غيرّت نيتفلكس منطق الدراما التلفزيونية، وقدّمت مقترحات تحمل مساحات خلاقّة بطريقة مبتكرة! كلّ مشهد من غالبية مسلسلاتها القصيرة له مكانه العميق. لا يمكن اقتلاعه من الحكاية، لأنها ستتفكك بدونه! إذاً لا ثرثرة، ولا تعبئة وقت، ولا تطويل ومطمطة في الأحداث، حتى يصير عدد الحلقات 30 كما يحصل مع نسبة كبيرة من المسلسلات العربية الرمضانية!آخر ما أتيح لنا مشاهدته هو المسلسل الإسباني The Innocent (البريء) إخراج أوريول باولو، عن رواية الكاتب الأميركي هارلان كوبن التي تحمل العنوان نفسه (سيناريو وحوار: أوريول باولو وجوردي فاليجو وغيليم كلوا. بطولة الممثلين الإسبان: ماريو كاساس، وألكسندرا خيمينيز، وأورا غاريدو، وخوسيه كورونادو). العمل الذي أنتج هذا العام وحظي بتقييم ممتاز، وإشادة صريحة من النقاد والصحافة العالمية يقدّم حكايته في 8 حلقات ممسوكة بصيغة محكمة. منذ اندلاع الحدث والدقائق التمهيدية من الحلقة الأولى، يقرر صنّاعه بذكاء الانطلاق من ذروة درامية تحكم القبض على المتفرّج، ولا تدعه ينهي المشاهدة عن آخرها، مع تكنيك مجترح ومعاصر في فن السيناريو، كون القصة تبدأ من شجار يحصل على باب أحد محال السهر بين مجموعة شباب ينتهي بحادثة تودي بحياة شاب بالخطأ على يد بطل العمل (ماتيو) الذي سيجد نفسه وراء القضبان لمدة أربع سنوات بتهمة القتل غير المتعمّد، ينتهي منها سريعاً بدون تركيز حدثي عليها، مع تمويه عابر لما كابده من إزعاج السجناء المستجدين في الحبس. التقنية في الاقتراح تعتمد على صوت الراوي الذي يحكي عن نفسه، وماذا حصل معه، ومن ثم سيكون بطل حلقة واحدة على الأقل، ليصل الإدهاش حدوده القصوى عندما تبدأ الحلقة الثانية بشخصيات جديدة في المطلق. نلاحق بتقنية «الفلاش باك» طفولة محققة وصل والدها إلى مآلات يائسة جعلته يتخلى عنها، ويقتل نفسه، وقد ساقتها المصادفات أن ترى بأمّ عينها ما حلّ بوالدها. هكذا، سنصل إلى نهاية الحلقة الثانية، كأننا أمام عمل جديد، وشخوص مستحدثة على الحلقة الأولى لنكتشف الربط المحكم في آخر مشهد من الحلقة الثانية، ثم تذهب الرواية للاشتباك والتصعيد والتداخل المطلوب، مع اللعب على ارتفاع متر من الواقع ربّما، لكن بأسلوب لا يُنقص من الدراما شيئاً، إنما يزيد تشويقها ويغوص بعمق في عوالم الجريمة المنظّمة والعشوائية، والملاهي الليلية، ولا يوفّر حتى المؤسسة الدينية من نظرته النقدية.
المفاجأة حاضرة في كلّ مفاصل العمل، والحلول غير المتوقعة تتسيّد المشهد، من دون أن تشوب بعض مكامن الحكاية هنّات معينة مثل الهروب بطريقة بسيطة لبطل العمل وزوجته من المستشفى المحاصر بدوّريات الشرطة، وتأجيل فكّ شيفرة أكثر من جريمة وربطها فقط بوالد الضحيّة الأولى التي توفيت مطلع العمل، وهو طبيب قرر الانتقام لمقتل وحيدة، وظلّ غائباً عن العمل باستثناءات قليلة، لحين حلول الحلقة الأخيرة التي صارت بمثابة لهاث محموم عساها تضع النقاط على الحروف، وتجيب عن كلّ الأسئلة المبهمة التي كانت تطرح خلال سيرورة الأحداث!
لكنّ لا تقلل تلك الهنّات من سوية المسلسل القصير ومنطقه والسوية العالية من الشّد والعمل بطريقة مبتكرة على دراما الجريمة يواكبها رؤية إخراجية واقعية معافية تماماً من كلّ أساليب الاستعراض المجاني، فيما سيكون المشاهد أمام ممثلين بارعين لدرجة تشعره بأنهم قرروا هدم الحد الفاصل بين التمثيل والتماهي المطلق مع الشخصيات. أداء عالمي يوازي جدّة الحكاية وأسلوبية صوغها. The Innocent نموذج ناصع للدراما الحديثة التي يمكن الاحتذاء بها محلياً لطرق عتبة النجاح بثقة. ربّما المصرّيون وحدهم من يستطيعون حتى اليوم أن ينافسوا هذه النوعية من الدراما. من شاهد رائعة «في كلّ أسبوع يوم جمعة» (10 حلقات عن رواية إياد إبراهيم عبد المجيد. سيناريو وحوار: إبراهيم وسمر عبد الناصر ومحمد هشام عبيّة. إخراج محمد شاكر خضير. بطولة: منة شلبي وآسر ياسين و محمد خالد الصالح وسوسن بدر وآخرون) يعرف صدق ما ندّعيه!