خسارات موجعة هي أول ما يجول في الخاطر عند استعراض الحصاد الثقافي في لبنان لعام 2023: ودّعنا طلال سلمان ناشر صحيفة «السفير» عن عمر يناهز 85 عاماً بعد مسيرة ريادية حافلة في الصحافة والثقافة لـ «ابن الدركي» القادم من شمسطار البقاعيّة ليؤسس عام 1974 الجريدة التي حملت شعار «صوت الذين لا صوت لهم» لتغدو الجريدة مع مؤسسها علامة فارقة في صناعة الرأي العام ومواكبة القضايا الإنسانية والوطنية والقومية ويتدرج بين ظهرانيها الكثير ممن لمعت أسماؤهم في الصحافة والإعلام في ما بعد، ليبقى الرجل في قلوب محبيه على صورة «نسمة» الذي لم يعرف مهمة إلا الحبّ. خبر حزين ومفجع للرواية اللبنانية تمثّل في رحيل عميدتها ليلى بعلبكي، ابنة بلدة حومين التحتا الجنوبية التي كانت روايتها الأولى «أنا أحيا» مانيفستو للجرأة والثورة على التقاليد والهيمنة بكل أنواعها وفاتحة لجيل كامل استلهم من أعمال بعلبكي كل جرأته وقدرته على الرفض والثورة والتغيير. كما فجع الوسط الثقافي والأدبي برحيل المترجمة والشريكة المؤسسة في «دار الآداب» عايدة مطرجي إدريس، ووفاة رئيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الأديب والنائب السابق في البرلمان اللبناني حبيب صادق. غير أنّ عام 2023 بدت واعدة في الإصدارات الأدبية، ولا سيما الروائية التي تابعت فيها الأسماء الكبيرة إضافة لبِنات إلى عماراتها الروائية الشاهقة. والأبرز بروز أصوات جديدة بدأت تشق طريقها بثبات عبر تنويعات مميزة في الثيمات والسرد والجرأة والحفر في الهويات وبروز أدب مقاوم يؤرخ للنضال الجنوبي على مرّ العصور. بيروت المشاكسة أبت إلا أن تطرح على محبي الكتاب والثقافة إشكالية كبيرة تمثّلت في إقامة معرضين للكتاب في مدة زمنية متقاربة، ما جعل المعنيين بالشأن الثقافي يطرحون أسئلة جادة ومقلقة حول الانقسام الثقافي والسياسي وضرورة توحيد الجهود في بلد أرهقته الانقسامات والمزايدات على أنواعها. إلا أنّ المواكبة الثقافية للملحمة الفلسطينية في غزة والمقاومة الباسلة في الجنوب، كانت سمة بارزة للكثير من الأنشطة في نهاية هذا العام. نعرض في «كلمات» أبرز ما طبع عام 2023 من غيابات وإصدارات وتظاهرات ثقافية لبلد، رغم كل مآسيه، لا ينفك يجترح في ديناميكيته الثقافية قدرة على الإبداع والحب ومواجهة «الآلهة الممسوخة».
رحيل «الروّاد»
فجعت الساحة اللبنانية برحيل ليلى بعلبكي (1934- 2023) التي ظلت روايتها «أنا أحيا» الصادرة عام 1958 أيقونة للرواية النسوية العربية التي وصفت وقت صدورها بأنها رواية عفوية ثائرة على الهيمنة الذكورية، ومتمردة على الأساليب المتبعة في حينها في كتابة القصة الطويلة. إذ عالجت مشكلات أبطالها ببساطة ووضوح في اغترابهم عن ذواتهم وتمرّد المرأة على الكليشيهات الذكورية والاجتماعية والثقافية. تعمّدت الروائية المشاغبة أن تكون روايتها الثانية «الآلهة الممسوخة» في عام 1960 رواية معقدة، ببناء سردي واضح وصعب. بعدما كان البناء في «أنا أحيا» خفياً يسري كسلك من الحرير الناعم الشفاف في جسم الرواية، استُبدل البطل الواحد بشخصيات عدة في «الآلهة الممسوخة». رمت بعلبكي شخوصها في قلب التجربة فعالجت عوالمهم وحيواتهم من الداخل لتواجه بشجاعتها الفريدة «الجدار المقدس» أو عذرية الفتاة، «فعبر هذا المعبود، تبدأ تفاصيل حياتنا في هذا المجتمع الشرقي الكبير المتعدد الطوائف الذي يغلي بالثورات والحنين إلى الماضي. ونحن منه نحب، ومنه ننجب الأطفال، ومنه نسجد في بيوت الله، ومنه نأكل خبزنا، وهو الذي يحدّد سبب هنائنا، وهو ميزان كرامتنا، وانطلاقاً منه تتفرع سلطات العائلة الأم والأب ورئيس الدولة ونجاح النواب في الانتخابات ونظرة الجيران والغرباء إلينا. هو باختصار سبب وجودنا في الحياة وهو الموت». استمرت بعلبكي في إثارة الزوابع في كتابها الأخير «سفينة حنان إلى القمر» الذي حظرته وزارة الإعلام اللبنانية عام 1964 بحجة أنه كتاب «إباحي» ليرافع عنها المحامي محسن سليم وتبرئها المحكمة، فتسكت من بعدها الأديبة الثائرة إلى الأبد في منفاها الطوعي في لندن بعدما قالت قبيل المحاكمة كلمات ظلت بمثابة المانيفستو في حرية الكاتب والتعبير والإبداع: «لن أعتذر في غرفة المحاكمة، أمام هيئة المحكمة، عن الأشياء التي كتبتها والتي أحاكم من أجلها. إني جد فخورة بما كتبت. إني أسأل: هل العطاء هو جريمة؟ ذنب؟ خجل؟ إني أؤكد وأشعر بأن هذه القضية تطاول جميع الأدباء والفنانين وهي تحد من الخلق والفن. إن هذا الشيء معيب بأن أقف أمام المحكمة وأشرح لماذا كتبت. أنا أكتب بحرية. أكتب للنخبة، المثقفين، الأنباء ذوي الأفكار السامية، الأنباء الناس الناضجين. أنا أرفض أن أكتب لمرضى الأخلاق وللمقعدين وللمتأخرين عقلياً».

اندمج وعي حبيب صادق باكراً بالكفاح الطبقي والعمّال و«الشغّيلة» والفلاحين (كامل جابر)

فجع الوسط الأدبي اللبناني بشكل خاص والجنوبي بشكل عام برحيل الأديب والمفكّر الجنوبي حبيب صادق (1931-2023) الذي تطبّع بأرض جبل عامل لكنةً وتكويناً وثقافةً، في إنجابها للشعراء والأبطال، واستعصاء ترابها على الغزاة والمحتلّين، واجتراحهم الشعر والأغنيات من قلب الجرح النازف في ترابهم ووحدة مصيرها مع جبال الجليل الفلسطيني. تأثّر الولد التاسع عشر للمرجع الديني عبد الحسين صادق إمام بلدة الخيام الجنوبية بحرارة دينية مستمدة من الأشعار والعتابا الجنوبية المختلطة بالمراثي الكربلائيّة، وبالرغبة الفرويديّة في قتل الأب معنويّاً فاندمج وعيه المبكر بالكفاح الطبقي بالعمّال و«الشغّيلة» والفلاحين الذين كانوا يرزحون بين مطرقة الإقطاع والهجرة، وسندان الاحتلال فكان في طليعة المجموعة المتمرّدة من أبناء المراجع ورجال الدين التي تحدّت التقاليد والموروثات واستهوتها أفكار الأممية والشيوعية واليسار، وانقلبوا من «شيعة» إلى «شيوعيين». ظلّ رئيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» حتى الرمق الأخير يخوض المعارك على كل الجبهات: في الثقافة عبر احتضانه ظاهرة «شعراء الجنوب» وحفظ التراث الجنوبي ورعايته كل الأنشطة المساندة لمقاومة الجنوب اللبناني، وعلى الصعيد السياسي عبر مقارعة السلطة الفاسدة، ومؤلفاته التي كانت مرجعاً في المواجهة الأيديولوجية للاحتلال، وأشعاره الطافحة بحب الأرض الجنوبية: «في الفجر أتاها الموت اشتعلت مسكبة التبغِ/ تهاوت حنجرة العصفور.../ النار حدود منازلنا/ النارُ، الأرض، السقف، السورْ/ كل الطرقات تؤدّي إلى حولا/ حولا جسدي قلبي المسكين/ في الليل تشتدّ الريح على حولا/ يشتدّ المطر المالحْ/ ينأى الوطن الوالدْ/ في الليل يفرّ الوطن الوالدْ/ يتوارى العلم الشاهدْ/ لا يبقى إلا حولا والجلّاد».

معرضان للكتاب نعمة أم نقمة؟
ضجة كبيرة أثارها تنظيم معرضين للكتاب لا يفصل بينهما شهر واحد في بيروت. المعرض الأول الذي نظمته «نقابة الناشرين اللبنانيين» حمل اسم «معرض لبنان الدولي للكتاب» وعُدّ بمثابة انقلاب على المعرض السنوي الذي ينظمه «النادي الثقافي العربي» في دورته الخامسة والستين لهذا العام: تميّز كلا المعرضين ببرنامج ثقافي مميز في الشعر والندوات الثقافية والاقتصادية والعروض المسرحية وأنشطة الأطفال، ولم يمنع حشد معرض «فوروم دو بيروت» لمجموعة كبيرة من دور النشر العربية واللبنانية، وضخامة تحضيراته اللوجستية من إقبال الحضور على معرض «بيال» في ظاهرة صحية تكشف عن تعطّش القارئ اللبناني للثقافة والكتاب ومحافظة بيروت على تقاليدها العريقة في النشر والقراءة وإنتاج الثقافة. حضر الحدث الفلسطيني في ندوات وأمسيات شعرية وقراءات في المعرضين، في رسالة قوية لتضامن العاصمة اللبنانية مع المقاومة الباسلة في غزة والجنوب اللبناني. أغلب دور النشر المشاركة في التظاهرتين ركّزت على ضرورة رأب الصدع الحاصل بين «النقابة» و«النادي» للخروج بمعرض موحّد يُعيد إلى العاصمة رونقها ودورها الرائد في النهضة الثقافية العربية والمشرقية.

الرواية في صدارة المشهد
كوكبة من الإصدارات المميزة في النقد والشعر والرواية واظبت عليها الأسماء الكبيرة في الشعر اللبناني والرواية والقصة القصيرة، إضافة إلى أسماء بدأت تتلمس طريقها على الساحة الأدبية اللبنانية والعربية: الشاعر شوقي بزيع أصدر كتاباً نقدياً مرجعياً بعنوان «زواج المبدعين: ثراء المتخيل وفقر الواقع» عن «دار مسكيلياني» التونسية تناول فيه العلاقات الزوجية الإشكالية والشائكة مع الزواج والارتباط لكثير من الأسماء اللامعة في سماء الثقافة والأدب مثل بابلو بيكاسو، وسيمون دو بوفوار، وجان بول سارتر، ونيكوس كازنتزاكيس وسعيد عقل وغيرهم، بينما أصدر الشاعر جودت فخر الدين كتاباً حوارياً مشتركاً مع الشاعر إسكندر حبش بعنوان «غيمة فوق سور الحديقة» عن «دار خطوط وظلال» استعرض فيه صاحب «حديقة الستين» مسيرة أكثر من نصف قرن في الشعر وشؤون وشجون الكتابة والثقافة والنقد والإبداع. الروائية علوية صبح أضافت إلى «الريبيرتوار» عملاً روائياً قوياً بعنوان »اِفرح يا قلبي» (دار الآداب). بعد تشريح البيئة الجنوبية التقليدية في «مريم الحكايا»، والإضاءة على ديالكتيك الذكورة والأنوثة في«دنيا» و«اسمه الغرام» و«أن تعشق الحياة»، تنتقل صبح إلى الشمال اللبناني فتتناول الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية عبر أجيال ثلاثة في عائلة واحدة في قرية شمالية ضمن رواية «افرح يا قلبي» (دار الآداب) التي تطرح الإشكاليات الثقافية وديناميكيات الصراع والوئام في المجتمع اللبناني المعقّد بإشكالياته الهوياتيّة ضمن قالب لا يخلو من متعة السرد والشغب على كل ما هو جامد ومتحجّر. الروائي رشيد الضعيف تابع ما بدأه في «الأميرة والخاتم» من الحفر في الأسطورة والمخزون التراثي والثقافي للمنطقة، وفي الأحداث السياسية التي طبعت السنوات الأخيرة كانفجار الرابع من آب، فحضرت في روايته الجديدة «ما رأت زينة ولم ترَ» الصادرة عن «دار الساقي» كل الأحزان الكبيرة في الوطن الصغير مختلطة بثيمات ميثولوجية وسياسية. الشاعر عباس بيضون استكمل في مجموعته الشعرية «كلمة أكبر من بيت» (هاشيت أنطوان) عمارته الشاهقة لكينونة شعرية تشرّح الحياة وتمزّقها إلى نتف صغيرة، وتعطي الشاعر القدرة على معاينتها مايكروسكوبياً وتقديمها لنا على شكل قصائد مختصرة حتى حين تتكثّف لوصف الخسائر المتفرّقة والخيبات المرة. كما أنّ بيضون أضاف إلى رصيده الروائي عملاً جديداً بعنوان «حائط خامس» (هاشيت أنطوان) الذي يبنيه صاحب «خريف البراءة» على ثلاثة أصوات سردية: الأول هو صوت عالم الدين العائد من النجف إلى جنوب لبنان. والثاني لصديقه الشاعر الباحث عن هويته بين القرية والمدينة، وبين أصله البروتستانتي من جهة وميله إلى الوجودية من جهة أخرى. وبينهما صوت ثالث: المرأة التي تتأرجح في الحب بينهما. تحضر ويلات الحرب الأهلية اللبنانية بكثافة في رواية بيضون عبر قصص شخصية، لأبطالٍ فضّلوا أن يخوضوا معاركهم الخاصة على هامش الحرب الكبيرة. الروائية إيمان حميدان تناولت التاريخ اللبناني بعمقه النسوي في «أغنيات للعتمة» (دار الساقي)، بأسلوب تنطق فيه الراوية بلسان أجيال نسائية متعاقبة في سرد لا يخلو من الشعرية يجد فيه الزمن سياقه في الألم والأمل.
في الإصدارات الجديدة برزت رواية «امرأتان» وهي العمل الأول لريما سعد عن «دار هاشيت-أنطوان». لعبة مرايا لافتة في المكان والزمن بين بيروت والبندقية، والحاضر والماضي في سرد حسّي لا يخلو من الجرأة وتناول المواضيع الشائكة من قبيل الروحانية والتديّن والجنس، ما أدى إلى حظر الرواية في معارض عربية عديدة للكتب مثل الرياض وجدة. رواية أخرى مميزة للإعلامي عَدي الموسوي حملت عنوان «ياقوت من خوابي الشقيف» عن «دار البيان العربي» هي أشبه بكاميرا متنقلة على نضال جبل عامل بوجه الغزاة والمحتلين وتفاعل المكونات الحضارية المشرقية كافة في صياغة الروح المناهضة للاحتلال والغزاة الذين اندحروا عن هذه الأرض من الصليبيين حتى أرييل شارون. رواية «شطوب في المرآة» لدلال ياغي عن «دار الرافدين» تتخذ هي الأخرى من الجنوب منطلقاً للسرد وتزاوج فيها بين التاريخ وما يرافق الإنسان من تناقضات وقلق وفقد وعزلة وعنف. أما رواية حنين الصايغ «ميثاق النساء» عن «دار الآداب» فتناولت الصراع الصعب لثورة امرأة على التقاليد ضمن النسيج الطائفي اللبناني.
إصدارات شعرية أغنت المشهد الذي طغت عليه الرواية، ولا سيما «تتأخر في الحياة» لإسكندر حبش عن «دار دلمون»، إضافة إلى حوارية بعنوان «هجرتان وأوطان كثيرة» أجرتها معه الشاعرة دارين حوماني، و«رجل للبيع يهزأ بالأبد يليه مصرع لقمان» لشبيب الأمين عن «دار رياض الريس»، و«الذين يموتون خلف أعمارهم» وهو عمل ملحمي أهداه الشاعر بول شاوول إلى أطفال غزة، و«قلبي يقيني» لزاهي وهبي عن «دار الرافدين»، و«كوريغرافيا رجل الضواحي» لأنطوان أبو زيد وإعادة طباعة «نوادر الملّا نصر الدين الصغرى» للراحل سحبان مروة عن «دار النهضة العربية». أما في السياسة فبرز كتاب فواز طرابلسي «زمن اليسار الجديد» عن «دار رياض الريس» وهو عبارة عن شهادة الكاتب والمنظّر الماركسي في تنظيمات عديدة من «اليسار الجديد» و«منظمة العمل الشيوعي» و«لبنان الاشتراكي» تلخّص تجارب صاحب «صورة الفتى بالأحمر» في أكثر من نصف قرن في ثورات وحركات وتنظيمات اليسار الماركسي اللبناني والعربي، وكتاب حازم صاغية «في أحوالنا وأحوال سوانا» (دار الساقي) الذي يناقش مواضيع شائكة مثل التاريخ الغربي والمقارنة بين أحوال العرب والغرب وحركات التحرر العربية والانقلابات العسكرية وغيرها. كتاب مميز عن «دار زمكان» بعنوان «الصدر: سحر الحضور والغياب» للكاتبين شادي منصور وعبد الحليم حمود تناول حياة الإمام موسى الصدر بطريقة تحقيقية غير تقليدية اعتمدت على السفر لتقصي أثر حياة الإمام في إيران وغيرها ومقابلة ثلّة من أصدقائه ومجايليه، وعرض لجوانب تُكشف للمرة الأولى مثل وجود ترجمة (مفقودة) للإمام المتنوّر لأحد أعمال الروائية الإيرانية الراحلة سيمين دنشور.