يأتي مسلسل نسل الأغراب، بصفته واحداً من أهم المسلسلات التي تقدّمها الدراما المصرية لهذا العام، ولربما خلال السنوات العشر الماضية أو اللاحقة. كل ما في المسلسل يشي بكونه واحدة من أهم التجارب الدرامية خلال هذا العقد. لا يمكن الحديث عن هذا العمل، بمعزل عن الحديث عن الأداء المذهل والخارج عن المعتاد نهائياً للنجم المصري الذي يمكن اسباغ مئات الصفات عليه أحمد السقّا. يعيد السقّا تخليق نفسه كمؤدٍ، كممثل، وكنجم بالتأكيد في هذا المسلسل القائم على حكاية قد تبدو ذات بعدٍ أسطوري: الصراع الأبدي بين الشقيقين قابيل وهابيل. هذا الصراع يتمظهر بدايةً من خلال نص أغنية المسلسل التي أدّاها بحرفة تامر حسني، وكتبت كلماتها بجمال سارة سعيد، فيما لحّنها هيثم نبيل. إذاً لدينا منذ لحظة بدء أغنية/تتر المسلسل المشغولة بعناية تأكيد أنّنا أمام مسلسل مسبوك باحترافية عالية. يُخرج المسلسل ويكتبه أحد أكثر المخرجين الشباب الموهوبين حالياً في مصر محمد سامي.تحكي قصة المسلسل، قصة الصراع بين عسّاف الغريب (أحمد السقا) العائد من سجنه لعشرين عاماً، بسبب جرائم قتل وحشية ارتكبها ضد ابن عمّه غفران الغريب (أمير كرارة). إنّه الصراع بين الإخوة وأولادهم الذي لا ينتهي إلا بالدم، كما هي الأحوال في معظم العوائل/ العشائر الكبيرة أو حتّى الدول والممالك التي تنتهي «قرابة الدم» بين أفرادها فور صعود المصالح والرغبات والدوافع وبالتأكيد الأنانية والرغبة في السلطة والسيطرة. بقية الأحداث كلّها هامشية تقريباً: الصراع بين عسّاف وغفران هو أهم شيء وكُلُ شيءٍ يتمحور حوله، لا قصّة أخرى، لا جوانب هامشية. إنها الدراما المباشرة، لكن هذا لا يعني أنه لا زوايا كثيرة وقصص متوازية مع القصة الأصلية. إذ إن غفران قد تزوّج من جليلة (مي عمر) زوجة عسّاف بعد دخوله إلى السجن، لنعرف لاحقاً بأنَّ جليلة هي المشتهى أو كما يسمّى في الكتابة الإبداعية الـMcgaffin بالنسبة للإثنين؛ وهي بداية الصراع، أوّله وأسّه. المرأة الكنز التي يرغبها الإثنان، كطفلين، ولاحقاً يتزوجانها تباعاً، وينجبان منها تباعاً كذلك. يرغب غفران في كل ما لدى عسّاف، لذلك فإنه يتبنى ابنه حمزة (أحمد مالك) ويعامله كما لو أنّه ابنه تماماً، شأنه شأن سليم (أحمد داش) إبنه من صلبه. إنه صراع الطفلين اللذين كبرا وأصبح هذا الصراع بالرصاص والبنادق، مما جعل غفران وعسّاف في لحظةٍ ما يقتلان آباء بعضهما. في القرية عُمدة هو حسيب (إدوارد) وضابط شرطة علي (دياب) وكلاهما مترابطان أيضاً بعلاقاتٍ عائلية متشابكة مع البطلين: عساف وغفران. هذا لايعقّد الأمور فحسب، أصلاً إن تداخل كل شيء في كل شيء، يجعل الصراع أكثر دموية، توحشاً، وبطشاً. إننا هنا أمام القصة الأثيرة المحببة في الأدب الأميركي الجنوبي، ضمن مدرسة الواقعية المدهشة: القرية البعيدة عن كل شيء، المليئة بالصراعات الظاهرة والخفية، ورموز سلطتها: العمدة ممثلاً سلطةً مدنية، والشرطي/الضابط ممثلاً الشرطة العسكرية/الدولة.
أدائياً، وهنا يمكن إفراد مقالاتٍ مطوّلة عن أداء أحمد السقّا في هذا العمل. يعمل السقّا ضمن المدرسة الروسية المرتبطة بكونستانتين ستانسلافسكي في التمثيل: method acting؛ إنه لا يحتاج نصّاً يقرأه ويعيده: إنه هو النص، هو البطل. هنا في «نسل الأغراب»، ليس هناك أحمد السقّا، يذوب السقا، ليظهر مكانه عسّاف الغريب. لذلك لا يمكنك نهائياً تذكر أنك أمام السقّا، بل أمام عساف فحسب. وحتى لو تمّت مقارنة دوره هنا ودوره في فيلمه «الجزيرة»، باعتبار أن الاثنين ينتميان للبيئة الصعيدية، إلا أنَّ الإختلاف كبير وواضح: حجم السقا المختلف، طبيعة الشخصية المغايرة، السلوك وأصل الشخصية وصنعتها. زرع السقا أسناناً معدنية في فمه، هذا الأمر، ولمن يعرف حرفة العمل، يفهم بأنَّ الأمر ليس سهلاً، فضلاً عن أنّه مزعج ويخلق سلوكات معينة. وهو أمرٌ أفاد منه السقا في أن شخصيته تفتح فمها غالبية الوقت بشكلٍ مغاير. وهذا ما يجعل شخصيته لا تنسى للمشاهد، فضلاً عن استعماله للسانه ليلمس أسنانه المعدنية كلما غضب. إنه شخصية «غاضبة» للغاية، قضى عشرين عاماً يريد أن ينتقم من الجميع، ما عدا جليلة. هو من اللحظة التي يظهر فيها وحتى يقابل جليلة، لا يقول أي كلمة لطيفة من أي نوع لأي شخص. بل بالعكس إنه يهين الجميع أقاربه وشقيقته وكل من التقاهم. كل تفاصيل السقا في هذا العمل تؤكد أنّه قد رفع مستوى المنافسة مع مجايليه، وإن استمر أداؤه في المسلسل بهذه الطريقة، فإن صعوبة اللحاق به وتقليده تجعل الهوة بينه وبين أي ممثل/مؤدٍ آخر هائلة وللغاية. نقطة أخرى تحسب للسقا أنّه ترك نصف وقت الحلقات التي شارك فيها لغيره من الممثلين/النجوم، وهذا أمرٌ يشي بتواضعه وذكائه في آنٍ معاً. على الجانب الآخر، لايمكن اعتبار أداء أمير كرارة قليلاً أو معتاداً. يحاول نجم مسلسلي «الإختيار» و«كلبش» أن يوازي أداء السقا الخارق، معتمداً على ميزته الخاصة: عيونه. يمتلك كرارة عيوناً معبرة بشكل كبيرة، فهو في مشهده مثلاً مع زوجته جليلة، حينما يخبرها بأنَّ عساف قد عاد، تموت عيناه. تفقد عيناه بريقهما، وتصبحان كما لو أنهما لوح زجاجي بلا ملامح، فيما تعودان لتلمعان بكل شر الدنيا حينما ينظر صوب بيت عساف بعد دقائق. هنا يضاف الكحل تحت العين، لإضفاء تأثيرٍ أكبر بالتأكيد. لعب كرارة كذلك على شكله الخارجي، وعلى لباسه، الذي أوحى بقيمته وقوة شكيمته، لكن حتى اللحظة يبدو أن أداء السقا أقوى. مي عمر بدورها، تنجح في تقديم أداء معتدل، وفي بعض الأحيان متأرجح: قوي بمواجهة ابنيها أحمد داش وأحمد مالك، أقل قوةً أمام كرارة، وأضعف أمام السقا، الذي يتيح لها المجال كي تتحدّث وتمثّل ولو أنّه لم يفعل، لكان الأمر مختلفاً. دياب هو أحد إكتشافات المسلسل وهذا العام، هو أدّى بجمالية عالية خلال الأعوام السابقة، لكن ليس بهذا المستوى، إنه ممثل مُجد بمعنى أنه في كافة مشاهده مع السقا وكرارة يحاول و«يعافر» كي لا يأخذا منه الضوء، فضلاً عن تأديته بحرفية عالية غالبية الوقت. أحمد مالك واحد من أهم ممثلي جيله، لكن دوره لا يزال حتى اللحظة صغيراً. هامشياً، بدا ظهور النجمة فردوس عبدالحميد في دورٍ صغير كبيراً، كذلك القديرة سلوى عثمان. واحد من أجمل التفاصيل في العمل كذلك كان مرور صورة النجم الراحل نور الشريف كوالد لغفران الغريب، في صورةٍ معلقةٍ على الحائط، وهو تكريم جميل ومعبّر للراحل.
في المسلسل، يمكن الحديث عن استخدام الديكور المبهرج الشبيه بديكورات المسلسلات التاريخية وحتى يمكن القول وإن بدرجة أقل التركية، كبيراً. فيلات كبيرة، فخمة، سيارات حديثة وغالية الثمن، ثياب وأردية توحي تماماً بالثراء الفاحش. وهذا أعطى المسلسل بعداً خاصاً وصدقية وواقعية في الحديث عن صراع على «ثراءٍ» فاحش وسلطة واسعة. إخراجياً، يمكن القول بأن سامي قد أدى الدور المطلوب منه بإحترافية: إنه يستخدم كاميرته في مشاهد close up على بطليه وخصوصاً السقا، وهذا يعطيه – أي السقا- الفرصة لإظهار مشاعره -كما مهارته- بشكلٍ كامل. مشاهد العنف/ المواجهات بين البطلين كذلك بدت محسوبة بدقة، وهذا أيضاً يعود للمخرج.
باختصار، نحنُ أمام عملٍ -إذا ما استمر حتى نهايته- بهذه الطريقة والزخم سيحكى عنه لسنواتٍ طوالٍ قادمات: مسبوك بعناية، مطبوخ على نارٍ هادئة، فيه أداء يمكن اعتباره الأفضل منذ سنوات لمؤدٍ
عربي -السقا-، فضلاً عن ديكورات توحي بالمهابة وبذل المجهود، وأخيراً أغنية مقدّمة مشغولة بعناية. باختصار: هذا هو عمل الموسم.
*نسل الأغراب:

على on الساعة 6:45 مساء
على mbc 1 الساعة 11:00 مساء.