كانت فلسطين ولمّا تزل أجمل البلدان، والقلب النابض لبلدان الشرق وأوطان العرب والمشارقة، وقدسها زهرة المدائن، وبهية المساكن، وكانت عامرة بأهلها وعمرانهم وتراثهم وثقافتهم ومؤسساتهم الحضرية والمدنية، ومسارحهم ومناسباتهم الأدبية والثقافية التي يتقاطر إليها الأدباء والفنانون والشعراء من كل حدب وصوب قبل أن يغتصبها الصهاينة ويعيثوا فساداً وخراباً في كل ما أسّسه أبناء الأرض السليبة من الكليات والجامعات والنوادي والمسارح وغيرها. هنا، نغوص في مذكرات سيدتين فلسطينيتَين مقدسيتين عاشتا الفترة الذهبية لفلسطين والقدس قبل نكبة 1948وكانتا شاهدتين على النهضة الفلسطينية في كل الميادين: عنبرة سلام الخالدي (1897-1986)، ابنة سليم علي سلام كبير زعماء المسلمين البيارتة في زمانه، الذي استدعى شيخ الأدباء اللبنانيين عبد الله البستاني ليسهر على تدريسها اللغة العربية في البيت، وتوسّم فيها ميلاً إلى التحرر فخطبت في الرجال سافرةً في حفل عام، ثم اقترنت بأحمد سامح الخالدي، رائد التربية الحديثة في فلسطين. انتقلت معه إلى القدس، لتنشط في الحركة النسائية هناك وانكبت على ترجمة الإلياذة والأوديسة بأسلوب عربي نثري سلس وتركت لنا مذكرات لا تُقدر بثمن عن ذكرياتها بين بيروت والقدس. أما السيدة الأخرى فهي هالة السكاكيني (1924-2002)، ابنة المربي الفلسطيني خليل السكاكيني التي ولدت في البلدة القديمة في القدس وأنهت دراستها فيها في الثلاثينيات. وخلال نكبة 1948، غادرت مع العائلة حي القطمون في القدس الغربية إلى مصر، لتعود في وقت لاحق إلى رام الله وتمارس مهنة التعليم في رام الله وبيرزيت، وتؤسس مع أختها دمية مركز خليل السكاكيني في رام الله عام 1998 وتترك لنا شهادة ثمينة في كتابها «أنا والقدس: سيرة ذاتية» عن الحياة الحضرية والثقافية، وملحقاً بيومياتها في القدس في زمن الحرب: ننشر في «كلمات» كوكبة من تلك الذكريات لجيلٍ آت لا محالة ليُعيد بهاء القدس، كما تقول الأغنية
قصة إنشاء الكلية العربية في القدس
كان منزلنا الزوجي الأول في حي باب الساهرة، وهو على خطوات قليلة من سور البلدة القديمة، ومجاور لأبنية استؤجرت لتكون مقرّاً للكلية العربية التي يجب أن يكون مسكننا قريباً منها. وفي هذا المنزل، تأسّس بنيان حياتنا العائلية الهنيئة، وتمّ تعارفي على عشيرتي الجديدة وموطني الجديد. بعد إقامتي فيه ست سنوات، انتقلنا إلى منزل آخر بَنَته الحكومة ليكون مقرّاً لمدير الكلية العربية، وهو تابع لأبنيتها منفصل عنها، لا يجمعه بها إلّا مدخل واحد. وقد قرّر أن تكون أبنية الكلية الجديدة في أرض فسيحة خارج البلدة وإلى الجنوب منها. وهناك اتّخذ المعهد شكلاً لائقاً باسمه، يضمّ غُرفاً متسعة للدرس وأخرى صحيّة للنوم تتسع لأكثر من مئة تلميذ. وخصّصت لهم المختبرات الحديثة وقاعات الاجتماعات والمحاضرات العامة والطعام، وأُقيمت لهم في أرضه الفسيحة الحدائق الزاهرة والأشجار الظليلة والملاعب الواسعة والساحات المُخصّصة لإقامة المباريات المختلفة.

صورة تاريخية للقدس خضعت للتنقيح على يد منير علاوي عام 2011

وكانت الأبنية جميعها تبعد أكثر من كيلومتر عن طريق بيت لحم العام، ويحيط بها من بعيد مقرّ المندوب السامي من جهة، وقرية صور باهر من جهة أخرى، ثمّ مستعمرة تل بيوت اليهودية في زاوية ثالثة. وهذه الأبنية جميعها تطلّ على جبال مؤاب من الشرق وعلى قسم كبير من القدس من الشمال. وفي عام 1947، تقرّر إضافة مبانٍ أخرى إلى الكلية العربية وبدء العمل على إنشائها، ولكن اشتداد الاضطرابات بين العرب واليهود، وما تبع ذلك من هجرة، أوقف كلّ بناء في فلسطين وبالطبع توقّف العمل في هذه الأبنية.
وأذكر أنّه كان ما زال هناك نحو مئة ألف جنيه فلسطيني في «بنك باركليز» مخصصة لها. فألَّف (زوجي) أحمد قبل تركه القدس لجنة قوامها نافذ الحسيني وأنطوان عطا الله، وعهد إليهما بهذا المبلغ للإنفاق منه على إتمام العمل إذا حدث ما يؤخره هو عن القيام بذلك. وإذا توقّفت الكلية العربية لسبب ما، فإنّ هذا المبلغ يحوّل إلى أي عمل تربوي لعرب فلسطين.
وكانت مدة الدراسة في الكلية العربية أربع سنوات ثانوية وسنتين أو ثلاثاً جامعيتين، وكانت الخطة المرسومة هي إلغاء السنوات الثانوية تدريجاً وتحويلها إلى كلية جامعية، وبُدِئَ بذلك فعلاً سنة بعد سنة، حتّى لم يبقَ حين توقّف العمل إلّا سنة واحدة ثانوية، وكانت الأبنية الجديدة ستُخصّص لهذه الغاية.
وإذا كانت أبنية الكلية قد اندثرت، والآمال المعلّقة عليها توقّفت، فإنها ما زالت حيّة في أبنائها، فقد كانت الكلية هدف كلّ فتى فلسطيني في المدارس الأهلية، ولا يتسنى دخولها إلّا لمن تؤهله دراساته الممتازة ليكون مختاراً من بين رفاقه المتنافسين على الانتساب إليها، فهي أرقى معهد في إدارة المعارف، يقوم على التدريس فيها أساتذة متخصصون في فروعهم من خريجي جامعات أوروبا وأميركا، وتُعطى الدروس حتّى العلمية منها باللغة العربية، وتدرّس الإنكليزية وآدابها كلغة أجنبية، وكان خريجو الكلية يستقبلون بالترحاب من جميع الجامعات التي يقصدونها لتمكّنهم من العلوم التي كانوا يتلقّونها بنجاح وتفهّم.
ولا نزال إلى اليوم، نجد أنّ الكثيرين من الفلسطينيين الناجحين في مختلف الأعمال سواء أكان ذلك في فلسطين ذاتها أو في بلاد الهجرة، هم من خرّيجيها ومن تلامذة أحمد سامح الخالدي، ويفخرون بانتسابهم إليها.

سرقة طريفة ولصوص شرفاء
تحضرني هنا قصة طريفة ذات مدلول بعيد على المكانة التي كانت لأحمد في بيئته وبين قومه، وهي أن بيتنا قد تعرّض في إحدى الليالي لسرقة شملت الطابق الأرضي بما فيه من سجاد وفضيات وشراشف ومعاطف وبعض الثياب، حتّى إنّ ستائر النوافذ جذبت من حلقاتها وضُمت إلى المسروقات. وحينما استيقظنا صباحاً، وجدنا الأثاث الثقيل مقلوباً والغرف تكاد تكون خالية. واستُدعي البوليس بالطبع، فأتى بعدده وعدته ومستشاريه الإنكليز وكلاب الأثر، فأخذوا كل التفاصيل والبصمات ولبثوا يومين يعاودون الكرّة من دون جدوى، وذكرت الجرائد حديث السرقة، ثمّ صمت كلّ شيء. وبعد ذلك بأيام قليلة، رنّ جرس التلفون في البيت وقال المتكلم: «أنّ لكم أغراضاً على الطريق العام بين منزلكم وطريق بيت المندوب السامي، فأرسلوا من قبلكم رجالاً يتسلّمونها حالاً، ولا يحاولون البحث عنّا لأنّهم لن يجدوا أحداً بقربها». فوجمنا غير مصدقين، ولكنّنا قرّرنا الاستجابة للطلب، وإذا برجالنا يعودون بعد مدّة قصيرة محملين بأكياس كبيرة جداً من الخيش لم نكد نبادر إلى فك عقدها، فرحين مدهوشين، حتّى فوجئنا بورقة على وجه أحدها كُتِب عليها بخط رديء ولغة ركيكة ما يلي حرفياً: «حضرة الأستاذ أحمد سامح الخالدي المحترم. أبعث إليكم أغراضكم راجين العفو والمعذرة، ولو كنّا نعرفه بيتكم لقطعت الأيدي قبل أن تمتد إليه، وما حصل فهو غلط وقد أصلحناه ودمتم للداعي لكم فلان الفلاني». ولا نزال نحتفظ بهذه الورقة إلى الآن، وقد وجدنا حقّاً أنّ جميع المسروقات قد عادت إلينا حتّى الثياب التي كانت قد اتّسخت بعد ارتدائهم إيّاها.

جهد أدبي نسوي فلسطيني
حينما أسّست الإذاعة في القدس وتسلّم إدارتها صديقنا شاعر فلسطين المرحوم إبراهيم طوقان، دُعيت إلى افتتاح الحديث النسائي فيها، فاخترت أن أتحدث عن سكينة بنت الحسين، لأنّني أعتبرها رائدة في التحرير النسائي والأدب الرفيع. ثمّ توالت أحاديثي متنوعة أغلبها ذات صبغة نسائية، وكذلك سجّلت لي أحاديث من إذاعة لندن، عدا عن مقالات كانت تنشر هنا وهناك. ثمّ عكفت على ترجمة الإلياذة والأوديسة عن الإنكليزية. ومع أنّي نقلتها نثراً عن كتب مقتضبة نسبياً، فإنّي بعد المقابلة بينها وبين المطولات، أقدر أن أجزم بأنّه لم ينقصها أي غرض من الأغراض أو معنى من المعاني الواردة في الأصل المطوّل، وقد التزمت فيها بناء الأسماء الأعجمية بحسب تعريبها من قبل الأديب البحّاثة المدقق سليمان البستاني، الذي ترجمها حرفياً شعراً من أصلها اليوناني عام 1903. وتحفة البستاني الكبيرة هذه، جوهرة من جواهر المراجع في الأدب العربي، فلم يترك شاردة ولا واردة إلّا وعلّق عليها من بحر علمه، وراجعها إلى ما يشبهها في الأدب العربي، ناهيك بالمقدمة التي هي بذاتها مرجع رائع وكنز من كنوز المكتبة العربية. أمّا ترجمتي، فقد تفضّل أديب عصرنا الدكتور طه حسين فوضع لها مقدمة كانت لفخري وتشجيعي. فانصرفت بعد هجرتنا إلى بيروت إلى إضافة ترجمة للإلياذة التي أعتبرها مكملة للاثنتين السالفتين. وكنّا دائماً نتبادل الانتقاد فيما يكتب هو أو أكتبه أنا، فلا تمرّ صفحة من صفحاته إلى المطابع، إلّا بعدما أطلع عليها، كما أنّني لا أكتب كلمة إلّا ويراها قبل أن تأخذ صفتها النهائية، وكثيراً ما أرجعت له خطاباً بكامله لإعادة كتابته من جديد، لاعتقادي أنّه ليس بالمستوى اللائق به، أو أنّه من جهته يُلغي لي مقالاً لا يراه مناسباً، أو نتفق على تغيير بعض الكلمات أو تصليح بعض الفقرات.

مواجهة الدعاية الصهيونية
كنت عضوة في لجنة المراقبة على الأفلام، لإبداء وجهة نظر المرأة في ما يعرض منها، كما كان في اللجنة سيدة يهودية أيضاً، عدا بقية الأعضاء، فكنّا نجتمع عند حاكم البلد كلما اقتضت الضرورة، ومن الأعضاء مدير البوليس الإنكليزي ومندوب إدارة المعارف، ومندوبون عن مؤسسات مختلفة، وقد جيء يوماً بفيلم يعرض الجهود الإنمائية القائمة في فلسطين، وطبعاً اغتنم اليهود الفرصة وأدخلوا فيه كل ما يقومون به من جهود جبارة في استيطان الأراضي، وإقامة المصانع، وطرق التدريس وتوجيه العمال الخ... أما الوجهة العربية، فقد تمثّلت بعرب يركبون الزوارق في الأنهر ويحيكون الحصر والخيام لسكنهم وتلبس نساؤهم الملابس التقليدية ويسير أولادهم نصف عراة. ولا أقدر أن أصف ما نالني من الغيظ لهذا التحدي الوقح الذي فاق كل حدّ، فقلت: «لن أسمح بعرض هذا الفيلم، وفيه كل المساس الجارح لشعورنا، وإذا مثلتم الجهة اليهودية بازدهارها، فأين مصانعنا، نحن العرب، وأين جهودنا، وأين بياراتنا التي تصدّر منتوجاتها إلى كل أنحاء العالم؟ وأين أحياؤنا الجميلة ومدارسنا الراقية؟» فردّت السيدة اليهودية بخبث: «إن مناظر هؤلاء البدو جذابة للغاية». فأجبت: «قد يكون، ولكن كان يجب أن يُعرض مقابلها حيّ مشاريم مثلاً، وما يشبهه من أحياء اليهود البدائية». عندها تدخّل الحاكمة وقال: «أعتقد أنّ السيدة خالدي على حق وأطلب إيقاف الفيلم».

* المرجع: عنبرة سلام الخالدي ـــ «جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين» ـــ دار النهار، 1997.

القدس موطن الأدب والفن
في صيف كلّ سنة، كان يأتي إلى القدس ضيوف بارزون من الدول العربية المجاورة لإعطاء محاضرات في بعض النوادي، ولقاء الكتّاب والمربين الفلسطينيين. ومن الذين زارونا في البيت، صديق والدي الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقّاد. كان شخصية مثيرة للإعجاب، ورجلاً ذا مظهر جليل وملامح نبيلة. ومن مصر أيضاً كان من ضيوفنا الدكتور محمود عزمي، الصحافي والسياسي والمفكر المعروف، وكان ينزل في بيتنا في كلّ مرّة نحو أسبوع برفقة زوجته الروسية المولد، وخريجة جامعة السوربون. وقد زارنا أيضاً الكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة. أذكر أنّه كانت له ملامح أثيرية، ملامح فيلسوف وشاعر خالصة. وزارنا الكاتب المصري الشهير طه حسين في تشرين الأول (أكتوبر) 1942.
اخترت أن أتحدث عن سكينة بنت الحسين، لأنّني أعتبرها رائدة في التحرير النسائي والأدب الرفيع (عنبرة الخالدي)


أحياناً في الصيف، كانت تأتي إلى القدس فرق مسرحية مصرية ضمن جولة في الدول العربية لتقديم بعض العروض. وفي إحدى السنوات، أظن أنّها كانت سنة 1943، حضرنا أنا والعائلة مسرحية اسمها «الستات ما يعرفوش يكدبوا» للممثل الكوميدي الكبير نجيب الريحاني. كانت «سينما صهيون»، حيث عرضت المسرحية، مملوءة عن آخرها. وكان آل فرّاج وآل ديب هناك، كذلك، أتت إلى حضور المسرحية جين زفريادس ووالدها مع أنّهما يونانيان، كان الريحاني مدهشاً. وفي اليوم التالي، عندما كنّا نتحدث بحماسة عن العرض، تذكّرت العمة ميليا المسرحيات التي كانت قد حضرتها قبل سنوات عديدة. ومن الممثلين الذين كنت محظوظة لرؤيتهم على المسرح الأخوان عكاشة الشهيران في مصر، كما شاهدت الممثل التراجيدي جورج أبيض في دور لويس الحادي عشر في المسرحية التي تحمل الاسم نفسه، وأيضاً الممثل المصري الشهير يوسف وهبي في دور الكاردينال في مسرحية «كرسي الاعتراف» (عرضت هذه المسرحية في «جمعية الشبان المسيحية» في صيف عام 1935).

تسلية ومسرح عرائس وأجواء رمضانية
هذا يذكرني بنوع آخر من التسلية كان شائعاً وشعبياً في القدس منذ بداية القرن حتّى نهاية العشرينيات؛ كان ذلك مسرح العرائس المسمّى «كركوز وعواظ» الذي كان يُقام في مقهى واسع داخل باب دمشق (باب العمود ــ ما زال هذا المقهى قائماً ومزدهراً، وهو أحد المقهيين الواقعين يمين الطريق المؤدي إلى الباب). ففي كلّ سنة، كان يأتي رجل من طرابلس (لبنان) خلال شهر رمضان ليقدّم عرضه لأهالي القدس، وكان الرجال من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية يتوافدون إلى المكان لمشاهدة العرض. وقد ذهب أبي عدّة مرات برفقة صديقه الشاعر العراقي معروف الرصافي، وتلميذه السابق جورج خميس. كان العرض يتضمّن شخصين فقط، يؤديهما شخص واحد، الرجل الآتي من طرابلس، الذي كان في رأي والدي ممثلاً موهوباً. لم يكن قادراً على تغيير صوته بين الشخصيتين فقط، بل كان بارعاً في ارتجال مواقف مضحكة أيضاً. كان الحوار يتغيّر من عرض إلى آخر بحسب نوعية الجمهور. فمثلاً، عندما كان يلاحظ وجود أبي وأصدقائه بين الحضور، كان يستخدم إحالات ذكية على موضوعات أدبية، وتلميحات إلى مشكلات اجتماعية وسياسية محلية، ولم يفشل عرضه قط في إثارة الكثير من الضحك. كان محط إعجاب شديد من كلّ من حضره. وفي أثناء العرض، كان العمل في المقهى يستمر كالمعتاد، الرجال يتابعون العرض وهم جالسون على مقاعد منخفضة ذات أربعة أرجل، ويدخّنون النرجيلة ويشربون القهوة التركية. وعندما يأتي رمضان في الصيف، كان العرض يُقام على سطح ذلك المقهى في الهواء الطلق.
كان رمضان يتجلّى في البلدة القديمة أكثر من أيّ مكان آخر في القدس. في ذلك الشهر، كانت البلدة القديمة تستحق المشاهدة في الليل، حيث الجو الاحتفالي جَليّ في كلّ مكان. فحتّى أصغر دكان كان مُضاءً ومزيناً، لكن مركز الجاذبية كان محلات الحلويات، التي كانت تمتلئ بصوان كبيرة تتكدّس فيها الحلويات العربية: كرابيج حلب، بورمة، بقلاوة، كنافة، بوغاشة، زنود الست، أصابع زينب، كول وشكور، مطبّق، وطبعاً القطايف التي لا تصنع إلّا في رمضان، تلك الفطائر الدائرية الصغيرة المطوية على شكل نصف دائرة، والمحشوة بالجوز المجروش أو الجبنة الحلوة والسكر، والتي تُخبز بعد أن تُدهن بالزبدة، وعندما تخرج من الفرن تُشرّب بالقطر وتؤكل ساخنة. لا يمكن تصور رمضان من دون قطايف.
في إحدى ليالي رمضان، ذهبنا أنا ودمية مع سريّ وصديقه ياسر عمرو في سيارة أجرة إلى باب يافا (باب الخليل)، ومنه دخلنا البلدة القديمة سيراً على الأقدام: نزلنا الدرجات عبر السوق، ثمّ استدرنا في منتصف الطريق إلى اليسار أسفل التلّة ومشينا مسافة طويلة عبر الأسواق وصولًا إلى باب دمشق (باب العمود) حيث عدنا بالسيارة إلى القطمون. وعلى امتداد هذا الطريق، كانت مظاهر رمضان في كلّ مكان، الأزقة الضيقة مزدحمة بالناس، والمقاهي مملوءة بالزبائن، وهنا وهناك، يقف رجل قرب الجدار في إحدى الزوايا، وأمامه صينية على حامل ثلاثي الأرجل يبيع صنفاً أو آخر من الأطعمة الشهيّة: تفاح الشام، وهو مصاصة حمراء على شكل تفاحة على أعواد طويلة؛ غزْل البنات، وهي حلوى وردية منفوشة مثل القطن ومصنوعة من السكر؛ تمرية، وهي مثلثات من العجين محشوة بالقشطة ومغطّسة بالقطر؛ الكعكبان، وهو شرائط طويلة من حلوى السكر. ويتجوّل بين الجموع رجل يحمل على صدره صندوقاً زجاجياً كبيراً مُعلّقاً حول رقبته بحمّالة من الجلد. كان هذا بائع البرازق، وهي كعكات دائرية رقيقة مقرمشة ومغطاة بالسمسم، وهي حلوى أخرى لا تظهر إلّا في رمضان. وكان رمضان أيضاً موسماً جيداً لمحلات بيع التسالي (جميع أنواع المكسرات والبذور المملحة).

ليالي السمر في رام الله وعين كارم
كان ثمّة مزيد من مثل هذه المقاهي، أو بالأحرى الفنادق، في بلدة رام الله الصغيرة غرب القدس، وكانت هي الأخرى ذات شعبية كبيرة. في الصيف، تكون حركة المواصلات إلى رام الله كثيفة، وخصوصاً في عطل نهاية الأسبوع. كان والدي يفضّل رام الله على بيت جالا، ولهذا كنّا نذهب إليها أكثر. فندقنا المفضل هناك كان فندق «غراند» (الذي كان أيضاً يُعرف بفندق عودة) بحديقته الواسعة التي تظلّلها أشجار الصنوبر. وكنّا نذهب أيضاً إلى فندق قصر الحمرا وفندق حرب. ولأن رام الله كانت منتجاً صيفياً، فقد كنّا نلتقي في الفندق أصدقاء جاؤوا من يافا وحيفا لتمضية إجازاتهم الصيفية. كانت الحلقة حول طاولتنا تتسع وتتسع بانضمام مزيد من الأصدقاء إلينا.

شاهدت الممثل التراجيدي جورج أبيض في دور لويس الحادي عشر


في أيام أخرى، كنّا نذهب إلى عين كارم، تلك القرية الجميلة الواقعة إلى الجنوب الغربي من القدس، التي تنتشر بيوتها الحجرية البسيطة على سفح الجبل مواجهة الغرب. وما إن نصل إلى هناك حتّى يذهب أبي مباشرةً إلى أحد المقاهي في الهواء الطلق ليدخّن النرجيلة، بينما نتمشّى أنا ودمية والعمّة ميليا صاعدين الجبل على الطريق الموصل إلى الدير الروسي، ومن هناك، كان المشهد من حولنا يخطف الأنفاس. كنّا نرى الجبال تنحدر نحو الوادي بمصاطب أنيقة مزروعة، وفي كلّ مكان أضفت خضرة الكروم والخضر وأشجار الفاكهة العديدة على المشهد مزيداً من الجمال. كنّا أحياناً نمشي في الاتجاه المعاكس إلى نبع القرية، حيث نشاهد النساء الفلاحات وهنّ يملأن جرارهن الفخارية ذات الأشكال الجميلة بالماء. كنّا نجد هناك العديد من النساء مقبلات ومدبرات، وجميعهن يحملن الجرار على رؤوسهن بحذر، ويمشين بعفوية ورشاقة، والأجمل كانت الفتيات اللواتي في عمر العاشرة أو الحادية عشرة، بثيابهن الفلاحية الفضفاضة وهنّ يحملن جراراً أصغر على رؤوسهن.

من شرفة آل ديب إلى جبل هيرتسل
في بقعة مرتفعة على الطريق الرئيسي، على بعد عدّة كيلومترات من عين كارم، كان هناك مقهى شعبيّ آخر يرتاده المقدسيون في الصيف، كان يُسمّى «الشرفة»، الذي يعني المكان المرتفع. وقبالة هذا المقهى إلى الغرب كانت ملكية آل ديب، وتمتد مسافة كبيرة من أعلى الجبل إلى عدّة مصاطب على السفح. ومن أي بقعة في هذه الملكية كان المشهد مهيباً. بعد حرب 1948، حوّلت إسرائيل هذا المكان إلى ساحات تذكارية، وقد أصبحت ملكية آل ديب التي كنّا كثيراً ما نتنزه فيها مع أصدقائنا، عائلة شكري ديب وعائلة أنسطاس حنانيا، تُعرف الآن باسم جبل «هيرتسل»...

* المرجع: هالة السكاكيني ـــــ «أنا والقدس: سيرة ذاتية» ــــ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـــ 2019