تعدّد هويّات نتالي حنظل (1969) لم يُنسها بأنها فلسطينية حتى العظم. فهذه الشاعرة والأكاديمية والمسرحية نموذج استثنائي للمنفى بمعناه الشامل: ولدت في هاييتي لعائلة من بيت لحم، لتتشظى هويتها لاحقاً بين أكثر من جغرافيا ولغة وذاكرة تبعاً لترحال عائلتها من جزر الكاريبي إلى أوروبا وأميركا اللاتينية، وصولاً إلى الولايات المتحدة. لكنها ما زالت تفكّر في العربية وتكتب بالإنكليزية والإسبانية، ما وضعها في مهبّ هوية كونية انعكست على نصوصها التي تنطوي على أبعاد إنسانية نظراً إلى فقدانها التاريخ الشخصي.
(رايتشل إليزا غريفيث)

تالياً، لن نستغرب عنواناً مثل «في كلّ مكانٍ من المنفى» لمختارات من أشعارها صدرت أخيراً باللغة العربية (دار فواصل |ــــ ترجمة أحمد م. أحمد). في هذه النصوص، تلملم صاحبة «الحقل اللامتناهي» الخيوط المتشابكة لهويتها الممزّقة، كما لو أنها لم تغادر مكانها الأول، هذا الجرح النازف الذي كلّما أغلقته بضمادات الحنين، ينفتح على ندبة وفقدان ومنفى. هكذا تستدعي مدناً فلسطينية طالها الدمار في صورٍ يومية لطبقات الحطام. في قصيدتها عن غزة، ترسم تضاريس المدينة بمقطع عرضي قبل أن تقصفها الطائرات: «أسيرُ نحو النافذة المكسورة، ورأسي مائلةٌ قليلاً وأحاول أن ألقي نظرةً سريعة على مدينةِ الأشباح، أولئك القتلى الذين يمرون عبر الفتحات الضيقة لقبورهم». ثمّ تظهّر الصورة بعدسة مقرّبة، فتختزل المشهد بإيماءات خاطفة: «كل بيتٍ هو سجن/ كل غرفةٍ هي قفصُ كلب. الجنازات فقط هي كذلك. غزة حُبلى بالناس/ لا شوارع، لا مستشفيات، لا مدارس، لا مطار، لا هواء للتنفس». ليست غزة وحدها «تحت الجلد»، هناك صورة موازية لمدينة جنين باستدعاءات أخرى تبدأ من البيت الذي يسكنه الآخر، فتُجبر على أن ترحل بهدوء بعد أن تختزن «صفاً من أشجار الزيتون، وحقلاً من الزنابق، بعيداً عن متاهة الأحشاء»، إلى أن تغلق القوس بمثل هذه الضربة المؤثرة: «كلّ ما أبتغي هو ما ورثناه عن الحمائم، سطراً كاملاً من البياض. لكنّ سؤالاً يتلبّسني ليلاً: أين هي الأجساد؟». على الأرجح، إن عنف المحتل ووحشيته أسهما في مقارعته تخييلياً بجرعة عالية من الفانتازيا المقتبسة من فانتازيا الموت المتنقّل. وهو ما أفرز مدوّنة شعرية فلسطينية مضادة تعمل في فضاء بصري في المقام الأول، وبأغراض شعرية لم تُستعمل قبلاً بمثل هذه الفرادة في طهي الألم: «خذوا كلَّ أشجارنا ـ ربَّما يسوع مَنْ يستطيع تفسير ما حدث، أو ربَّما كل ما أحتاج أن أتذكَّر أني سمعتُ- وهذا ما أعرفه- بأنَّي عربية، وأنَّ الأحياء السبعة في المدينة القديمة قد تركت لي سبعة مفاتيح كي أستطيع الدخول على الدوام».
في بحرها اللغوي المتلاطم، ستتوقف سفينتها عند شواطئ الأبجدية الأولى من فلسطين إلى الأندلس، إذ تردّد «ثمة بلاد على لساني»، و«أعطاك أسلافك خريطة بلدك، ولكن لم يعطوك واحدة عن فقدانه»، و«لا أحد يتمكّن من الوصول إلى العزاء في الوقت المحدّد كي يحزن كما يجب». هذا الطواف نحو البيت الأول هو المغناطيس الشعري الذي يجذب إليه ما لا يمكن نسيانه، ذلك أن نتالي حنظل «تتصرّف كما لو أن الأمل ما زال موجوداً».