ينتمي حلمي التوني (1934) إلى جيل من التشكيليين المصريين المؤمنين بقيم راسخة في حياتهم الفنيّة على رأسها العدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، ومقاومة الهيمنة ومساواة المرأة وقضية فلسطين، هو الذي صمّم عدداً كبيراً من ملصقات المقاومة وبوستراتها. سعى التوني إلى التعبير عن هذه القيم وفق تصوّرات جمالية مبتكرة لا تغيب عنها مفاهيم مثل الخصوصيّة، وترتكز إلى وعي يتعلق برؤية الفنان للهويّة العربية.

يوجّه معرض «بيروت العربي الدولي للكتاب» في دورته الـ65 المقامة حالياً في «السي سايد أرينا»، تحيةً إلى الفنان والمصمّم المصري المعروف عبر معرض «التوني... ألف كتاب وكتاب» الذي يغطّي خمسين سنة من مسيرته الفنية، ويضمّ أعمالاً من أربعة مصادر هي «دار الشروق»، ومجموعة الناشر اللبناني عبودي أبو جودة، و«المؤسّسة العربية للدراسات والنشر» ومجموعة الكويتي خالد العبد المغني (صديق حلمي ومتابع لأعماله) الذي قام بمبادرة خاصّة تقوم على أرشفة عدد كبير من أعماله من بينها 4000 غلاف كتاب ومجلة وغيرهما. ومن بين الأعمال المعروضة «بروفات» قبل الطبع من حلمي نفسه من بينها ماكيت جريدة «السفير». علماً أنّ النسبة الأكبر من الأعمال المعروضة هي من مجموعة أبو جودة النادرة.
إلى جانب المعرض المستمرّ لغاية الرابع من كانون الأول، شهدت قاعة الأنشطة الثقافية أول من أمس ندوة من تنظيم «النادي الثقافي العربي» حول أعمال التوني، تحدّث فيها عبر الفيديو نظراً إلى وضعه الصحي وعدم استطاعته حضور هذا التكريم. استعرض التوني مسيرته الفنيّة في لبنان وعلاقته بعدد من الشخصيات كالراحل طلال سلمان، وهو مصمّم لوغو جريدة «السفير» والماكيت. كما عرض لعلاقته مع الفنان كميل حوا (الذي زاره وسجّل معه الرسالة الفيديوية) والياس سحّاب وغيرهم، إضافة إلى انطلاقته من «النادي الثقافي العربي».
تحدّث في الندوة حوّا ومديرة «معهد الفن العربي» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» ياسمين نشّابة طعّان وصاحب «الفرات للنشر والتوزيع» عبودي أبو جودة.
يشرح التوني في الفيديو تفاصيل مجيئه إلى لبنان، حين ذهب مرةً إلى عمله (مشرفاً فنّياً لإصدارات «دار الهلال» في القاهرة)، واكتشف صدور قرار من الرئيس المصري أنور السادات بفصل 104 صحافيين لمطالبتهم بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل. كان التوني الفنّان الوحيد في قائمة ضمّت: نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، وألفريد فرج، وجمال الغيطاني الذين نُقلوا إلى العمل في هيئة الاستعلامات. ويضيف: «دخلت إلى رئيس التحرير يوسف السباعي أسأله عن القرار، فأجابني: الشيوعيون ضحكوا عليك». لم يكن التوني شيوعياً بطبيعة الحال، مضيفاً: «كلّ حركة اعتراضية كانت تلقى على عاتق الشيوعية، وهناك رؤية غير مكتملة تجاه القومية العربية». أمضى التوني شهرين لا يعرف ماذا يفعل. أراد عرض أعماله، لكنّ قاعات القاهرة أقفلت في وجهه. هكذا وجد نفسه في بيروت في عام 1971. وكانت نقلةً كبرى في حياته: «استفدتُ من انفتاح لبنان على الغرب وكانت الطباعة متقدّمة، والإمكانات متوافرة، التحقتُ بـ«المؤسسة العربية للنشر» بسبب علاقتها بالناشر عبد الوهاب الكيالي، وبالمقاومة الفلسطينية التي كانت قد انتقلت أيضاً إلى بيروت». لفت حوّا في كلمته إلى أنّه «ليس هناك مكان أنسب لتكريم التوني من «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، حيث رحّب التوني بالفكرة، لكنّها كانت تحتاج لإمكانات أكثر، رغم ذلك نجحنا في إقامة المعرض». وأضاف: «بدأت علاقتي بالفنان التوني بعد وصوله إلى بيروت مباشرة، ضمن فريق ضمّ عدداً من الصحافيين، ومع تعمّق علاقتنا، شدّني انشغاله بإيصال الفن إلى الناس، فكّرنا في البحث عن سبل لنشر الفن، لكن العبور الذي حقّقه حلمي كان أبعد بكثير عبر أغلفة الكتب التي كان ينجزها لتدخل كلّ البيوت».

(مروان بوحيدر)

صاحب فكرة تكريم التوني هو حوّا الذي قال لـ«الأخبار» إنّ الفنان قدّم للنادي تصميم ملصق معرض الكتاب هذا العام. سئل عن أفكار، فجاءته فكرة تكريم التوني لأسباب عدّة منها، أنّه «المكان الطبيعي لتكريمه لأنّه فنان عربي عاش في بيروت مدة طويلة، ولعب دوراً رئيساً ليس فقط في مجال رفع المستوى في تصميم أغلفة الكتب، ولكن أيضاً في دفع دور النشر نحو إعادة التفكير في الأسماء التي تكلّفها بتصميم كتبها، وبدأ نشر الكتب يتخذ طابعاً أفضل منذ أن مارس تصميم الأغلفة في بيروت في السبعينيات، وشاءت المصادفات أنّ العمل الأول لحلمي لدى وصوله إلى بيروت، هو تصميم شعار «النادي الثقافي العربي» لمعرض الكتاب، وفاز التوني بثلاث جوائز للتصميم من معرض الكتاب. لحلمي صلة بالكتاب وبالمعرض وتكريمه هو أقلّ ما يمكن، ودوره في لبنان بارز ومتميّز، وشاءت المصادفات أن أحلّ على القاهرة في زيارة خاصّة، فقصدت حلمي للاطمئنان إلى صحّته، بعد ورود أخبار عن تدهور حالته. وعملاً برفع معنويّاته وكونه مستحّقاً بجدارة، جاءت الفكرة، وأعتبر أنّنا وُفّقنا بها لأنّها كانت يجب أن تحصل قبل يومنا هذا، فهو صاحب زخم من الإنتاج البديع والمتنوّع، وبيروت كانت مطبعة الكتاب العربي الأولى في ذاك الوقت، والمطابع في بيروت لم تتوقّف حتى أحلك الظروف». ويضيف حوّا: «كان مطلوباً نشر إعلانات أكثر حول هذا المعرض، وأن يرتاده أناس أكثر لكنّ الظروف حالت دون ذلك، وهذا المعرض لا يغطي إلا جزءاً محدوداً من إنتاجه، وأظنّ أنّه أكبر دافع لتعزيز فكرة أرشفة أعمال حلمي التوني وإصدارها في الأعمال الكاملة التي تنشر للمؤلفين وليس للمصمّمين، فهو ظاهرة استثنائية حقيقية بحيوية وتنوّع وجمال الأفكار وروحه في تصميم غلاف كلّ كتاب». أمّا ياسمين نشّابة طعّان، فتقول لنا: «في هذه الأوقات الصعبة، أتساءل أحياناً ما الذي يدفع إلى تعليم الفن والتصميم، وأرى أنّ تدريس التصميم في هذه المنطقة أصبح أكثر أهمية من أيّ وقت مضى في هذا العالم القبيح. لذا، فأنا لم أعد أعلّم طلابي عن الأشكال والألوان، بل أعلمهم القيم والأخلاق، وأعلّمهم عن الإنسانية وما علّمني إياه حلمي عبر رسوماته، فهو أسّس مادّة بصرية خاصّة بالمنطقة العربية، أعلّمهم ما علّمني إيّاه حلمي التوني». واستعرضت طعّان مجموعة من رسومات التوني منذ أن رسم نفسه مع شقيقته، قائلاً إنّه لا ينسخ صورة، بل يرسم فكرة ويحوّلها إلى رسم، كما عرضت مفهوم حريّة المرأة في رسوماته والمساواة مع الرجل وارتباطه المتجذّر بالقضايا المحقّة في الوطن العربي.
ينتمي إلى جيل من التشكيليين المصريين المؤمنين بقيم راسخة في حياتهم الفنيّة على رأسها فلسطين والعدالة الاجتماعية ومساواة المرأة


وتحدّث عبودي أبو جودة عن تجربته مع الفنان التوني وأهميته على أكثر من صعيد فنّي، فـ«أغلفته كانت شبيهة جداً بمضمون النّص، فضلاً عن أنّه حوّل تصميم الغلاف إلى عمل فنيّ رائع لا ينفصل عن مضمون الكتاب، لكنه في الوقت نفسه لوحة بصريّة مميّزة». ويضيف: «يضمّ المعرض أعمالاً من بدايات التوني في مجلّة «الكواكب» واستلامه الإدارة الفنيّة في «دار الهلال»، كما عدداً من أغلفة كتب إحسان عبد القدّوس صدرت في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. وهناك عدد كبير من الملصقات وأغلفة الكتب التي نفّذها لـ «مؤسسة الدراسات العربية» و«دار العودة» و«دار ابن رشد»، وسبعة ملصقات تعود إلى معرض الكتاب صمّمها لـ «النادي الثقافي العربي» في عام 1974، وأعماله مع «دار الشروق» حيث تسلّم مهمّة التصميم الفني فيها ومجلة «وجهات نظر» بعد عودته إلى القاهرة، وملصق لفيلم «الحرام» الذي صمّمه عام 196. في جعبة حلمي التوني حوالى 4000 عمل، لم نستطع إحصاءها بصورة كاملة، إذ نعرض حوالى 300 عمل فقط لا غير، لكنّها تشكّل غنى كبيراً».

* معرض «التوني... ألف كتاب وكتاب»: جناح الأنشطة الثقافية والندوات ـــ حتى الثالث من كانون الأول (ديسمبر) ـــ «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» ـــ «السي سايد أرينا» (واجهة بيروت البحرية)