تقديم واختيار محمد ناصر الدين
وصف بيت المقدس في سفرنامه (1060 م)
هي مدينة مُشيدة على قمة الجبل، ليس بها ماء غير الأمطار، ورساتيقها ذات عيون. والمدينة محاطة بسور حصين، من الحجر والجصّ وعليها بوابات حديدية. وليس بقربها أشجار قطْ، فإنّها على رأس صخر. وهي مدينة كبيرة كان بها، في ذلك الوقت، عشرون ألف رجل، وبها أسواق جميلة وأبنية عالية، وكلّ أرضها مبلّطة بالحجارة، وقد سوّوا الجهات الجبلية والمرتفعات، وجعلوها مسطّحة. إذ تغسل الأرض كلّها وتُنظّف حين تنزل الأمطار. وفي المدينة صنّاع كثيرون، لكلّ جماعة منهم سوق خاصة، والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقيّ. وبعد الجامع سهل كبير مستوٍ يسمى «الساهرة»، يُقال إنّه سيكون ساحة القيامة والحشر، وبين الجامع وسهل الساهرة وادٍ عظيم الانخفاض كأنّه خندق، وبه أبنية كثيرة على نسق أبنية الأقدمين. ورأيت قبة من الحجر المنحوت مقامة على بيت لم أرَ عجباً منها، حتّى إنّ الناظر إليها ليسأل نفسه كيف رُفعت في مكانها؟ ويقول العامة إنّها بيت فرعون. واسم هذا الوادي «وادي جهنم». وقد سألت عمّن أطلق هذا اللقب عليه، فقيل إنّ عمر (بن الخطاب) أنزل جيشه أيام خلافته في سهل الساهرة هذا، فلما رأى الوادي قال: هذا وادي جهنم. ويقول العوام إنّ من يذهب إلى نهايته، يسمع صياح أهل جهنم، فإنّ الصدى يرتفع من هناك، وقد ذهبت فلم أسمع شيئاً. وحين يسير السائر من المدينة، جنوباً، مسافة نصف فرسخ، وينزل المنحدر، يجد عين ماء تنبع من الصخر، تسمّى عين سلوان. وقد أقيمت عندها عمارات كثيرة. ويمرّ ماء هذه العين بقرية شيّدوا فيها عمارات كثيرة وغرسوا بها البساتين. ويُقال إنّ من يستحم من ماء هذه العين، يُشفى مما ألمّ به من الأوصاب والأمراض المزمنة. وقد وقفوا عليها مالاً كثيراً. وفي بيت المقدس، مستشفى عظيم عليه أوقاف طائلة ويصرف لمرضاه العديدين العلاج والدواء، وبه أطباء يأخذون مرتّباتهم من الوقوف المقرّر لهذه المشفى. ومسجد الجمعة على حافة المدينة من الناحية الشرقية، وأحد حوائط المسجد على حافة وادي جهنم. وحين ينظر السائر من خارج المسجد، يرى الحائط المطلّ على هذا الوادي يرتفع مائة ذراع من الحجر الكبير الذي لا يفصله عن بعضه ملاط أو جصّ. والحوائط، داخل المسجد، ذات ارتفاع مستوٍ. وقد بني المسجد في هذا المكان لوجود «الصخرة» به، وهي الصخرة التي أمرَ الله عزّ وجلّ موسى أن يتخذها قُبلة.
كانت عيناه تتابعان بانجذاب صوفيّ تلك الفقرات الخفية الغامضة لمحمد


■ المرجع: ناصر خسرو، سفرنامه، ترجمة يحيى الخشاب، دار الكتاب الجديد، 1970

ابن بطوطة في غزّة والخليل (1325 م)
ثمّ سرنا حتّى وصلنا إلى مدينة غزّة، وهي أوّل بلاد الشام ممّا يلي مصر، متّسقة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة، والأسوار عليها. وكان بها جامع حسَن. والمسجد الذي تُقام الآن به صلاة الجمعة، بناه الأمير المعظّم الجاولي. وهو أنيق البناء، محكم الصنعة، ومنبره من الرخام الأبيض. وقاضي غزّة بدر الدين السلختي الحوراني. ومدرّسها علم الدين بن سالم. وبنو سالم كبراء هذه المدينة، ومنهم شمس الدين قاضي القدس.
ثمّ سافرت من غزّة إلى مدينة الخليل وهي مدينة صغيرة المساحة، كبيرة المقدار، مشرقة الأنوار، حسنة المنظر، عجيبة المخبر، في بطن وادٍ. ومسجدها أنيق الصنعة، محكم المعمل، بديع الحسن سامي الارتفاع، مبني بالصخر المنحوت. في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبراً. ويُقال إنّ سليمان أمر الجن ببنائه. وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس، فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ويقابلها قبور ثلاثة هي قبور زوجاتهم. وعن يمين المنبر، يلصق جدار القبلة، موضع يهبط منه على درج رخام محكم العمل إلى مسلك ضيق، يُفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام، فيها صور القبور الثلاثة. وبالقرب من هذا المسجد، مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن عليّ عليهما السلام. وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام، في أحدهما مكتوب منقوش بخطٍ بديع: «بسم الله الرحمن الرحيم، له العزّة والبقاء، وله ذرا وبرا، وعلى خلقه كتب الفناء، وفي رسول الله أسوة حسنة. هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه». وفي اللوح الآخر منقوش: «صنعه محمد بن أبي سهل النقّاش بمصر». وتحت ذلك هذه الأبيات:
أسكنتُ من كان في الأحشاء مسكنه بالرغم منّي بين الترب والحجرِ
يا قبر فاطمة بنت ابن فاطمة بنت الأئمة بنت الأنجم الزهرِ
يا قبر ما فيك من دِينٍ ومن ورعٍ ومن عفافٍ ومن صَوْن ومن خفرِ
■ المرجع: رحلة ابن بطوطة، تحقيق علي المنتصر الكتاني، مؤسسة الرسالة، 1979

«مسجد عمر بن الخطاب» (القدس عام 1857. مجموعة «متحف المتروبوليتان للفنون» نيويورك).jpg

ماري إليزا روجرز: زفاف في حيفا (1855-1859 م)
تلقيتُ دعوة بعد بضعة أيام لحضور حفل زفاف لآل صيقلي، وهي عائلة مسيحية عربية تتبع الطائفة الأرثوذوكسية الشرقية. عند حوالى الساعة الثامنة صباحاً، أُخذت إلى كنيستهم، وهي مبنى تعلوه قبة ينفذ إليها الضوء من الأعلى، وتعجّ من الداخل بصور بيزنطية ملوّنة، إذ إنّ الأرثوذوكسية الشرقية وعلى الرغم من أنّها تحظر استخدام الصور للمساعدة في أداء العبادات، إلّا أنّها تسمح باستخدام الصور شريطة ألّا تبدو محتوياتها من المخلوقات النابضة بالحياة. كانت قاعة الكنيسة غير المزودة بعدد كافٍ من الكراسي أو المقاعد، قد امتلأت عن بكرة أبيها بالمدعوّين إلى حفل الزفاف وهم يحملون في أيديهم شموعاً منزلية الصنع، وضعت إحداها في يدي. وقف الكاهن على منضدة القراءة في وسط الحشد، وأمامه مباشرة، وقفت العروس بعباءتها البيضاء التي غطّت كامل جسدها، بينما كان وجهها مُغطّى بالكامل بخمار متعدّد الألوان. ووقف عريسها بجانبها، وكان بالكاد قد بلغ السابعة عشرة من عمره، ببذلته الزرقاء ذات الحواشي المُطرّزة بخيوط ذهبية، وزناره الأنيق الذي كان عبارة عن شال باللونين الأبيض والأحمر القاني. لم يكن قد رأى وجه عروسه سوى مرّة واحدة قبل ستة أشهر عندما تقدّم لخطبتها.
أقيم القدّاس باللغة العربية، وتُليت الصلوات بترتيل سريع، لكنّه واضح ومتناغم. كانت أهم مقاطعه على ما يبدو تلك الخاصة بالعرس في قانا الجليل. بينما كان الكاهن منهمكاً بقراءة هذا الجزء من الإنجيل، كان الشاب قد أُعطي الخبز والنبيذ. فقام بدوره بإعطاء شيءٍ منهما للفتاة، التي حرصت أثناء تناولهما على ألّا تكشف وجهها. وبعد ذلك مباشرةً، مدّت إحدى يديها المزيّنة بالحناء لكي يضع خاتماً مُرصّعاً في إصبعها. وأحضر إشبين وإشبينة العروسين تاجين من القصدير المذهّب ليوضعا على رأسَي العروسين اللذين تشابكت أيديهما وأخذا وبمرافقة إشبينهما، يدوران في حلقات بين الحضور الذين أفسح الطريق من أمامهما ورشّهما بماء الورد والعطور، مردداً الأغاني ومتمنياً حياة سعيدة لهما. أكمل العروسان سبع دورات بين الحضور، ابتلت طرحتا العروس وإشبينتها تماماً، واستسلم العريس والإشبين بإذعان تام لقوارير العطور التي سُكبَت على طربوشيهما.
في تلك الأثناء، كانت زغاريد عالية ومتواصلة تصدر عن صديقات العروس اللاتي تجمّعن في الشرفة العلوية لقاعة الكنيسة؛ إذ اقتصر الوجود النسائي في قاعة الكنيسة على عدد محدود جداً من القريبات من الدرجة الأولى للعروسين. ثمّ احتشد الرجال في موكب يتوسّطه العريس وخرجوا من الكنيسة حمل أحد الرجال غليوناً تركياً أنيقاً وكان يُقدّمه للعريس كلّما توقّف الموكب لكي يرقص الرجال أو ليغنوا أغنية من أغنيات الحب الجامح. وكان ماء الورد ينسكب على رأس العريس من نوافذ وشرفات البيوت التي يمرّ من تحتها. وبالتزامن مع ذلك، كانت العروس وقريباتها وصديقاتها، اللواتي ارتدين البراقع والعباءات التي تسترهنّ تماماً، يتّجهن ببطءٍ شديد إلى بيت العروس، البيت الذي ترعرعت فيه، إذ كان عليها أن تنتظر حتّى مغيب الشمس من أجل أن تلتقي بعريسها. ذهبت بصحبتهن وكنّا جميعاً نحمل الشموع، مع أنّها كانت الساعة الثالثة، أي حوالي التاسعة صباحاً. وكنّا نتوقف بين الفينة والأخرى أثناء قيام إحدى المغنيات المحترفات بارتجال زغرودة منفردة من الغناء المناسب للحدث. لتشترك النشوة كافة في المهاهاة وترديد الكلمات والزغاريد كجوقة موسيقية، ثمّ نتابع السير من جديد. ارتقينا بعد ذلك درجاً حجرياً فسيحاً ومظلّلاً، ثمّ عبرنا ممرّاً قادنا إلى قاعة كبيرة تملأها النوافذ، وزُفّت العروس إلى ما يُشبه العرش المصنوع من الوسائد والمخدّات المُطرّزة وطُلِب منّي الجلوس إلى جانبها. نُزعت طرحة العروس ونقابها الأبيضان، كان وجهها بيضاوياً ذا شفتين كبيرتين وحاجبين منحنيين مرسومين بدقة. كانت عيناها مغمضتين، إذ إنّ العُرف يقضي بأن تُغمض العروس عينيها منذ اللحظة التي تُغادر فيها الكنيسة إلى اللحظة التي تلتقي بها بعريسها ليلاً. جلست بجلالٍ بوضعية السجود، إذ تركت جسدها يستند إلى كعبيها بينما وضعت راحتي يديها على ركبتيها كأنّها إحدى الآلهة الهندية. وكان غطاء رأسها مغموراً تقريباً بسلاسل من اللؤلؤ والعملات الذهبية الصغيرة والألماس الصناعي والورود. أمّا شَعرها الطويل المجدول، فقد تراخى على كتفيها وظهرها بتسع ضفائر مزيّنة بعملات وحلي ذهبية صغيرة. ارتدت سترة بنفسجية من المخمل مفتوحة بقدر كبير من المقدمة لتُظهر صدرها الذي يعلوه قميص من الكريب المُزين بأشكال مختلفة من عروق الذهب. أمّا قلادتها أو القبّة المكونة من العملات الذهبية، فقد كانت في غاية الجمال. وتكفّلت تنورتها الحريرية باللونين الأصفر والأبيض بستر سروالها الحريري الأصفر. وكانت يداها وذراعاها مزيّنة بحنّاء ذات لون بني وبرتقالي، ولكن ما سحرني أكثر من أيّ شيء آخر لمعان وتألق بشرتها.
في الوقت الذي أمضيته في التمعّن بالعروس، كانت النسوة الحاضرات قد غيّرن مظهرهن بالكامل. فقد نزعن الملاءات والبراقع وتلوّن المكان بألوان قوس قزح بتركيبات لونية متعددة. كانت بشرات وجوه العديد منهن بنفس نضارة بشرة وجه العروس تماماً. وكنّ جميعهن تقريباً يمتلكن عيوناً واسعة وجفوناً ورموشاً كحلية. كانت أفواههن كبيرة بعض الشيء تُظهر أسناناً منتظمة وكبيرة ناصعة البياض. وكانت بشرتهن غامقة بشكل عام لكنّها صافية ونضرة. وتقدّمن واحدة تلو الأخرى لتقبيل يد العروس، ثمّ بدأ الرقص والغناء. تولّت إحدى النساء ضبط الإيقاع بواسطة الطبلة، ووقفت راقصتان أو ثلاث في وسط الغرفة بنظرات مترفّعة، لكن لا تخلو من الشبق. بدأن بالتقدم ببطء إلى الأمام، كأنّهنّ متردّدات أو خجولات، نحو هدف مفترض، ثمّ تراجعن إلى الوراء، لكي يتقدّمن من جديد بخُطى ورقص سريعين. شكّلت المتفرجات حلقة دائرية جلوساً على الأرض المفروشة بالحصائر في صَفّين، وهنّ يُصفقنّ بأيديهنّ بإيقاع يتناغم مع صوت الطبلة، ويُغنين أغانيَ مُفعمة بالشغف والعواطف بمقام ثانوي على نوتة 2-4، وما إن تُصاب إحدى الراقصات بالإعياء، حتّى تنهض أخرى لِتَحُلّ محلَّها، واندمجت أربع منهنّ في رقص عنيف ومتواصل حتّى بدت عليهن سكرات الموت، فأفسحن المجال أخيراً لغيرهنّ من الراقصات. ارتدت الفتيات الأصغر سِناً أثواباً من قماش قطني مُطرّزة بخيوط ذهبية تُشبه العناقيد، بينما ارتدت الأخريات تنانير بيضاء من الموسلين الرقيق، فوق بناطيل حريرية زرقاء وحمراء، وسترات مُخملية سوداء، وعندما كُنّ يرقصن، يحملن في أيديهنّ مناديل مُطرّزة ويلوحنّ بها بحركات منتظمة.
■ المرجع: ماري إليز روجرز، الحياة في بيوت فلسطين، ترجمة جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022.
فلوبير عند البحر الميت ونهر الأردن (1850 م)
يُوحي البحر الميت، بسكونِ مياهه ولونها، بمنظر بحيرة. الأرض المُحاذية للماء جرداء، لكن عند اقترابك تلمح إلى اليمين بعض الخضرة. شاطئ البحر يُغطيه كثير من جذوع الأشجار الميتة وبعض الأخشاب لا شك أنّها مخلّفات قد حملها نهر الأردن إلى هناك. بدت لي درجة حرارة الماء في نحوِ ما يكون عليه حمام عادي، أمّا لونها فكان على عكس ما توقعته صافياً غير داكن. وقد تذوّق منه مرافقي، فاحترق من ذلك لسانه. ولمّا كنت أشعر بالعطش، لم أجرؤ على خوض التجربة. دفعنا بخيولنا في الماء مُتجهين صوب جزيرة من الحصى، تبعد عن الشاطئ نحو ستين خطوة. عن شمالي، بدت لي أربعة جبال أو قُل إنّها أربع قمم لجبل واحد، ثانيتها ذات لون أشدّ قتامة من ألوان الأخريات، رغم أنّ لونه الداكن يمضي مُتدرّجاً، أمّا القمة الرابعة فتختفي في ضباب الأفق البعيد. وأمّا لون الجبل القائم إلى اليمين، الذي يتعيّن تسلُّقه من أجل بلوغ مار سابا، فيميل إلى البياض عند الأسفل، إذ تبدأ أول سلسلة من التلال. أمّا اللون الغالب على الجبل فرماديّ يجلّله بنفسجي تتلاعب فوقه تموّجات وردية.
على بُعد نحو ثلاثة أرباع الساعة من البحر الميت، يبدأ المسافر في ارتقاء الجبل، حيث تمضي الطريق انطلاقاً من هناك في دوران وصعود وهبوط لا ينتهي، فتتخذ تارةً شكلاً هلاليّاً أو تصعد مدرجاً أو تُحاذي حائطاً حجريّاً ضخماً، ومتى التفتَّ إلى الوراء يتراءى لك المنظر المذكور آنفاً وأفقه يزداد اتّساعاً كلّما ازددتَ في الجبل صعوداً.
سرنا على حافة جرف عظيم، وعند أقدامنا هاوية يتراءى في قاعها خط أبيض يمضي متراقصاً، تُحيط الأشجار من الجانبين كأنّه طريق، وما هو إلّا مجرى الجدول الجاف. بضعة طيور من الحجل تركض فوق الرمال الجافة. بعد هذه السلسة الأولى، تبدأ أخرى، يسير عليها السائر فوق حافة محدودبة كأنّها ظهر سمكة ضخمة أو سطح مصلّى كنيسة. يلي ذلك نَجدٌ مُنبسطٌ ثمّ تبدأ سلسلة ثالثة من الجبال ومعها الصعود والدوران عوداً على بدء. أمّا الأرض فتنتشر فوقها باقات صهباء من تلك النباتات الشائكة التي تنمو بكثرة في هذه البلاد، وأمّا الأعشاب فكمثيلتها بالأمس، عبارة عن أعواد من التبن الجاف تقف بارتفاع نحو بوصة واحدة تقريباً. السماء زرقاء جافة قاسية، وهبّة هواء منعش من حين إلى حين، غير أنّ الحرارة أقل ارتفاعاً منها في الصباح حين كنّا نقطع المسافة بين نهر الأردن والبحر الميت. صهريج منحوت في الصخر على اليمين، ماؤه أخضر اللون رديء الطعم، استقرّ منه أبو عيسى بحبل. أحجار تبدو من أعلاها قمة جبل مورة التي يعلوها مسجد، والأحجار مرتّبة بحيث يخال الناظر إليها أنّها قبور.
■ المرجع: غوستاف فلوبير، رحلة إلى الشرق، ترجمة فريد الزاهي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2013.

كازنتزاكيس في جامع عمَر (1926 م)
استدرتُ لأرى جامع عمر يسمو أمامي تحت أشعة الشمس، مثل نافورة منحوتة من الحجارة النادرة، ترقى إلى السماء وتفور مياهها قليلاً في الهواء. ثم تدور على أعقابها متراجعة، وتعود ثانية إلى الأرض. فلم تعد لديّ رغبة في مغادرة المكان. دلفتُ إلى الداخل وأنا مفتون مسحور، كانت الأحرف العربية مجدولة كالأزهار، حروف تكرّس الحكَم والمواعظ القرآنية، تلتفّ حول الأعمدة، كأعشاب العنب المتسلّقة، ثم تزهر ثانية وهي تحيط بالقبّة. بهذه الطريقة كانوا يحتضنون إلههم الرائع، ويعانقونه بكروم العنب التي تزهر على هذه الأرض. لقد عاد الصفاء والانتعاش إلى عيني، وأنا أعبر العتبة حيث شعرت بالظلال الملوّنة لهذا الجامع، تغمرني، في البداية، ولأنني كنت قد قدمت من مكان شديد الضوء، لم يكن بإمكاني أن أميّز شيئاً سوى هذا الجوّ العذب اللذيذ الذي يظلّلني، ويُريح نفسي، لقد أحسست كأنني أدخل حمّاماً منعشاً لجسدي وذاكرتي، فأخذت أسير وأنا أنبض بالبهجة، وأرتعش أمام التوقعات. وهذه هي الطريقة التي سيعبر بها المسلمون المؤمنون ظلمة ما بعد الموت إلى جنان الله الباردة، كثواب عادل لهم.
أخذت أتقدم وأنا أمدّ ذراعي أمامي، وشيئاً فشيئاً أخذت عيناي تعتادان الجو، وتتلاءمان معه، إذ ظهرت النوافذ أمام عيني كأنها كوكبة من النجوم المتلألئة، وبدت القبّة المرصّعة بالذهب والزمرّد، تشعّ بالضوء الرقيق الجذاب، وبعد ذلك أخذت التفاصيل تبين، وتتراقص في تلك الظلال الزرقاء، الخطوط، الديكورات، والفقرات المأخوذة من القرآن، تكمن كلّها، كأنّها عيون نهمة لا ترتوي، خلف الغصون المزهوّة والمخلوقات السماوية.
وكان أحد المؤمنين، راكعاً على حصيرة من القشّ، يصلي، وهو يولّي وجهه شطرَ مكة، وقد ظلّ لمدة من الزمن وجبهته ملتصقة بالأرض، وهو واثق مطمئن، كأنه طفل صغير في حضن أمه، ثم بدأ يرفع رأسه ببطء إلى أن اعتدل في جلسته، وأخذ يحملق في القبة الذهبية ذات الخطوط الخضر. كانت عيناه تتابعان بانجذاب صوفيّ تلك الفقرات الخفية الغامضة لمحمد، وقد أحسست أن هذا الرجل غارق في حلم سحريّ، يطارد ظبياً جميلاً، وكم كانت غبطته شديدة، حين استطاع أخيراً أن يدرك أنّ كل هذه السطور الصغيرة المجدولة حول بعضها البعض لم تكن مجرّد لعبة فانتازية تافهة، وإنما هي أسطر من وصايا النبي السامية. المؤمن وحده هو الذي يستطيع أن يميز وأن يوائم بين هذه الأشكال الصعبة غير المنسجمة، ويوحّد بين الرسالة العظيمة والمعاني الروحية في قلبه، إنه لا يزدري الأشياء الظاهرة، ولا يبحث عن الجوهر خلف الدلالات الظاهرة، ولا يقيّد نفسه بهذا العالم المرئي والمحسوس، من دون أن يتوق إلى ما هو أكثر من ذلك. فالفكرة الجوهرية هنا، هي، من الذي خلق الروح؟ فكل هذه الحياة: الماء، الخبز، المرأة، الجبال، الحيوانات، ما هي إلا زينة الحياة الدنيا، وهي مجرّد متعة للقلب الذي يستطيع أن يوائم بينها، كي يستطيع الوصول إلى العمق الحقيقي للأشياء.
■ المرجع: نيكوس كازنتزاكيس، رحلة إلى فلسطين، ترجمة منية سمارة، محمد الظاهر، مؤسسة خلدون للدراسات والنشر، عمان، 1989.