قبل نصف قرن تماماً، سدّد الشاعر والروائي الأردني تيسير سبول (1939-1973) رصاصة إلى رأسه ليودع حياة بعمر الزهور اختتمها بقصيدة أخيرة: «أنا يا صديقي/ أسير مع الوهم/ أدري/أيمّم نحو تخوم النهاية/ نبيّاً غريب الملامح/ أمضي إلى غير غاية/ سأسقط لا بدَّ/ يملأ جوفي الظلام/ نبياً قتيلاً وما فاهَ بعدُ بآيهْ/ وانت صديقي../ واعلمُ لكن قد اختلفت بي طريقي/ سأسقط لا بدَّ/ هذي بعد أول قافلة/ أسقط يملأ جوف الظلام/ عذيرك بعد/ إذا التقينا بذات منام/ نفيق الغداة وتنسى/ لكم أنت تنسى/ عليك السلام». عندما ينتحر أديب كتيسير سبول كانت حياته وكلماته كلّها كحدّ الخنجر، فإنه يأخذ احتجاجه على الظلم والهمجية والهزيمة إلى حدّه الأقصى: إنه انتحار يذكرنا بانتحار ماياكوفسكي خائباً من وعود الثورة وانكسار الحلم، وبانتحار خليل حاوي ببندقية صيد احتجاجاً على اجتياح الدبابات الإسرائيلية لبيروت، ليصحّ وصف الأديب السوري حيدر حيدر هذه النهاية: «اليد تنزع إلى السكين والرصاصة تنزع نحو القلب». جاء موت تيسير سبول في سياق هزيمة حزيران، وانكسار الشعراء المتّشحين بالبروق مثله، وشفافية البحر، وطراوة البراعم التي تذوب في عاصفة. مات تيسير الحزين، الطفل التي كانت سوداوية أدبه بعد سقوط الشعارات الكبرى أشبه بشعلة ديناميت، وكانت مجازر أيلول الأسود أشبه بالصاعق الذي أودى بالشحنة إلى الانفجار. لم يُقدّر لصاحب «أحزان صحراوية» و«أنت منذ اليوم» أن يعيش ليرى بداية نهاية «عصور الظلمة» الذي فرضه العدو على الأمة بالحديد والنار، ليرى أطفال الحجارة في فلسطين بعد عقد ونيّف من موته يجترحون المعجزة، وأبطال المقاومة اللبنانية يسطرون ملحمة التحرير عل ذرى جبل عامل، يرممون الشجرة الحزينة التي كُسرت أغصانها في قلب الشاعر. نعيد في «كلمات» نشر مقطع من «أنت منذ اليوم» يصف فيه سبول كل همجية العدو وسقوط أكذوبة الصهاينة عن الحضارة والمدنية، ونحيي الأديب الراحل باستعادة كلماته الشفافة الجارحة، نضع على قبره باقة من الريحان الأخضر، وفاء لكل الأيدي التي ثأرت بالشجاعة نفسها للرصاصة التي سدّدها إلى رأسه

في حزيران، في العاشر من حزيران هبطتُ إلى نهر الأردن لأرى ما الذي حدثَ لبلادي. على طول الطريق كانت السيَّارات الحربيَّة محطَّمة محروقة. قبيل الوصول إلى النهر رأيتُ على قارعة الطريق بغلاً مقتولاً وكان منفوخاً بشكلٍ عجيب.
ثمَّ رأيتُ الجسر المحطَّم، ورأيتُ خليطاً من الناس، وكان هناك لغط. الآن لا أذكرُ كلمةً من كلِّ اللغط. أجل، هناك أصوات وحركة لغير ما هدف واضح. لا يرى المرء ما الذي يُنجزُ هنا.
كان الجسرُ محطَّماً بشكلٍ فظيع، إلَّا أنَّ أجزاءه ما زالت متماسكة. وكانت هناك امرأة تحاولُ العبور، وهي تتسلَّق الحطام وتمسكُ بما كان مقبضاً للجسر. وكانت شديدة الخوف من أن تسقط. إنَّني أذكرُ وجهها الصغير حتَّى الآن. ورغم أنَّني سمعتُ دائماً من يتحدَّثُ عن صفرة الوجوه الخائفة، فلم يحدث أن رأيتُ وجهاً صغيراً كهذا مصفرّاً تماماً كقشرة ليمونةٍ من دون رواء القشرة. كان الناسُ ينظرون إليها بيأسٍ ثمَّ يتحوَّلون.

الشاعر والروائي الأردني تيسير سبول (1939-1973)

وقفتُ على آخرِ نقطةٍ صالحةٍ للوقوف على الجسر. الآن أعرفُ أنَّني كنتُ أبحثُ عن آخرِ شبرٍ ممَّا تبقَّى وطناً لي. وكنتُ حريصاً أن أقف على آخرِ جزءٍ يمكنُ الوقوف عليه.
رأيتُ النهرَ ورأيتُ قمم الجبال البعيدة. لم أر جنوداً.
وبحثتُ عبثاً. كنتُ واثقاً من أنَّهم لا بدَّ يرونني من هناك ولا أراهم. نظرتُ عبر الجسر. لم أعد أهتمُّ بالناس. رأيتُ الأرض ذات الرائحة الحارَّة. كثيراً ما عبرتُ هذا الجسر إلى الضفَّة الأخرى – هناك. وبدأتُ أنظرُ إلى المعالم الصغيرة: شجرة شوكيَّة... حجرٌ عادي... تعمَّدتُ أن أراها.
ثمَّ انتبهتُ أنَّني منزعجٌ طوال الوقفة. واستبنتُ رائحةً كريهةً ولم أجد مصدرها. ثمَّ انسحبتُ خلفاً وانثنيتُ إلى الزاوية اليمنى. وازدادت الرائحة. هنا رأيتُ تحت منخلٍ مشبَّكٍ جنديّاً ملقى بكامل ملابسه.
في طريق العودة صُعُداً بين الجبال حلَّ الليل. كنَّا نتحدَّثُ بكلماتٍ قليلةٍ غير مستكملةٍ المعنى. ربَّما لطبيعة المكان أو لأنَّه الليل. ربَّما لسببٍ آخر لا أدريه. كانت الكلمات تدوي وكأنَّما تسمعُ مضاعفة. ولم يحدث أن عرفتُ ليلاً كهذا. شيءٌ ما فيه كان يقرِّبه من الليلة الأخيرة للبشريَّة.
حاولتُ تقريب الأمر لنفسي، ولم أفهم. نطقتُ بكلماتٍ بصوتٍ عالٍ «هزيمة، هذا ما هي». ولم أفهم. ليست هزيمة بل شيء آخر.
رأيتُ مرَّةً في عرضِ الطريق قطَّةً مدهومة. الدم على أذنها وجانب من وجهها وهي تتحرَّكُ في دائرةٍ لا يزيدُ قطرها عن متر، وعيناها في نفس الوضع وتظلُّ تدور. لم أدرِ ماذا كانت ترى وماذا كانت تريد.
وكان هناك مذياعٌ في كلِّ مكانٍ ولم أفهم لماذا يجبُ أن يتكلَّم مذيعونا بعد. وخُيِّل إليَّ أنَّ المسألة كلُّها سؤالٌ واحد: شعبٌ نحن أم حشية قش يتدرَّب عليها هواة الملاكمة منذ هولاكو حتَّى هذا الجنرال الأخير.
وما الذي يسمُّونه؟ - جيش الدفاع.
حتَّى في هذا يطؤوننا. ويا لها من سخرية. غثاثة وكذب. كلُّ ما يقال غثاثة وكذب، لا أريد أن أراها ولا أن أسمعها.
إنّها لأشهر حَريَّة باسم عصور الظلمة. إنَّني أتحدَّث عمّا أسدل في جمجمةٍ واحدة. وأعتقدُ أنَّها مسألة شخصيَّة بحت. فهنا مواطنٌ أراد على الدوام أن تحمِلَ روحه وشم الدولة القويَّة. ولم يكن ممكناً أن يقدِّم لنفسه أيُّما سلوان. شعبٌ أم حشية قش؟
تربَّع الجنرال داخل تلك الجمجمة. كان بوسعه أن يحلَّ عقدة عينه. ويمدُّ رجليه ويستريح. ليس في بيته – ولا في مكتبه العسكري – المتحف المرصَّع بنجوم النصر... بل داخل جمجمة. وكان بوسع الجنرال أن يري رباط عينه الأسود وأن يسخر من العيون السليمة ويقرِّر بأنَّ الأصل في العيون أن تكون عوراء. ولم يكن هناك صوتٌ يناقشه – في تلك الجمجمة.
طاف رجلٌ معظم بلاد العالم ورأى كثيراً من الكوارث، إلَّا أنَّه لم يرَ شعباً بأكمله يغرقُ في الحزن مثل شعبي. وبدا واضحاً أنَّ هذا الشعب قد استحال كائناً واحداً ضخماً ومجروحاً – يترنَّح ببطء. ولم يكن قطّ ذهول أبعد من هذا.
(والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
منذ ألف لم يبكِ عربي. مرَّت به كلُّ مذلات التاريخ والأحداث، واحدة تلو الأخرى. معزولةً تافهةً مرَّت عليها. لم يبكِ عربي.
ترك الفلَّاحون قراهم. ربَّات البيوت خرجنَ بملابس النوم. الرجال والأطفال بعضهم من دون أحذية... خرجوا جميعاً... كانت الأنوار مطفأة وجعلوا يتكاثرون. وكانوا يصيحون بكلامٍ غير مفهوم. ثمَّ لم يعرفوا ماذا يصيحون أكثر، فانخرطوا يبكون.
ما الذي حدث له؟
في لحظةٍ واحدةٍ نفضتُ خياله – من دون صور، من دون صور – كلُّ مذلات تاريخه. من دون صور، لكنَّها هناك. ألف ألف مرَّةٍ دهم هذا الجسد... ومرَّت فوقه الأقوام وركلته.
لا يبكي زعيماً. ولا يدري ما الذي يبكيه.

(علي شباني ـ لبنان)

بل دفن رأسه في الفراش وبدأ ينتحب. سمع صوته المتقطِّع الأكثر جراحاً من أيَّ قطة، فهاله الأمر. واجتاحته عاصفة هائلة من البكاء. وجعل ينتحبُ بصوتٍ أعلى. ولم يعد صوته متقطِّعاً فعَلا نحيبه. وقبض فراشه وهو خائفٌ من أنَّ لا شيء هناك يُقبض... فقبض أشدَّ وبكى أكثر. وزالت من ذهنه كلُّ صورةٍ إلَّا وجوده هناك في فراشه. وكان الوقتُ ليلاً. وكان قد جمع في جسده كلّ مذلات تاريخه فانتحب أكثر وسمِع نفسه فازداد انتحاباً.
وبعد،
فقد آن لكلِّ هذا أن ينتهي، كما تنتهي كلُّ حقارةٍ أخرى. قد يكون شعبي أحمق، تماماً كما يعرض المعرضون. وقد يكون أنَّ شعبي ذهلَ إلى هذا الحد، وهم يضربونه، وظنَّ أنَّ الأمر كلُّه لا يصدَّق. وقد تكون مسألة شخصيَّة بحت لمواطنٍ واحدٍ عكف على نفسه محاولاً أن يفهم موضعه من التاريخ.
كان معلِّمنا يشرحُ لنا حكاية أوروبا كأنَّه يراها. وكان يسمِّي المدة ما بين القرنين الخامس والعاشر ميلادي «عصور الظلمة». وكان للكلمتين رنين غريب. وأعتقدُ الآن أنَّ مصدر ذلك الرنين هو الفخر. الفخر الإنساني الكلِّي... فأنت حين تحقّر خمسة قرونٍ كاملةٍ وتختزلها بكلمتين مُذلَّتين «عصورٌ مظلمة»، نفكِّرُ من حيث تدري أو لا تدري بالنور.
عصور الظلمة، أي إنَّه كان هناك نورٌ وانطفأ خمسة قرونٍ ثمَّ عاد واشتعل وأنت فخورٌ بهذا.
(ما عسى أن يهمّني أمرهم؟)
عمَّن يتحدَّث الجنرال؟ عن شعبي وعنِّي أنا. من الذي سأله الاهتمام بأمرنا؟
رأيته نافخ الصدر ورأيتُ عينه فاحتقرته. رأيتُ شعبي، رأيتُ الصحراء والجنود الهائمين عِطاشاً ورأيتُ الصيف ورأيتُ جنود الجنرال يلوِّحون بالماء ثمَّ يخفونه ويضحكون. رأيتُ شعبي يسقطُ باسطاً يديه على الرمل الحار، ومحضته حبّاً عذباً ليس يكبره إلَّا القسوة المرَّة التي محضتُ نفسي وشعبي أشهر الظلمة الطويلة.
وليست المسألة أنَّ الجنرال صغير كذبابة، بل إنّه قذرٌ كذبابة، ولا أنَّ هذا الشعب محاربٌ أم لا.
(حاربوا أفضل من سنة 56... يتكرَّم الجنرال فيقول).
ولكن المسألة في أنَّه شعبٌ انتُدِبَ ليحارب من أجل أن يظلَّ الرنين الغريب كما قال معلِّم التاريخ للصغار: الفترة الممتدَّة ما بين القرنين الخامس والعاشر الميلادي هي المعروفة باسم «عصور الظلمة».

المصدر: المصدر: «أنت منذ اليوم»، تيسير سبول، «دار النهار»، 1968