاستثنائي، الذي ذاع صيته كناطق بقضية شعبه ووطنه طوال حياته أن يتعامل مع خطاب الغرب أحاديّ الجانب الذي لا يعترف بوجود الفلسطيني وحقه بأبسط حقوق الإنسان، من السكن والأمن والطبابة والطفولة ووصفه بـ «الحيوانات البشرية» التي تستحق الإبادة؟ المقدسيّ الذي غادرت أسرته زهرة المدائن، وانتقل إلى الولايات المتحدة ليتخصّص بالأدب الإنكليزي ويغدو مفكّراً وباحثاً مرموقاً لم يتبرّأ من فلسطين يوماً، بل ظلّ يحسّ في المنفى أنه «خارج المكان». لازمه قلق البحث الوجودي عن هويته منذ طفولته. قلق عمّقته التغريبة الفلسطينية لتدفعه إلى تعرية خطاب الاستشراق في كتابه الشهير الذي استغرق حيّزاً مهماً من حياته، التي أنهاها بدرس عمليّ في مواجهة الغرب بكامل ترسانته التي تقف وراء ثكنته العسكرية إسرائيل: حجر رماه الأستاذ في «جامعة كولومبيا» عند بوابة فاطمة يعادل رشقة كاملة من الصواريخ. حجرٌ في الاتجاه الصحيح أخرج كلّ الجهاز الثقافي المؤيد للصهاينة عن طوره، «الفكرة الرئيسة كانت إبعاد الانتباه عما حدث في لبنان. كان التحدث عن الصورة أسهل من التحدث عن ثمانية آلاف إنسان عُذبوا في سجن الخيام، وعن تدمير عدد كبير من القرى في جنوب لبنان». تحية للمثقف الشجاع، وعاشق فلسطين، نعيد في «كلمات» استذكار مواقف إدوارد سعيد حول النكبة والاحتلال والدعم الغربي له، وقصة ذلك الحجر الشهير عند بوابة فاطمة في مقابلة أجراها سعيد عام 2001 مع المثقف والمنتج البريطاني كارل صباغ ذي الأصول الفلسطينية، في القاعة المركزية في وستمنستر في لندن، بعد وقت قصير من قصف إسرائيلي عنيف لمدينة غزة، وانتخاب أرييل شارون رئيساً لوزراء العدو بغالبية كبيرة
كارل صباغ: أودّ الآن أن نعود قليلاً إلى الكيفية التي أوصلتنا إلى الوضع الذي نحن فيه. الإسرائيليون يحبّون أنْ يقولوا للفلسطينيين: لا تصرّوا على الاستشهاد بالتاريخ، يجب عليكم أن تنظروا إلى المستقبل. لكنّ التاريخ للإسرائيليين هو السبب الوحيد الذي يعطونه لكونهم هناك بطبيعة الحال. ولذا أرى أنه يحق لنا أن نعود إلى أحداث النصف الأول من القرن العشرين إن شئت. ومن الأسئلة التي أرغب في سماع رأيك فيها مسألة ما إذا كنا نحن الفلسطينيين قد أخطأنا. أقصد هل كان في وسعنا فعل شيء يجنّبنا هذه الطامة الكبرى التي بدأها الصهاينة في نهاية القرن التاسع عشر ووصلت ذروتها في عام 1948.
ــــ إدوارد سعيد: لا أظن ذلك باستثناء أن نعرف المزيد عنها أكثر مما يعرفه أكثر الناس. لكن لا شك في أن السنوات الحاسمة هي سنوات العقد الرابع (أي عقد الثلاثينيات)، وهي مرحلة زادت معرفتنا بها بفضل المؤرّخين الذين أعادوا النظر في أحداث تلك الحقبة. ونحن كثيراً ما نتحدث عن المؤرخين الجدد، ولكن الفلسطينيين من أمثال رشيد الخالدي، ونور مصالحة، وعدد آخر من المؤرخين، أنتجوا أيضاً دراسات مهمة عن هذه المرحلة.

جدارية لإدوارد سعيد أنجزها فائق عويس وسوزان غرين في «مركز طلاب سيزار تشافيز» في «جامعة ولاية سان فرانسيسكو» عام 2007

لقد انحاز البريطانيون دائماً إلى جانب الصهاينة. ومن الأساطير الكبرى التي يروّج لها الصهاينة أنهم كانوا يحاربون الإمبريالية البريطانية. لكن لولا الإمبريالية البريطانية، ابتداءً من وعد بلفور، لما كان بإمكانهم عمل ما عملوه. والأمر الثاني الذي يجِب ذكره هو أن الفلسطينيين عوملوا دائماً على أنهم جماعة تعيش ضمن بلد. وإذا ما فكرت بصياغة وعد بلفور، وجدت أنه لا يتحدث عن الشعب الفلسطيني، بل عن جماعة غير يهودية، ولذلك لم يفكروا يوماً بأن هذه الجماعة شعب. وهكذا فإن كل العمليات التي كانت تحدث لبناء الشعب عند اليهود لم تكن تحدث عند الفلسطينيين، ولم يكن يُسمح بها. ولذلك فإن المفتي نفسه عيّنه البريطانيون في منصب أوجدوه هم. ثم جاءت الثورة العظيمة التي امتدت بين عامَي 1936 و 1939، وهي ثورة أنهكت الفلسطينيين الذين تحمّلوا العسف البريطاني. أما ما كان موجوداً من مؤسسات - مدارس، صحف، أعمال تجارية، وما إليها ـ فقد تعرضت للأذى في هذه السنوات الثلاث. وجرى تدمير القيادات أو نفيها، أو إخراسها على أقل تقدير. وكانت النتيجة أنّ الجماهير الفلسطينية كانت، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، إما مفتتة، أو منهكة، أو غير جاهزة، وبلا تنظيم، ولا تدريب عسكري، لمواجهة عدو صلب كان يتمتع بدعم قوي من الخارج. وهذا هو الوضع الآن مع إسرائيل في هذه الأيام.
من الناحية التاريخية، لم يكن لدينا، نحن الفلسطينيون، حليفاً استراتيجياً. أذكر، عندما زرتُ جنوب أفريقيا أخيراً، أنّ أصدقائي قالوا لي: «إن حزب المؤتمر القومي الأفريقي لم يخنّا في أثناء كفاحنا من أجل التحرُّر. ولكن هذا القول لا ينطبق على العرب في علاقتهم مع الفلسطينيين. أنتم لم تحصلوا على ذلك النوع من الدعم الذي قدّمه الأفارقة». وأنا أعتقد أن هذا صحيح على العموم. وقد أدى ذلك كله إلى وضع كنا نواجه فيه قوات عسكرية حسنة التنظيم نظّمها البريطانيون. كان هنالك لواء في الحرب العالمية الثانية، لواء يهودي، سلّحه ودربه البريطانيون. كان من أفراده موشي ديان على سبيل المثال. نحن لم يكن لدينا شيء من ذلك. كنا جماعة ليس لها شكل رسمي، ولا قيادة، ولا مرجعية مركزية في مواجهة قوّة حسنة التسليح وتنظيم شديد التصميم هي الحركة الصهيونية. وقد بيّن نور مصالحة في سلسلة مهمة من ثلاثة كتب عن دور إسرائيل بالنسبة إلى الفلسطينيين أنّ الإسرائيليين على اختلاف انتماءاتهم السياسية - من اليسار إلى الوسط إلى اليمين - ظلوا دائماً يضعون نصب أعينهم عرباً أقلّ وأرضاً أكثر. تخلصوا منهم اجعلوهم يخرجون. وإذا ما عجزتم عن التخلص منهم وبقي بعضهم، فعاملوهم كأنهم غير موجودين. ولذا فإن من الصعب عليّ عندما أنظر إلى الماضي من وجهة نظر الحاضر أن أرى - في ظل الوضع التاريخي الذي وجد الفلسطينيون أنفسهم فيه ـ ما الذي كان في وسعهم أن يفعلوه أو أن يتجنبوه. كان الوضع لا توازن فيه، وما زال كذلك. ولعله من أشد الأوضاع افتقاراً إلى التوازن في القرن العشرين، ولست أرى وضعاً يشابهه. هذا هو الوضع الذي مكّن الإسرائيليين من السيطرة على الصورة الخيالية العامة لدى الغربيين عندما جعلت الصراع صراعاً بين دولة تسعى للحفاظ على الشعب اليهودي الذي تعرّض للاضطهاد، إلى آخر هذا الكلام وبين الفلسطينيين الذين ليسوا سوى إرهابيين، متعصّبين، إلى آخر هذا الكلام.

كارل صباغ: ومن هذا الصراع ظهرت دولة لها صفات يدعوها البعض عرقيّة، بينما يدعوها آخرون غير ديموقراطية. لكنّ قراءتي للوضع هي أنّ ذلك جزء من الخطة الموضوعة، الخطة التي حُسبت خطواتها بدقة.
ـــــ إدوارد سعيد: عندما ينتقد إسرائيليون رأيي الداعي إلى دولة يشترك فيها شعبان، فإنهم يقولون إنّ ذلك يعني نهاية الغالبية اليهودية وأعتقد أن ذلك كان هدف إسرائيل: الحفاظ على غالبية يهودية أو خلق غالبية كهذه. وهذا ما حصل في عام 1948. هُجّرت الغالبية العربية، أو الجانب الأكبر منها، ثلثاها 780 ألفاً، وسُلبت منهم أراضيهم. كان الشيء الأهم هو الصراع من أجل الأرض. كانت هنالك خطة لجعل فلسطين أرضاً لها شكل الحرف M تبدأ من الجنوب بتلّ أبيب وتمضي صعوداً نحو الشمال إلى حيفا، ثم نزولاً إلى أسفل الضفة الغربية والنقب، ثم صعوداً باتجاه منطقة الجليل الشرقية. هذا كان المركز الاستراتيجي للخطة. في نهاية سنة 1948، كانوا قد استولوا على معظم الأرض وطردوا معظم العرب. وفي غضون سنة واحدة، سنّوا مجموعة كاملة من القوانين نقلوا بواسطتها ملكية الأراضي لليهود. وهذا شيء يجهله كثيرون في واقع الأمر. إنه شيء بالغ الغرابة، شيءٌ يقف العقل مشدوهاً أمامه لو فكرت في وضع كهذا في أي دولة أخرى. فلنقل إنّ بريطانيا أعلنت أن معظم أراضي المملكة المتحدة - فلنقل ومع %92 في هذه الحالة، وهي حالة إسرائيل - محفوظة لمصلحة الشعب اليهودي أو لمصلحة الشعب البريطاني في الحالة التي نتحدث عنها. معنى ذلك أنّ غير البريطانيين لا يحق لهم أن يشتروا الأرض أو يبيعوها أو يستأجروها. هذا هو الوضع في إسرائيل. فيها أقلية من العرب لا يُعترف بكونهم أقلية قومية، بل يُعاملون بصفتهم ليسوا يهوداً. ولذلك فإن سياسات ملكية الأرض سياسات تمييزية خالصة. والحقيقة الماثلة أنّ إسرائيل ليس لها دستور، وليس لها نظام عن حقوق الإنسان، وليس لها حدود معترف بها دولياً، هذه الحقيقة تجعل إسرائيل دولة شاذة. ولو قلت مثل هذا الشيء عن أي دولة أخرى، لسمعت الصراخ من كل جانب للتنديد بسياستها العرقية. كانت سياسة الفصل العنصري تقوم على هذا المبدأ نفسه. كانت أراضي جنوب أفريقيا ملكاً للسكان البيض، وهذا هو ما قامت عليه سياسة الفصل العنصري.
في إسرائيل، يسيطر 80 في المئة من السكان على 92 في المئة من الأرض. ولا يملك 20 في المئة من السكان أي حقوق. ونسبة الـ 20 في المئة هذه جاءت من طرد الـ 80 في المئة الأخرى. وهذا وضع بالغ التعقيد والغرابة، وهو في رأيي وضع مشوَّه وغير طبيعي. وما يحدث الآن ــــ ومن المفارقة أنه يحدث بسبب عملية السلام ــــ ليس هو تسوية هذه التناقضات أو حلّها بل هو تأكيد غرابتها. ولم يعد واضحاً ما إذا كانت الغالبية اليهودية ستبقى قائمة إلى أجل طويل. في أقل من 10 سنوات، بل من ثماني سنوات، سيتساوى عدد اليهود والعرب. ثم ماذا؟ أي إن ظهور الدولة تَبِع نمطاً أسسّ غالبية يهودية لها كلُّ الحقوق وتعمل جاهدة لأن تبقى الأرض في «أيدي اليهود».

کارل صباغ: لكن ما الذي يجعل إسرائيل تبدو - في نظر كثير من الناس الذين لا يعرفون الكثير عن الصراع ولا يعنيهم أمره - منارة للديموقراطية والعدالة؟ كيف استطاعوا تحقيق ‏ذلك؟
ــــ إدوارد سعيد: بعدد من الطرق. هنالك حملة الإعلام الخارجي التي يدعونها Hasbara،‏ وهي بكلمات أخرى حملة ناجحة جداً لكي تُعرّف إسرائيل بطريقة إيجابية في الغرب، وهي حملة ناجحة إلى حدٍّ بعيد. لا شكّ في ذلك. هنالك قدر كبير من الحرية الأكاديمية إلى جانب كبت العرب. يوجد في إسرائيل قدر أكبر من الحرية في مجال الصحافة مما هو موجود في الولايات المتحدة بقدر ما يتعلق الأمر بانتقاد إسرائيل والتعبير عن آراء متعارضة. ثالثاً: ظلت إسرائيل متحالفة مع الغرب تحالفاً قاطعاً ومبرمجاً. ولذا فإنها تنظر إلى نفسها وتصوّر نفسها على أنها دولة غربية وتشارك الغرب في النمط الغربي من الديموقراطية الليبرالية. كذلك بطبيعة الحال، هناك أعداد كبيرة من السكان من لهم علاقات وثيقة مع الغرب عبر الجامعات والثقافة وما إلى ذلك.
ولذا، فإن على المرء أن يقول ما يأتي: إنّ ما يثير الإعجاب حول كل ذلك أنّ لديهم قدرة فائقة على إعطاء الأمور المهمة حق قدرها. الكتاب المفكرون، الأساتذة، الموسيقيون، الرسامون، وغيرهم، يصدّرونهم، وكلهم يحملون رسالة هي بشكل من الأشكال تصوير إسرائيل على أنها ديموقراطية رائدة شابة تتفتح.

كارل صباغ: هنالك عدد من الأقطار القادرة على الضغط على الولايات المتحدة الأميركية وليس على التركيز على الربح أولاً. الشعوب العربية على استعداد لخوض الحرب من أجل القضية الفلسطينية لكنّ الحكّام يأخذون أوامرهم من الولايات المتحدة. كيف ترى الدور الذي تقوم به الدول العربية، وهل يمكنك وضع خط فاصل بين علاقة الفلسطينيين والشعوب العربية وبينهم وبين حكّام تلك الشعوب؟.
ــــ إدوارد سعيد: أظنّ أن من أشدّ الأمور إثارة للأسى في التاريخ العربي المعاصر اتّساع الهوة بين الحكّام والمحكومين في العالم العربي. هذا الشيء الموجود في مجموعة من اثنين وعشرين دولة لا يوجد في بقية أنحاء العالم. نحن محكومون في الواقع من القلّة، حزمات أقليّة، طغاة، أوتوقراطيين، عسكر، مجموعة لا تثير الإعجاب، أكثرهم تدعمهم الولايات المتحدة بشكل أو بآخَر. وأنا أرى أنّ التحدّي الذي يجب على المثقّفين، والناشطين، والآخرين الذين يقولون إنهم يساندون حقوق الفلسطينيين في فلسطين، أن يبدؤوا من حيث هم- فالأقربون أولى بالمعروف.
كان ذلك بعد مرور شهرين على إخراج الإسرائيليين، أو انسحابهم كما يُقال، لكن الأصح أن نقول إنّهم رُكلوا ركلاً


إنّ الوضع الذي يعيش فيه الفلسطينيون في كلّ البلاد العربية وضعٌ مخزٍ. هنالك في لبنان 300 ألف فلسطيني لا يتمتعون بحقوق كثيرة، لا يملكون حقّ الإقامة، لا يُسمح لهم بالسفر بالشكل المعتاد. بكلمات أخرى، يعاني الفلسطينيون من التمييز ضدهم في البلاد العربية. نعم لبنان حالة معقّدة. حدثت فيه حرب أهلية. أفهم ذلك. لكن من غير المقبول أن يعاني الفلسطينيون في البلاد العربية ما عانوه على يد الإسرائيليين، وأن يواجهوا من التمييز المعيب ما واجهوه على يد الإسرائيليين من دون أن يتلقّوا من التأييد لحقوقهم من قِبل الجماعات التي يهمّها كثيراً أن تلوّح بأعلامها تأييداً للانتفاضة وما إليها بينما هم يسمحون للفلسطينيين في بلادهم بالعيش عيشة لا تليق بالبشر. هذا كلّه جزء من تاريخنا الذي يزخر بمقولة: فليقُم غيرنا بهذه المهمة الوسخة. لكن المهمة لا يمكن إتمامها بهذه الطريقة. يجب أن يقوم بها أصحابها، الناس الموجودون هناك. وأرى أنّ انتظار صلاح الدين آخر ليأتي ويأتي معه بالحلول ضربٌ من إضاعة الوقت.

كارل صباغ: أود أن أسألك عن وسائل الإعلام. لعلك تعرف أفضل من أي منّا ما يمكن أن يحدث أو كيف يمكن أن تُستَغلّ، وأفكر بالدرجة الأولى في حادثة وقعت بينما كنتَ في إجازة قبل مدة ليست بالطويلة عندما التقطَتْ صورة لك وأنت تقذف حجراً. بدت لي الحادثة حادثة بريئة، لكن روايتها والآثار التي خلّفتها كانت هائلة.
ــــ إدوارد سعيد: أذكر تلك الحادثة بوضوح تام. ذهبنا إلى جنوب لبنان في يوم من أيام الإثنين، أنا وزوجتي والأبناء وبعض الأصدقاء لزيارة سجن الخيام. كان ذلك بعد مضيّ شهرين من إخراج الإسرائيليين، أو بعدما انسحبوا كما يُقال، ولكن الأصح أن نقول إنهم رُكلوا ركلاً. إنّ سجن الخيام شيء فظيع. وبطبيعة الحال، لم يَذكر أيّ من الذين كتبوا عن الحادثة شيئاً عن جنوب لبنان، وهذه هي المسألة برمّتها. في كل الأحوال، تابعنا المسير إلى الحدود حيث يقف كثير من الناس ويرمون الحصى أو الحجارة الصغيرة باتجاه الحدود التي هي في الواقع بعيدة جداً، وفيها موقع لحرس الحدود، ولكن لا يُرى منهم أحد لأنه مغلق تماماً باستثناء شقّ في الجدار. كنت في الواقع أتبارى مع ابني، في وضع الصراع الأوديبي الذي استدعى الرغبة فيّ التنافس معه فالتُقطت لنا صورة هناك. وظهرت الصورة صباح اليوم التالي في الصحف اللبنانية، وعادت إلى الظهور في اليوم التالي في الصحافة الإسرائيلية. وبعد ذلك، عندما وصلنا إيطاليا يوم الخميس، وهي البلد التالي الذي نتوقف فيه في طريق العودة، كان مكتبي في نيويورك يعجّ بطلبات لإجراء مقابلة معي وكل ما يتبع ذلك. وعندما عدت إلى أميركا بعد أسبوع، كانت القصة قد انتشرت في العالم أجمع بشكل لا يكاد يصدق. أذكر مثلاً أن مراسلاً من جريدة «كارييري ديلا سيرا» كنت تعرفت إليه في القدس، اتصل بي هناك وأذكره وهو يسأل: «إدوارد سعيد، هل تؤكد أن الصورة صورتك وأنت تقذف الحجر؟». وعندما بدأت السنة الدراسية في أوائل أيلول في «جامعة كولومبيا» حيث أدرّس، كانت هناك في العدد الأول من جريدة الجامعة المسماة «سبكتيتر» ثلاث مقالات على صفحة المحرر، منها مقالة كتبها زميلان لي يطالبان فيها بفصلي من الجامعة. والفكرة الرئيسة من الحملة، ومن رسائل الكراهية التي تلقيتها على الإنترنت، والاتصالات التلفونية، كانت إبعاد الانتباه عما حدث في لبنان. كان التحدث عن الصورة أسهل من التحدث عن ثمانية آلاف إنسان عُذّبوا في سجن الخيام، وعن تدمير عدد كبير من القرى في جنوب لبنان. في وسعك أن ترى الدمار إن أمعنت النظر في المنظر العام للمنطقة، وجيش المرتزقة الذي أوجدوه، والدمار الهائل الذي أحدثوه للاقتصاد اللبناني في الجنوب. هذا هو ما يمكن أن تفعله الدعاية، وما يمكن أن يصنعه الإعلام. الهدف هو أن يكون لك حضور. ونقيض ذلك هو أن تحرص على أنّ خصمك ليس له حضور، أو أنّ حضوره محدود بحيث يمّحي السياق ويمكنك المضيّ في الحديث إمّا عن قذف حجَر أو عن قتل الأطفال الإسرائيليين أو شيء من هذا القبيل. بعد ذلك يمكنك نشر الأقوال السهلة القابلة للتكرار أو نشر الرموز القابلة للانتشار. أما نحن، فلم ندخل في اللعبة بعد.

* النص الكامل للمقابلة في كتاب «إدوارد سعيد: دراسات ومقدمات مختارة» ــــ جمع وتقديم محمود شاهين ـــ «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ـ 2022