ليس سهلاً أبداً نقد وتفكيك من تعتبره، بصورة مبدئية، نصيراً لقضاياك، وخصوصاً إذا كنتَ تتقاسم معه الكثير من الأسس الأيديولوجية والأدوات المعرفية لتحليل الظواهر والنصوص: قيم اليسار الأممي والوقوف مع حركات التحرر العالمي في نضالاتها المريرة بوجه الإمبريالية الغربية، مِنْ مجمَّع السلاح والنفط الأميركي المتمثِّل في تحالف البنتاغون والبيت الأبيض حتى آخر الكولونياليات البيضاء في العصر الحديث المتمثلة في الحركة الصهيونية بشوكتها العسكرية المتجسدة في الكيان الصهيوني، إضافة إلى آليات تحليل الجنسانية والحركات النسوية والخطاب العنصري، من الفكر الماركسي حتى الدراسات الثقافية والمابعد-كولونيالية، مروراً بالنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت بأجيالها الثلاثة. من الهيِّنِ طبعاً تفكيك الخطاب الرسمي الأميركي نظراً إلى البون السياسي والثقافي والأيديولوجي بيننا وبينه؛ لكنّ ذلك ليس بالأمر اليسير عندما يتعلَّق بالأكاديميَّة والناشطة السياسية اليساريّة الأميركيّة جوديث باتلر.

سيتركَّز تناولنا على مقالتها الأخيرة The Compass of Mourning (نشر في لندنLondon Review of books يوم 13 أكتوبر 2023) التي كتَبَتْها تفاعلاً مع «طوفان الأقصى». وسينبني تحليلنا، تفادياً لمنزلقاتِ التأويل ونزوعات التعاطف الوجداني، على إيراد أقوال باتلر والتعليق عليها كشفاً لتناقضاتها الداخليَّة وغرقها في الطوباويَّة التي لن تفيدَ ضحايا التاريخ والجغرافيا في شيء يدفع بهم نحو التخلص من نير الكولونياليَّة الإحلاليَّة.
تعرِّفُ جوديث باتلر عن نفسها كالآتي: «أنا مثقفة، وباحثة، تتلمذتُ على الفلسفة عبر الفكر اليهودي، وأضع نفسي كمدافعة وفي ورطة تعتبر نفسها استمراريَّةً للتقليد الأخلاقي اليهودي الممتدِّ من شخصيات كمارتن بوبر حتَّى حنة آرندت. تلقيت تعليماً يهودياً في معبدٍ في كليفلاند في ولاية أوهايو تحت وصاية الحاخام دانيال سيلفر حيث طورت أساساً أخلاقياً قوياً يعتمد على الفكر الفلسفي اليهودي». بالإضاءةِ على الاسمين الأساسيَّين اللَّذينِ تسترشد بهما مفكِّرتنا، سيتَّضح لنا ما يَعْتَوِر جذورها الثقافيَّة من فكرٍ تلفيقي ومتناقض يجمع نزوعات وإن بدتْ تحرريَّة، فإنها في آخر المطاف لا تتحرَّرُ أبداً من أَسْرِ الصَّهيونية. مارتن بوبر (1878-1965) من الآباء المؤسِّسين للأيديولوجيا الصهيونيَّة في جيلها الثاني، الموالي لتيودور هرتزل (1860-1904)، عبر ريادته لأطروحة ما يسمَّى بالدولة الديموقراطية الثنائية القوميَّة (يهودية وعربيَّة)، وهو ما لا يستقيم أبداً في الفكر السياسي وواقع ممارسته على الأرض: فالديموقراطيَّة كلمة وفكرةٌ خالصةٌ، حالما يضافَ إليها عِرقٌ أو لونٌ أو جنسٌ أو دين حتَّى يفسُدَ جوهرُها، وتتحوَّل إلى استبدادِ أقلِّيَّة بأكثريَّة، وبذلك يكون طبيعياً أن يَؤولَ طرحُ ثنائيَّة الدولة القوميَّة إلى صيغتها الأحادية والأكثر تطرُّفاً: يهوديَّة الدولة، التي سعى نتنياهو إلى تكريسها.
الاسم الثاني الذي تعتبرُه باتلر أساساً بارزاً في تكوينها الفكري ــ حنَّة آرندت (1906-1975) ـــ ليسَ أقلَّ تلفيقيَّة من الأوَّل. بعد هرب آرندت من ألمانيا النازية، اشتغلت موظَّفة في فرع باريس لما يسمّى الوكالة اليهودية، الجهاز التنفيذي والعمليَّاتي للحركة الصهيونيَّة الذي تأسّس في عام 1908، وهو ما سيبقى ذا أثر كبيرٍ في نسقها الفكري رغم ما يبدو عليه من تنوير يهوديٍّ (الهسكالا): هذه السيدة التي كتبت نصوصاً رائدة في التأريخ الفكري لأبشع ظواهر الحرب العالمية الثانية وما بعدَها، في ثلاثيَّتها «أصول التوتاليتاريَّة» (1951)، المتضمِّنة لجزء أوسط بعنوان «الإمبرياليَّة»، لم تتوانَ أبداً في الدفاع عن أبشع التوتاليتاريَّات وأردأ مشتقَّات الإمبرياليَّة متمثِّلةً في الصهيونيَّة والكيانِ الصهيونية. حتَّى في أواخرِ حياتِها، جعلت من إيخمان مجرّد موظف وأداة قليلة المسؤوليَّة في آليَّة النازيَّة الجهنميَّة عبرَ مؤلَّفها «إيخمان في أورشليم، تقرير حول تفاهةِ الشَّرِّ» (1965). أمرٌ يمكن بسهولة أن ينطبق عليها وأن نسقطه عليها بدورها، باعتبارها كانت أيضاً مجرَّدَ أداةٍ طيِّعة للفكر الصهيونيّ رغم ما يبدو على تحاليلها من نَفَس فينومينولوجيّ.
هاتان المرجعيَّتان الأساسيتان في تفكير باتلر، الغارقتان في التَّلفيق وجمع متناقضات ثقافيَّة لا تؤدِّيان في الفكر السياسي وممارستِه إلا إلى باب مسدود، تعترفُ مفكّرّتنا أنهما مع غيرهما ليسا بعيدين أبداً عن دوائر الصهيونيَّة، قائلةً: «هناك، في رأيي، تقاليد يهودية قوية، وحتى تقاليد صهيونية أولية، تولي أهميةً كبيرة للتعايش وتقدم مجموعة من الوسائل لمعارضة العنف بجميع أشكاله، بما في ذلك عنف الدولة».
تداولت منابر رقمية وورقية عربيَّة عديدة مقالة جوديث باتلر الأخيرة في ترجمات كليَّة أو جزئيَّة بعنوان «بوصلة الحداد» (The Compass of Mourning)، وهو ما نراهُ مجانباً للصواب كترجمة للعنوان، فهي تتحدث في إحدى فقرتيه عن «توسيع» الرؤية والنطاق، وهو ما يستقيم مع البيكار (الْفُرْجَار). تتسم مقالات باتلر، أسوةً بنصوصها الفكريَّة، ببناء بلاغيِّ ومسحة جماليَّة تمتد من التقاليد الفلسفيَّة النهضوية (مونتاني) الفرنسيَّة حتَّى التفكير النقدي لمدرسة فرانكفورت في بناء صروح نصوصهم على بلاغة قويَّة وصياغة إنشائيَّة رصينة، حيث المفكِّرُ الكبيرُ أديبٌ كبير أيضاً بالضَّرورةِ.
وبذلك يكون اختيارها لاستعارةِ البيكار عنواناً لمقالتها خياراً ذكيّاً ومكثَّفاً لجملة فكرتها: فالبيكارُ هذا يكونُ ذا ساقينِ مُتَقَايِسَيْنِ ومتلازمين مسؤولين عن استكمال رسم الدائرة، في إشارةٍ لطرفي النزاع (وهو في الحقيقة ليس نزاعاً، وإنما حلول لطرف مستعمِر مكانَ طرف مستعمَر)، في محاولةٍ لتحميل الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، وبالمساواة، ما يرافق موجات العنف من حداد على ضحايا الجانبين، كأننا في حرب متكافئة منزوعة من السياق التاريخي: وليدة 7 أكتوبر 2023. بل إنّه في استهلالها لمقالتها، لا تحيد باتلر عن التناول الإعلامي الغربي المبتسَر للحدث، في إطار ثنائيَّة الخير والشر، الإدانة والدَّعم، عبر ما شاهدناه في فُرْجة فجَّة ومتكررة تحاوِلُ إحراجَ، بل تخويفَ ضيوف الاستوديوات والقنوات التلفزيونية بسؤال مفخَّخ ذي نوايا مُغْرِضَة: «هل تدين حركة حماس؟» هكذا تستهلُّ باتلر مقالتَها، وفقَ نفس التَّدرُّج والاستدراج: «أريد أن أتحدث عن العنف، عن العنف الراهن، وتاريخ العنف وأشكاله المتعددة. لكن إذا رغب المرء في توثيق أعمال العنف، أي فهم التفجيرات وعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها «حماس» في إسرائيل باعتبارها جزءاً من هذا التاريخ، فقد يُتَّهَم المرء بإضفاء طابع مِنَ «النسبية» أو بِـ«وضعها في سياقها». يجب علينا أن ندين أو ندعمَ، وهذا أمر منطقي، لكن هل هذا كل ما هو مطلوب منا أخلاقياً؟ في الواقع، إنني أدين بشدة، من دون تحفظ، أعمال العنف التي ترتكبها «حماس». لقد كانت مذبحة مرعبة ومثيرة للاشمئزاز. كان هذا أول رد فعل لي وما زال. ولكن هناك أيضاً ردود أفعال أخرى».
ما يخفيه موقف باتلر هنا، باتلر اليساريَّة وابنةُ المدرسة التاريخانيَة، هو عماؤها، بل تعاميها، عن العودة إلى جذور العنف في المنطقة والأسس والسياقات التاريخية لولادة الكيان الصهيوني والحركة الصهيونيَّة، مع ما رافقها من موجة عنف وتزوير للوقائع بلغَا حدَّ التطهير العرقي والتدليس التاريخي، الّلذَيْنِ كشفَ عنهما الكثير من زملائها ضمن ما يسمَّى موجة المؤرخين الجُدُد، وخصوصاً في وجهيها الأبرزين: إيلان بَابّيه وشلومو ساند. من الغريب ألَّا تواريخَ ولا أحداثَ ضمنَ سياقاتها في كامل مقالة باتلر، حديثها عن العنف غارقٌ في التعميم وفي نسبته للطرفين.
بل إنها تقف ضدَّ منطق العلَّة والمعلول وتتعامى عن أصل العنف ومسبِّبِه، قائلةً: «من المؤكد أن هناك من يستخدم تاريخ العنف الإسرائيلي في المنطقة لتبرئة «حماس»، لكنهم يستخدمون شكلاً فاسداً من التفكير الأخلاقي لتحقيق هذا الهدف. ولنكن واضحين، فإن العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين هائل: قصف متواصل، وقتل ناس من كل الأعمار في منازلهم وفي الشوارع، وتعذيب في السجون، وأساليب تجويع في غزة، ومصادرة منازلهم. وهذا العنف، بأشكاله المتعددة، يُمارَس ضد شعب يخضع لأنظمة الفصل العنصري، ونظام استعماري، والحرمان من مؤسسة الدولة. ولكن عندما أصدرت «لجنة التضامن مع فلسطين» في «جامعة هارفرد» بياناً زعمت فيه أن «نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد» عن الهجمات القاتلة التي تشنها «حماس» على أهداف إسرائيلية، فقد كان ذلك مخطئاً. ومن الخطأ توزيع المسؤولية بهذه الطريقة، ولا شيء يجب أن يعفي «حماس» من مسؤولية الاغتيالات المروعة التي نفذتها. وفي الوقت نفسه، فإن هذه اللجنة وأعضاءها لا يستحقون الإدراج على القائمة السوداء أو التهديد. من المؤكد أنهم على حق في الإشارة إلى تاريخ العنف في المنطقة: من الاستيلاء المُمَنْهَج على الأراضي إلى الغارات الجوية الروتينية، ومن الاعتقالات التعسفية عند نقاط التفتيش العسكرية والفصل القسري بين العائلات إلى عمليات القتل العمد، أُجْبِرَ الفلسطينيون على العيش في حالة موت، موت بطيء وفُجَائي على حد سواء». خلاصة هذه الفقرة: تفكير أخلاقي يساوي بين الجلّاد والضحية، يَستحضر التاريخ لإلغاء معطياته والقفز على ما يترتَّبُ عنه، وربما كان هذا المقطع من مقالة باتلر الأكثر تلفيقية وجمعاً للمتعارضات، سواء في بسط الأفكار أو في الرد على زملائها الأكاديميين.
الاستعمار، كما حلّله فرانز فانون، يبدأ بالعنف ولا يمكن تصفيته إلا بالعنف


لا تقدِّم باتلر طوال المقال، أيَّ حلٍّ واقعي وإجرائي للفلسطينيين، عبر اللاعنف في مواجهة عنف الكيان الصهيوني. فقصارى جهدها ترويع الرأي العام من خيارات «حماس» من دون تقديم إجابة أخرى ضمن الممكن في الواقع السياسي: «التساؤل عن العالم الذي لا يزال ممكناً لسكان هذه المنطقة يعتمد على سبل وضع حد لنظام الاستعمار الاستيطاني. لدى «حماس» إجابة مرعبة ورهيبة على هذا السؤال، لكن هناك إجابة أخرى كثيرة». بل إنها لا تنزاح عن رؤية غربية تصل حد الوقاحة حين تختار للفلسطينيين من يمثلهم: «بوسعنا أن نكون جزءاً من النضال من أجل فلسطين حرة يتم فيها حلّ «حماس»، أو استبدالها بجماعات ذات تطلعات سلمية للتعايش». فهل هذا يعني، في السياق الراهن بالذات، شيئاً غير استعمال العنفِ المرفَق بالإبادة، لتحجيم وحلِّ «حماس»؟ هل من طريق غير عنفية للوصول إلى ذلك؟
يبدو أنّ باتلر، على شاكلة السيد دوهرينغ، في نزعته الطوباويَّة النافية لدور العنف والصراع في حركية التاريخ، كانت ستتلقى النقد التفكيكي الساخر نفسه من إنغلز، مع فارق كبير جداً وبون التاريخي بين سطوة الدولة البروسية وفاشية الكيان الصهيوني. الاستعمار، كما حلّله فرانز فانون، يبدأ بالعنف ولا يمكن تصفيته إلا بالعنف.
نقف حائرين أمام ما تقصده باحثتنا بالتاريخ، عدا إغراقه في العموميات وعدم الخوض في تفاصيله: «حين تؤكد لجنة التضامن مع فلسطين في «جامعة هارفرد أن «نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد» عن هجمات «حماس»، فإنها تخضع لصيغة غير مقبولة من المسؤولية الأخلاقية. ويبدو أنه لكي نفهم كيف وقعَ حدث ما أو ما هو معناه، يجب علينا أن نتعلم من التاريخ. وهذا يعني أننا يجب أن نوسع رؤيتنا إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة الرهيبة، من دون أن ننكر رعبها، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نرفض السماح لهذا الرعب بأن يمثل كل الرعب الموجود، كل الرعب الذي يجب تمثيله، كل الرعب الذي يجب معرفته ورفضه». ويبدو أنها، بإشارتها للمرة الثانية إلى زملائها في هارفرد، تشعر بالحرج في وسطها الأكاديمي، في محاولة يائسة لعزل المسؤوليَّة الأخلاقية عن السياق التاريخي الشامل الذي تسكت عن جذوره الضاربة في الزمن، والتي تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر.