القاهرة | «لا زيطة ولا زمبليطة». العبارة المصرية الشعبية تنطبق اليوم على الدورة الـ35 من «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، على خلاف ما كان يحصل في دوراته السابقة، هو الذي لطالما تفاخر بسهراته الصاخبة! يومها، كان الرعاة يتبارون على تنظيم تلك الليالي، وكان المهرجان يستقطب النجوم العالميين والهوليووديين الذين كانوا يشاركون في حفلات افتتاحه وختامه.
لكن هذه السنة، اقتصر الحضور على قلة قليلة من نجوم السينما المصرية ونجماتها، ممن حضروا افتتاح هذه الدورة الاستثنائية في «دار الأوبرا»، وقد فضّل بعضهم الدخول من البوابة الخلفية من دون ضجيج وبلباس أسود رسمي، وبملامح حزينة حداداً على شهداء الثورة الذين سقطوا وما زالوا يسقطون يومياً في ميادين مصر وشوارعها.
بداية باهتة وحزينة، لا شيء يلمع فيها سوى تلك الدموع التي تجمدت في أحداق البعض، معبرة عن الحال التي يعيشها أهل البلد في هذه الأيام بناسه ومثقفيه، والقليل من فلاشات كاميرات المصورين الذين وجدوا ربما أنّ الصورة الأفضل التي يمكن أن تلتقطها عدسات كاميراتهم هي تلك التي تبعد أمتاراً عن المكان... وتحديداً في ميدان التحرير.
بداية كانت مؤثرة لحفل افتتاح كئيب غاب عنه النجوم الشباب، واستهل بمشاهد من فيلم «شيء من الخوف» (بالأبيض والأسود). شريط المخرج حسين كمال بدأ بمشهد حيث يردد الناس «باطل... باطل»، النداء الأكثر ترديداً من شباب الثورة في هذه الأيام «باطل حكم الإخوان باطل» يرافقه مطلع قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم «يسبق كلامنا سلامنا يطوف عالسامعين معنى». اختلطت هذه الكلمات بدموع مدير المهرجان عزت أبو عوف الذي بدا عليه التعب، فانتزعت تصفيقاً من الحاضرين. تلا ذلك إعلان أسماء لجان التحكيم في المهرجان، وتأجيل التكريمات التي كانت قد أُعلنت، وعرض فيلم «الشتا اللي فات» للمخرج إبراهيم البطوط. الشريط الذي أدى بطولته عمرو واكد، قدّم نماذج من شباب «ثورة 25 يناير» في أيام اندلاع شرارتها الأولى. وتخللت الافتتاح كلمة «تكلمت بالعموم ومشت بين النقاط»، لوزير الثقافة المصري صابر عرب عشية المطالبة بإسقاط الإعلان الدستوري، هو الذي كان مطالباً «باتخاذ موقف صريح من الأحداث الجارية، وبالتالي الانحياز إلى شباب الميدان في معركة الإعلان الدستوري»، الأمر الذي كانت قد فعلته اتحادات النقابات الفنية والتمثيلية والسينمائية في موقف واضح وصرح.
هكذا، بدا المهرجان منذ ليلته الأولى مرتبكاً بين موالاة إدارته للوزير المحسوب على الإخوان المسلمين، وبين إعلان موقف صريح ينسجم مع موقف الناس والفنانين والمثقفين في الشارع المصري بنحو واضح ومن دون مواربة أو محاباة لجهة رسمية، حتى لو كانت هذه الجهة هي الوزارة التي تنظمه! هكذا أيضاً، مرت الأيام الأولى من «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الذي استطاع ضبط إيقاعه، ولو جزئياً، على موجة الثورة؛ إذ خيّمت على أيامه الأولى أجواء الحزن والقلق والترقب لم يقطعها سوى صدى أصوات المتظاهرين في ميدان التحرير التي كانت تصل بسهولة إلى مسامع المحتفلين بالفن السابع مع الكثير من النصائح من منظمي المهرجان بعدم التجول كثيراً في شوارع القاهرة، ولا سيما ليلاً.
اللافت في الدورة الـ35 أنّ النجوم الأميركيين كلّهم لم يأتوا، وكأنّه موقف متفق عليه أو تعليمات صادرة بعدم السفر إلى مصر. لكن المهرجان ماضٍ بضيوفه كما أكّد الفنان عزت أبو عوف، في إشارة واضحة أيضاً إلى اعتذار النجوم العالميين هذه السنة. في أروقة المهرجان وجوه كثيرة يعرفها جيداً المواظبون على حضوره منذ سنوات. والمفارقة أنّك ما زلت تلتقي بالوجوه نفسها بالرغم من تغير المشهد الإعلامي وتوسعه وتعدد أمكنته، ووسائله، وتمددها.
ليس صعباً على المتابع لأفلام هذه الدورة من المهرجان أن يرصد ملمحاً إنسانياً خاصاً في أفلام عكست الهمّ العام عبر مقاربة الوجع الإنساني وطرح مواضيع تُعَدّ قاسماً مشتركاً في كل المجتمعات النامية، مثل الظلم وغياب العدالة الاجتماعية، والفقر، والعنصرية، والاتجار بالبشر، والفساد، وهو ما استعد له القائمون على المهرجان في نقطة تُحسب لمصلحتهم من خلال تخصيص أقسام لأفلام حملت وجعاً إنسانياً خالصاً ميّزتها تلك الروح الثائرة في انتفاضتها على واقعها المعيش كقسم «أفلام حقوق الإنسان» التي تنافس فيها نحو 16 فيلماً من روسيا، بولندا، تركيا، باكستان، الفيليبين، الصين، إيران، الهند، اليونان، كندا وأذربيجان، أو قسم «سينما الثورة». وكان أبرز هذه الأعمال شريط «البحرين... الغوص في المدينة الممنوعة» للمخرجة الفرنسية ستيفاني لاموري. الفيلم إنتاج فرنسي عن مدينة الثورة العربية المحرمة التي يبدو أنّ الغرب قد نسيها أو ربما تجاهلها. هناك أيضاً الفيلم التونسي «حديث الثورة» الذي يحاول توثيق الثورة التونسية، وفيلم «الثورة خبر» للمصري بسام مرتضى الذي ينتمي إلى قسم «السينما المستقلة». وكان المهرجان قد أعلن في كتيّبه الخاص عرض 6 أفلام في هذا القسم من تونس وفرنسا ومصر تواكب ما يحصل في العالم العربي من انتفاضات لتسير السياسة والسينما جنباً إلى جنب في هذه الأيام.
هكذا تمر الأيام سريعاً على دورة لم يغب عنها طيف الأحداث المتسارعة في الشارعين المصري والعربي، وتتوالى فيها العروض حتى يوم الغد في انتظار إعلان الجوائز وما ستخبئه الساعات المقبلة من أحداث ومفاجآت قد تصنع خبراً يتحدث عنه طويلاً النقاد والصحافيون في خضم كل تلك الصراعات والنقاشات السياسية اليومية الحامية بين ضيوف المهرجان ومرتاديه. طيف «الثورة» السورية خيّم أيضاً على الحدث، في ظل وجود العديد من الفنانين والصحافيين السوريين في أروقة المكان، من بينهم الممثلون جمال سليمان، مكسيم خليل وكندة علوش التي تشارك بصفة عضو في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام العربية الروائية الطويل.
أفلام عديدة تتبارى في ما بينها، ولا يبتعد معظمها عن قضايا الإنسان. وكان لافتاً ذلك المستوى الجيد في طرح المواضيع وأسلوب المعالجة، ولا سيما في ما يتعلّق بالأعمال المعروضة في المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة أبرزها «المحطة الأخيرة» ذو الإنتاج البرازيلي. يلخص شريط مارسيو كوري حكاية الهجرة اللبنانية إلى البرازيل في خمسينيات القرن الماضي، مقدماً نموذجاً للمهاجرين الأوائل في صراع حول الهوية تتداخل فيه مشاعر الحنين إلى الوطن مع مشاعر الوفاء، علماً بأنّه من بطولة الممثل القدير منير معاصري، المرشح بقوة لجائزة أفضل ممثل. ولعل الفيلم الأجمل الذي شاهده يومياً ضيوف المهرجان هو ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية كما في شوارعها... سينما في الهواء الطلق بسيناريوات متعددة ومختلفة العناوين و... مفتوحة على كل الاحتمالات.



غياب دريد لحام

لوحظ هذه السنة غياب أحد أبرز الوجوه التي لم تغب عن «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» طوال السنوات العشر الأخيرة. إنّه الممثل السوري دريد لحام الغائب عن معظم المهرجانات التي يدعى اليها تحسباً من موقف يورطه في ما لا يريده... ربما. علماً أنّ مهرجان القاهرة كان قد سحب منذ أسابيع فيلم عبد اللطيف عبد الحميد «العاشق» من المسابقة من دون تكليف نفسه إبلاغ المخرج السوري بذلك (الأخبار 27/11/2012).