لا توفر الصهيونية جهداً إلا وتبذله في سبيل القضاء على تراث فلسطين وفولكلورها وأطعمتها وأغانيها والرقص الشعبي وكل ما يُثبت تجذّر الإنسان العربي فيها منذ أقدم العصور في حملة ممنهجة لإخفاء وجه أجمل البلدان وأعرقها وأقدمها في مدائنها وأريافها وتقاليدها السابقة على الخرافات الصهيونية. حملةٌ هدفها قتل بشرها وتدمير حجرها وغرز الصواريخ في لحوم أطفالها وأبريائها. إنّ حفظ التراث وإحياءه واستلهامه هو عملية فائقة الأهمية يُقصد منها الحفاظ على الصفات القومية والوطنية لشعب من الشعوب، وما دأْبُ إسرائيل في طمس التراث الذي ينتقل بالذاكرة أو الممارسة إلا محاولة بائسة لقتل حيوية شعب مبدع في كل عدّة المواجهة بدءاً من الكلمة والأغنية مروراً بالرقصة والحداء والأهازيج والأزياء والفولكلور وليس انتهاء بالأنفاق والطائرات الشراعية وقذائف «الياسين» التي تبدو أليفة بين يدي أبطاله مثل أواني المطبخ الفلسطيني والتطريز البديع على فساتين النسوة. لم ينتظر الفلسطينيون الرحالة الغربيّين والمنظمات الغربية الخيرية ليجمعوا تراث بلادهم، بل جمعه مؤرّخوهم وأدباؤهم من فكتور سحاب ونمر سرحان ونضال فخري وغسان كنفاني وغيرهم، فصار من عدّة المواجهة الناجعة في وجه آلة القتل والتنكيل والمصادرة، فهذا الشعب العنيد لن يسمح أن تُدفن بصمته الحضارية وإسهاماته الإنسانية تحت الركام لتتناوله الدراسات الأنثروبولوجية والأثرية: الشعب الفلسطيني هو تلك المرأة التي تطوّق الزيتونة حين تقترب الجرافة لتقتلع الحقل، هو أولئك الأطفال بأغانيهم الضاربة في التاريخ، يغنّون لكلّ من يملأ أكفّهم الصغيرة بحبوب القمح، ويحملون بنادق آبائهم حين يغتصب المحتل بيوتهم وبيّاراتهم وملاعب طفولتهم وزيتونهم وحقولهم، هو ذلك الفدائي والمقاوم الذي يزهو السلاح في كفّه كما تزهر اللغة في كلماته وبياناته التي ينتظرها كلّ متعطّش للكرامة من الخليج إلى المحيط. نستكمل في «كلمات» جمع التراث الفلسطيني في مدنه وأريافه، فالتراث «بارودة» لا تصدأ في المعركة الكبرى بين الحضارة والهمجية على كامل التراب الفلسطيني.
عمل للفنان الفلسطيني الراحل عبد الحي مسلّم


مراسم الخطبة في رام الله
الخطبة أو – الحطط أو الصفاح – من التقاليد المتَّبعة في رام الله وسائر مدائن فلسطين ويجتمع الرجال في بيت والد العروس ليتم الإيجاب والقبول. ويتَّجهُ موكبٌ كبيرٌ من قريبات العروسين والجارات ونساء القرية إلى منزل والد العروس. وتحملُ قريبات العريس أطباق القش التي يوضعُ عليها القهوة والسكَّر والكعك. ويطوف الموكبُ في الحارات بينما تزغردُ النساء ويغنين:
واحنا جينا عَزومة مِشْ حَيا الله
وعَ صيت أبو فْلان في رام الله
وقد يُدفعُ المهرُ يوم الخطبة أو يتأخَّر، ويتفاخرُ أهل الريف بمبالغ المهر التي يدفعونها في سبيل الزواج. ويظهرُ ذلك في هذا البيت من «الدلعونا»:
وْعَ الزنزلختة وْعَ الزنزلخته
ريتك يا حلوة من حَظي وبختي
بدِّك أبادل بَبادل بأختي
بدَّك مصاري بَدْفَعْ مَلْيونا
ويردُ ذكر المهر والبدل في الكثير من الأغاني الشعبيَّة ومنها هذان المقطعان اللّذان يوردان معنيين متقابلين حول هذا الموضوع:
على دَلْعُونا يا مْدَلْعَنيِّة
وصاروا يُطلبوا في البنت مِيّة
صاح العزَّابي يَمَّا يا بيِّي
مْنلِّي مصاري أجيب المزيونا
■ ■ ■

بَداري في محبَّتكم بَداري
يلِّي أبْوابْكُم تِفتَح ع داري
وحُطِّ أخْتَك لَخُوي بدالي
وهذا الرايْ عِنْدي والجوابْ

الحداء والسامر في نابلس جنوب فلسطين والقدس
في ليالي ما قبل الزفاف وعلى المسرح المكشوف، يجتمع أهل القرية والضيوف. يجلسُ الكبار في السنِّ على الفراش – على الأرض – أو على حجارة البيادر، وفي أحسن الحالات يكون هناك عددٌ محدودٌ من الكراسي. ويصطفُّ جمهور المشاهدين على شكلِ قوسٍ كبيرٍ وكلٌّ منهم يتأبَّط ذراع الآخر. وفي الوسط، يقف الحدّاء يتمختر أمام الجمع ويقودُ فقرات السهرة وهو يروحُ ويجيء بحركاتٍ خفيفةٍ راقصةٍ ويلوِّحُ بعصا أنيقة. أمَّا الإضاءة، فكانت في السابق عبارةً عن نارٍ تشتعلُ طوال الوقتِ في أكوام هائلة من الحطب ثمَّ حلَّت محلها مع زمن «اللوكسات» (جمع «لوكس» وهو مصباح كبير) وحبال الأنوار الكهربائيَّة. وتبدأ الحركة الغنائيَّة بـ «طلعة» من لازمة «يا حلالي يا مالي» مثلاً. يقول الحداء:
يا حلالي يا مالي
ويردِّدُ الجمهور اللازمة، ثمَّ ينطلقُ الحداء:
اسْمَع لقولة باب أليف (الألفباء) اللي عَ حْروف الألفيَّة
يا حلالي يا مالي
ع البا ابتلينا بالهوى ارْتمينا بْعشرة قوية
يا حلالي يا مالي
ع التّا توَّهْ دليلي يا ابو العُيون الغظيَّة
يا حلالي يا مالي
ع الثّا ثلاثة وتِسْعَة راحِن مْنِ ظْلوعي سويَّة
يا حلالي يا مالي
ع الجيم جَملِكْ بارخْ وقومي ارْكَبي يا بنيَّة
يا حلالي يا مالي
ع الحا حِلْوِ المَباسِم هالبَعِد رُوحي وعينيَّ
يا حلالي يا مالي
ع الخا وخَلْخلِ ظْلوعي وخلَّاهِن شبيه الميَّة
يا حلالي يا مالي
علْدال دلُّوني بالبير وقطعو الحبَل بيَّة
يا حلالي يا مالي
علرا يا رنِّةِ حْجولُو شِبْه الرُّعودِ القويَّة
يا حلالي يا مالي
عَلْسينْ سَبا لَعَقْلي هلْبعِدْ روحي وعينيَّ
يا حلالي يا مالي
علشين شالَتْ ظْعونُه عَلَى حوران العَذيَّة
يا حلالي يا مالي
علصاد صادني بالشَّرك نصب لي حيلة قويَّة
يا حلالي يا مالي
ابتداء من جنوب نابلس حتى أقصى جنوب فلسطين راجت في ليالي السحجة أغنيات عُرفت بأغاني السامر وهي تختلف عن الحداء من حيث الأداء واللحن. بينما ينتمي لحن يا حلالي يا مالي إلى جنوبي لبنان ومشارف سوريا، فإنّ السامر بأنواعه ينتمي إلى لحنٍ بدوي، وهو يزدادُ اقتراباً من النغمة البدويَّة كلَّما اتَّجهنا إلى الجنوب والشرق. والمعروف أنَّ الأمطار والحياة الاقتصاديَّة عموماً تبدأ بالتضاؤل كلَّما اتجهنا إلى الجنوب والشرق، وتزدادُ ملامح نمط الحياة البدوية.
المثال الأوَّل من أغاني السامر هو الرائج في جنوب فلسطين ومنطقة القدس ورام الله. ويقف في هذا النوع من السحجة صفان متقابلان من الرجال يلتصقُ كل منهم بالآخر من دون أن يتأبط ذراعه كما هي الحال في السحجة الشماليَّة. ويقف أمام كلِّ صفٍّ من الصفَّين حدّاء وبيده عصا. والحداء هنا شيء للمهر فقط، فالحوار يتمُّ بين الصفَّين المتقابلين. وما دور الحداء إلَّا المنسق. فهو يقومُ بحركاتٍ بهلوانيَّةٍ محمِّساً جماعته ويصفِّق معهم على المقطع الذي سيسهمون به في الوقت الذي ينهمكُ الصف الآخر بترديد مقطعه. يقول أحد الفريقين مثلاً وهو ينحدرُ منحنياً باتِّجاه الأرض في حركة نصف ركوع:
أوَّل كلامي بَصَلِّي ع النبي الهادي
ويكرِّرُ الفريق المقابل. ثمَّ يعود الفريق الأوَّل ليردِّد نفس المقطع، ويكرِّرُ الفريق المقابل ثمَّ يبادرُ الفريق الأوَّل بإلقاء شطرةٍ جديدة:
محمَّد اللِّي عَليه النُّور بزْيادِة
ويكرِّر الفريق المقابل. إلَّا أنَّه بعد دقائق، يبادرُ الفريق الثاني إلى إلقاء مقطعٍ جديدٍ من عنده بالتفاهم مع قائده كأن يقول:
مسِّيك بالخير وياللي جاي ومِتْعَنِّي
ويقول الطرف الآخر بعد التكرار:
مسِّيك بالخير ميِّل ما عليك منِّة
ثمَّ يتناوب الطرفان تكرار عددٍ كبيرٍ من الشطرات تكادُ تكون معروفةً ومحدودة:
يا زايرين النبي وِشْ وصْفِةِ حْجاره
سعيد مِنْ راح لحَرَمِ النبي وزاره
يا زايرين النبي وِشْ وصْفِةِ المِفْتاح
سعيد مِنْ راح لقَبْرِ النبي سوَّاح
يا زايرين النبي وِشْ وصْفِةِ القبَّة
يا سِعِدْ مِنْ راح لقَبْرِ النبي وحَبَّه
وينتقل السامرون من موضوع إلى آخَر من المديح النبوي إلى المرأة التي تستأثر بقسم كبير من فقرات الحداء:
يا بنت أمير العرب يا ام العباية السودا
وأبوك شيخ العرب حاكم على العوجا
غزلان بأرض السهل يمشنّ ويرعين
معهن طلاحي ورَق طول الليل يقرين
وحلمت يا زين أنّك بالمنام عندي
وأبيض من القطن وأنعم من حرير هندي
هبّ الهوا بالباب قلت الريح جاب أخبار
خلّيك يا قلب ع فراق الوليف صبّار
سلّم على حبيبي يلّي تروح عنده
سلّم عليه بالوما لا يسمعك زنده

الدبكة في الجليل وحيفا
الدبكة رقصة شعبية تعمُّ بلاد الشام بأجمعها. وقد برز فيها أهل فلسطين، ولا سيَّما سكَّان الجليل وكرمل حيفا. وتتم هذه الرقصة على أنغام الشبابة أو البرغول ويقف «الزمار » أو العازف في وسط الحلقة ليعزف المقدمة فيتنادى الشباب إلى حلقة الدبكة ويتسابقون إليها. ويقف اللويح – أو القائد – وينضم إليه الشباب الذين يشبك منهم الواحد ذراعه بذراع الآخر، تاركين أذرعهم ممدودةً أفقيّاً ومتشابكة، أما المبتدئون فيصطفون في ذيل الحلقة محاولين جهدهم أن يتعلّموا . ويسمى الأخير منهم «على الجحشة».
ويستطيع اللويح الانفصال عن المجموعة والعودة إلى الحلقة المفتوحة وقتما يشاء. وعندما تبدأ الدورة ينطلق مغنٍّ بطلعة دلعونا أو جفرة أو زريف الطول، حق إذا ما انتهى من الغناء حمى وطيس الدبكة وتصاعدت أصوات تدل على فرط الانسجام مع الرقص مثل «تَهْ تَهْ تَهْ» أو «اِنزل» أو «اُربط». وفي العادة، يمسك اللويح بمنديل أو بعصا قصيرة يلوح بها ويثني ذراعه وراء ظهره وهو يطوي جسده ويثنيه بمهارة وحيوية فائقة والشاب «المتعنتر» يرفض أن ينزل إلى الدبكة إلا لواحاً أو تحت يد اللويح. ومن أنواع الدبكة الشمالية، نسبة إلى شمال فلسطين وتتم هذه الدبكة على أكثر من عشرة أنواع من لَيِّ الرجل اليمنى وثنيها. وهناك الغزالة وتتم بثلاث ضربات شديدة بالرجل اليمنى. ودبكة الطيارة تعتمد على خفة الحركة وسرعة القفز وقد يقفز اللويح أكثر من خمس قفزات. وكثيرون هم الذين يخرجون من هذه الدبكة ولا يصمد فيها إلا القليل لأنها مجهدة. وهذه الدبكة قديمة تعود أصولها إلى أقدم العهود، وقد بقيت في تطوّر واستمرار حق يومنا هذا، وهي تعكس حيويَّة الشباب وانطلاقهم. وتشبه الخليليَّة الطيَّارة في كونها دبكة مجهدة وتحتاجُ إلى مزيدٍ من الاهتمام والانضباط.
وتكون البداية لمعظم الدبكات متشابهة وهي عبارة عن حركة تشبه «خطوة تنظيم» وعندما يطلع المغني مع العزف في أغنية كهذه:
مرَّت في الحارة تمشي وتزومي (تتمختر)
اليظهر ع دار الفرح معزومة
للْكَبرة يا عالم مافِشِّ لْزومِ
وما أحلا التواضع لَلِّي يحبُّونا
وفي آخر الأغنية، يكون اللويح قد انفرد، وعندما يرى أن حركات الأرجل لها نغمٌ واحدٌ يقول: دَيِّح. وتبدأ التريحية بحركةٍ خفيفةٍ للأمام والخلف بالأقدام. وبعد ثوانٍ يقول اللويح «اطلع» ويبدأ تكنيك الدبكة.

الرقص في قلقيليا والجليل
- رقصة بدَّر: هي رقصة فلسطينيَّة صميمة يُعتقد أنَّها نبعت من بلدة قلقيليا. وتتسم هذه الرقصة بطابعٍ خاص يختلف عن الدبكة إذ يقف صفَّان متقابلان من الراقصين ويردِّد كل منهما مقطعاً من أغنية «بدَّر قمرنا بدَّر» ويردُّ عليه الطرف الآخر. ثمَّ يبادر الطرف المقابل بترديد مقطعٍ جديدٍ من الأغنية. ويضربُ كلُّ فريقٍ الأرض بالقدم اليمنى مرتين ثم يثني الساق اليسرى على الساق اليمنى. وللقارئ مقطع من أغنية بدر التي تصاحبُ الرقصة:
بدَّر قمرنا بدَّر
واشْرَفْ علينا لَلدّار
وبْعيني شُفتِ المحبوب
عَ الفَرشِة حَلَّ الزُّنَّار
وبْعيني شُفْتُه شُفْتُه
بالحمرة سابِغْ شِفْتُه
صِدْرِكْ يُومِنْ كَشَفْتُه
فاحت عِلبةِ العطَّار
- رقصة السامر: يصاحبُ غناء «السامر» اهتزازات الجسد وصفقة بالكفين، فبعد أن ينتهي صف السامر من ترديد المقطع يكون قد انتهى من الحركة الراقصة والتي هي عبارة عن انحناءة وضرب الأرض بالقدمين ثم الاعتدال ثانية.
- رقصة الخيول والجمال: وهي أقدم ما في فلسطين من تراث عربي فني حيث يسجل لنا التاريخ الاستعراضات العربيَّة الفنيَّة لمثل هذه الرقصات في أفراحهم واستعراضاتهم. وهذه الرقصة معروفة في أقصى جنوب فلسطين حيث تُدرَّب الخيول والجمال كما يريد أصحابها منذ الصغر على الاستجابة لنداءاتهم وللرقص.
- رقصة الجلوة: تتجلَّى العروسُ عادةً أمام عريسها وهي تحملُ بيديها شمعتين ويكون الرقص هذا هادئاً لا تهزُّ فيه ردفيها إلَّا بحركةٍ خفيفةٍ إن دعت الضرورة. وتعتمدُ على حركات الجذع. وأهمُّ حركاتها هي حركات اليدين اللتين تحملان الشموع الموقدة.
- رقصة السيف: وهي منتشرة في أماكن متعدّدة، وخصوصاً المناطق البدوية. وفيها تنزل المرأة في حلقةٍ كبيرةٍ من الرجال ومعها سيف ترقص بـه. ويحاول كلٌّ منهم لمسها إلا أنها تتّقي لمسته بالسيف. ولا يغامر أحدهم بالاقتراب منها إلا إذا أمن ضربة السيف وعندئذ يُقال: «علَّم فلان على فلانة». والراقصة الماهرة هي التي لا يمسّها أحد. والرقصة في الواقع تعبيريَّة رمزية تشير إلى الجنس برموزٍ واضحة. وهذه الرقصة آخذة بالاختفاء السريع والانقراض. وقد مارست الراقصات المحترفات هذه الرقصة في السحجات في أنحاء فلسطين.
- رقصة حبل المودَّع: وهي رقصة معروفة في الجليل وفيها يصطف الرجال والنساء والتعاقب في حلقة ويدبكون دبكةً قريبةً من الدبكات الشمالية ويصاحبها غناء مرح.

تراث أدب الأطفال والعمّال في مناطق فلسطين الزراعية
تبرز أغنيات الأطفال يوم الانتهاء من أعمال البيدر وتصفية المحصول وتكويمه في كومة كبيرة تسمّى«الصليبة»، إذ يجتمع أطفال الحارة ويتقدمون من صاحب «الصليبة» طالبين منه شيئاً من الحبوب وذلك ليهرعوا إلى الدكّان فيستبدلوها بأنواع من السكاكر، وبعد أن يفرّغ كل منهم ما في طرف ثوبه يغنّي:
الله يعطي اللي أعطانا
ويطعمه من منانا
وتراهم يهزجون في الحالة المخالفة إذا رفض صاحب البيدر أن يمنحهم شيئاً:
الله يحرم اللي حرمنا
ويحرمه من منانا
وكذلك يمكن أن يُقال بالنسبة إلى أغنية الأطفال المشهورة عن «دود الصيف»، فالمعروف أن الأطفال القرويين، وخصوصاً في الصيف يهيمون على وجوههم في «الحواكير»، والحقول القريبة وفي الطرقات يتسلّون بأي شيء... في اللعب... وقطع الأزهار البرية... والعبث بالأعشاب... والركض وراء الفراش وحتى وراء النمل، ودود الصيف. وإذا ما رأى الأطفال ثقباً يخرج منه النمل، فإنهم يتجمّعون حوله بقصد اللعب والعبث ويأخذون في معاكسة النمل وتحدِّيه وذلك لما يرون في هذا العمل من متعة غامرة. ويسود الاعتقاد لدى الأطفال القرويين أن النمل يرقص بفعل الغناء كما يرقص الآدميون الذين يرونهم في الأفراح الشعبية. ولكي يوحوا إلى النمل بالرقص، فإنهم يأخذون في الرقص والغناء حول الثقب الذي يخرج منه النمل ويهزجون:
حرقص برقص قوم ارقص يا دود الصيف
اوْعَ تُشَعْبِط علينا يا دُودِ الصيف
■ ■ ■

واحــــــد اثنين بالتركي
يا مقصوفة ما أحسنك
ما أحسن دقة خلخالك
الزين واقف قدامك
وما من شك في أن الأطفال حفظوا مثل هذا الغناء عن الكبار وعلى وجه العموم، فإنّ أغاني الصغار تتناول أغراضاً عادية وبسيطة تحمل طياتها رغبة الأطفال باللعب والتمتع بظواهر الطبيعة الواضحة كالمطر والشمس والقمر واحتفالات العيد وغيرها كما في النصوص الآتية:
اشتي يا دنيا وزيدي
بيتنا حديدي
عمنا عبد الله
رزقنا على الله
■ ■ ■

شمسي يا الشميسة ع عروق عيشة
عيشة بنت البابا بتلعب ع الشبابا
ولا ينام الطفل إلا بعد أن تغني له تهويمات خفيضة حنونة تتملّق رغبته في النوم وهدوءه ونعومة أطرافه كهذه التهويمة:
نِنِّي يا عين محمد يا عين الحمام
محمد بدُّو ينام ع ريش النعام
نار الحطب تنطفي نار الحبايب دوم
وأهل الغريبة سكارى ما عليهم لوم
ولهم أغاني الختان باسم «الشلبي» وتجتمع النسوة لنغني للطفل الذي سيُختن ذلك اليوم. وبينما يقوم «الشلبي» بمهمته تغني الأم والجارات والصديقات :
طهّره يا شلبي وناولُه لَمُّه
ويا دْموعِ الغالية نزلتِ عَلَى كُمُّه
■ ■ ■

وطهِّره يا شلبي وناوله لْخاله
يا دموعه الغالية نزلت ع خلخاله

بينما تتسم أغنيات العمل بلحنها السريع وموسيقاها التي تساعد على الترفيه عن النفس كما في الأغنية التي يرددها قاطفو الزيتون:
حبة قضامي
فيها اللظامي (التتابع)
يا مين يتقظم (يتسلى)
يا فلان يتقظّم
عليش يتقظّم
على وزّة محشية
وبالسمن مقليّة
يوكلها ويجوّد
وعالزيتون يهوّد (ينزل)

ولم تكن التسلية وحدها مبتغى المغنّين أثناء العمل، بل عكسوا في أغانيهم انطباعاتهم عن التعب والشقاء والعمل كضرورة لئلّا يمد المرء يده للآخرين مستجدياً أو مستديناً أو خوفاً من أن يبيع أرضه أو بقرته، وهي وسائل إنتاجه التي يحتاج إليها في معيشته ومعيشة أطفاله، وفي هذا المعنى يقول المغنّي الشعبي:
لألقط بإيديي الثنتين
من خوف العازة والدَين
لألقّط بصابيعي العشرة
من خوف أبيع البقرة
وإذا أرادوا إكرام ضيف مميّز غنّوا:
ع اليوم يا بقرتي لبنك رباعيّه
لأحلب وملّي وأسقي الأفنديّة

أما رغبتهم الجامحة في امتلاك مختلف الأطعمة التي حرمتهم منها الحرب، يقول الشاعر:
شويّة فسيخة جاتني حافية على القدم
طلبت لحربي في حومة الميدان
سحبت سيف من فجلْ ودبّوس من بصلْ
نزلت أحاربها بالرغفان
هجمت على الطابون طارت غطاته
فزع عليي بأكبر الرغفان
ثمانين رغيف اللي أنا أكلتهم
غير المحروق ويلي طايله عْفان
وحين يموت المزارع أو العامل يدفن في السهل مع بارودته فتندب النادبة:
طلّت البارودة والسبع ما طلّ
يا بوز البارودة من الندى منبلّ
بارودته بيد الدلال ربيتها
لا عاش قلبي ليش ما شريتها
وبارودته لقطت صدى ع قرابها
لقطت صدى واستوحشت لصحابها

* المرجع: نمر سرحان، «أغانينا الشعبية»، منشورات دائرة الثقافة والفنون، عمان، 1968.