ليس في وسع المرء إلا أن يتعجّب ويحتار، وهو يستمع إلى تصريحات ثلاثة كتّاب جزائريين من وجوه الثقافة الفرنكوفونية في العالم اليوم، وهو يدلون بدلوهم حول عملية «طوفان الأقصى». غدت تصريحات كمال داوود (1970) وبوعلام صنصال (1949) للصحف الفرنسية، إضافة إلى تغريدة كتبها الروائي محمد مولسهول (1955) المعروف باسم «ياسمينة خضرا» على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، بمنزلة دليل للرأي العام المؤيد لإسرائيل في الغرب وفرنسا، إلى «العربي الطيّب» أو «النظيف» الذي يستنكر «الإرهاب القبيح» الذي باغت به تنظيم فلسطيني «العالم الحرّ». تتلخّص المشكلة - وفقاً لهؤلاء - في وجود معسكرَين اثنين يختلقان المشكلات في طول المنطقة وعرضها: «حماس ومن خلفها «محور الشر» من إيران وحزب الله»، كما يشير داوود وصنصال إلى ذلك بصراحة. في رأيهم، هذا التطرّف يستجلب الأصوليات اليهودية من الجانب الآخر لتغدو المعركة بين نجمة داوود وهلال إسلامي (شيعي) بكل بساطة، بينما تتوق حمائم إسرائيل والعرب (بمن فيهم أهل قطاع غزة) إلى سلام ناصع أقرب إلى رقصة تانغو متناغمة خارج صراخ الديكة.
(محمد عفيفة ـ فلسطين)

افتتح كمال داوود مقالته النارية في جريدة «لوبوان» الفرنسية في الثالث عشر من الشهر الماضي بعنوان يختصر تقريباً كل الرسالة التي أراد صاحب «معارضة الغريب» إيصالها إلى القارئ الغربي ولا سيما الفرنسي: «هزيمة لـ«القضية الفلسطينية»»: وضع داوود القضية الفلسطينية بين هلالين ليباشر هجومه على الفلسطيني الذي «هو بالأمس كما اليوم، مرتزق عند الإيرانيين، وحزب الله، والجزائريين، واليوم عند إسلاميّي حماس، وهو لا يعمل لنفسِه إلا لماماً في الأحوال كلها». ويتابع بأن «الأهم هو الاعتقاد أو التظاهر بالنصر». أيّ قضية فلسطينية؟ يسأل داوود مستنكراً: «إسلاميو حماس، أو جيوش التحرير الإعلامية التي غالباً ما تتخذ إحدى الدول النفطية مقراً لها، وتلقين الأطفال معاداة الدين اليهودي ومحاولة المثقفين العرب «المتنورين» إلزام الغرب تجاه فلسطين بما لم يُلزموا به أنفسهم وشعوبهم وجيوشهم وحكوماتهم». يخلص داوود في مقالته إلى أنّ «صور انتصار حماس التي تُظهر النساء مختطفات، والأطفال الإسرائيليين أسارى والعجائز يساقون كالسبايا إن هو دليل على «طَلبنة» (من طالبان) القضية الفلسطينية وتأكيد رؤية معادية للسامية تغذي كراهية لليهود منذ أكثر من ألف عام». هذه الخلاصات القاطعة التي توصّل إليها داوود صاغها مواطنه بوعلام صنصال على نحو أسئلة أربعة في مقالته على موقع «ماريان» الفرنسي (في تاريخ 16 أكتوبر). في السؤال الأول، يطرح صنصال ما إذا كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يعلم بهجوم حماس «الهمجيّ»، ولماذا لم يُخطر أصدقاءه الإسرائيليين بذلك، ليوفّر على نفسه وأجهزته فورة المستوطنين الذين سيستنفرون في الضفة الغربية، ظنّاً منهم أنّه سيلحق بهم ما لحق بمستوطني غزّة. السؤال الثاني يوجهه صنصال إلى الإيرانيين (الذين ينفذون سياسة دول البريكس التي تضم بين ظهرانيها كاثوليكاً وبروتستانتاً وشيعة وسنة وهندوساً وبوذيين باستثناء اليهود!): هل كانوا على علم بنوايا حماس الشريرة؟ السؤال الثالث يطال مواطني قطاع غزة مباشرة. لماذا هم مسالمون إلى هذا الحدّ؟ لماذا لا ينتفضون على جلاوزة «حماس» ومنظمة التحرير ومستخدميهم من حكام الدول العربية الذين يستعملونهم كشمّاعات يعلقون عليها كل شعاراتهم الفارغة؟ أما السؤال الأخير، فيوجهه صنصال إلى «الديموقراطية الإسرائيلية الجميلة»: لماذا تتحولون إلى مجتمع أصولي يهودي؟ هل نحن ذاهبون إلى حرب الديانات؟
أما دعوة ياسمينة خضرا إلى التعقّل وعدم التهليل لما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فاقتصرت على أسطر قليلة على حسابه على الفايسبوك، لم تأخذ نصيبها من المجد في منبر إعلامي فرنسي عادةً ما يتلقّف بشغف ما يكتبه الروائي الذي يصور للقارئ الغربي في روايته «الصدمة» ما يحدث في أحد مطاعم تل أبيب، حيث تفجّر امرأة شابة نفسها وسط عشرات الزبائن، وينتقل بالسرد إلى المستشفى، حيث يُجري الدكتور أمين، الجرّاح الإسرائيلي من أصل عربي، العمليات الجراحية الواحدة تلو الأخرى للناجين من التفجير: في الليلة التي تلي المجزرة، يستدعي بصورة طارئة للتعرف إلى الجثة الممزقة للمرأة، تتداعى الأرض تحت قدميه إذ يكتشف أنها زوجته. أقل ما يمكن وصف زوبعة الغبار التي أثارها هؤلاء الكتّاب الثلاثة بأنها حذلقة وإيغال في متلازمة استوكهولم التي تتماهى فيها الضحية مع جلّادها: لماذا غابت الإشكالية الاستعمارية، مع كامل عدّتها المفاهيمية واللفظية عن مقاربة داوود لأحداث فلسطين، وهي القماشة التي شكّلت بطانة عمله الأدبي التي بنى مجده بالكامل عليها في روايته «معارضة الغريب»؟ هل فات كمال داوود المتحدر من بلد المليون ونصف مليون شهيد أنّ فلسطين آخر قضية كولونيالية في التاريخ؟ وأن كل ما يندرج تحت كلمة «الاستعماري» من احتلال واستيطان وفتك وبطش هو مرض الإنسان الغربي الذي يتماهى مع إسرائيل تماماً؟ مرض لا يُشفى منه تماماً إلا بالبتر، بالخلاصة التي توصّل إليها ألبير ميمي في كتابه المهم «صورة المستعمِر والمُستعمَر» (ترجمة جيروم شاهين، «دار الحقيقة»، بيروت، 1980): «المعايشة السلمية غير ممكنة، فالاستعمار المعاصر كان يحمل في داخله تناقضه الذاتي الذي، عاجلاً أم آجلاً، كان سيقضي عليه».
لا يريد كمال داوود أن يستكمل مع الأوروبي المستعمر جولة الكباش التي بدأها في روايته الأولى، إذ يبدو قانعاً وحريصاً على الاعتراف الذي ناله من جلّاد الأمس في صالوناته ومكتباته ونيله حظوة تحرير الصفحة الأخيرة لملحق «لوموند» للأديان التي كان يتولاها الشاعر الراحل كريستيان بوبان. التركيز المشترك لداوود وصنصال على «حروب المتطرفين من الجانبين»، ليست سوى محاولة بائسة لتكرار حرف انتباه القارئ الغربي عن السياق الصحيح الذي بدأ يكتشفه كل متابع عاقل ومتجرّد رغم آلة التضليل التي طبعت بأكاذيبها أجيالاً كاملة، عن البؤس الناتج في المقام الأول عن الاحتلال، وعلاقة هذا البؤس برخاء المحتل. بعد أكبر عملية نصب في التاريخ، ها هو يقطّر الماء والوقود والدواء وكل وسائل العيش عن أكبر سجن في العالم لتأديب نزلائه، وإقناعهم بالتسليم لسجّانيهم بـ «النظافة الأخلاقية» التي لم تعد شعوب الغرب المعنية بالخطاب تصدّقها في زمن البث المباشر والخبر العاجل والصورة الرقمية.
فات كمال داوود المتحدّر من بلد المليون ونصف مليون شهيد أنّ فلسطين آخر قضية كولونيالية في التاريخ


«بالضرورة يأتي يوم يرفع فيه المستعمَر رأسه ويقلب اتزان الاستعمار الهشّ»: هي الخلاصة الثانية في كتاب ميمّي المهم. خلاصة يحاول الكتّاب الثلاثة تزييفها عبر وصم لحظة رفع الرأس تلك بـ «الإسلام السياسي» للتقليل من قيمتها وإدخالها في المنظومات المفاهيمية الغربية عن صراع الأديان ونهاية التاريخ: هل كان الإسلام بشقّه الجهادي غريباً عن الهوية الجزائرية ضد المحتل الفرنسي لعقود من الزمن؟ وهل هو غريب عن الأدبيات المشرقية أو حتى الأميركية اللاتينية في «لاهوت التحرير» وأدبيات مقاومة الاستعمار؟ لا تخيف لحظة استعادة الذات الفلسطينية تلك في أصالتها التأسيسية والإبداعية أحداً بقدر هؤلاء الكتّاب مُستلَبي الهوية وهي تضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: في صفّ المقتول الذي يدافع عن وجوده وشرفه شارعاً بشارع، ومنزلاً بمنزل، ومتراً بمتر على أرض فلسطين العربية أو في صف القاتل الذي لم تقنع ديموقراطيته الزائفة كثيراً من مؤرخيه ممن اقتفوا آثار جريمته بحق أبناء البلاد الأصليين من لحظتها الأولى، ويعطي هو نفسه المثال الناصع على ارتزاق السلاح والعتاد والمستوطنين من أسياده الداعمين له بكل عدة البطش من حاملات الطائرات إلى الإعلام الفاجر، الذي يصوّر مذبحة «مستشفى المعمداني» كدراما بنسختين كما عَنونت الصحيفة ذاتها التي استضافت مقال داوود. دراما أقرب إلى اصطدامٍ بين قطارين تقف فيها رواية الركاب مقابل رواية الطاقم التقني. أشار الكاتب العملاق الجزائري كاتب ياسين إلى اللغة الفرنسية على أنها غنيمة حرب يستلّها الكتّاب الفرنكوفون من المستعمِر، وبندقية حربية يشهرونها في وجهه. ليست بنادق داوود وخضرا وصنصال بالتأكيد من تلك الفصيلة، بل هي لا تصيب أحداً على سبيل الخطأ. إنها بنادق تطلق الرصاص على أقدام حامليها فقط.