نهايات تراجيديةيذكر عبد العزيز بوتفليقة يوماً، في شتاء 1978، اشتد فيه المرض على الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين. كان الرجل ممدّداً في فراشه، وهو يحتضر، وقد جلس حول سريره بعض أقرب أعوانه. دار الحديث عن ذكريات الماضي، وفوجئ مساعدو بومدين به يبدي أسفه على ما فعله بحق رفيق دربه الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، ويقول إنه يود لو يصلح ما لحق بـ«سي أحمد» من أذى. الرواية التي سجّلها الكاتب التونسي الصافي سعيد، في كتابه «الحمّى»، ونسبها إلى عبد العزيز بوتفليقة، تذكر أن الأخير لما سمع رئيسه المريض يبدي الأسف، حاول أن يخفف عنه قائلا: «قد يكون سجن بن بلة خطأ - وقد يكون خطأ كبيراً - ولكن، يا سيادة الرئيس، الأخطاء الكبيرة من سمات الرجال الكبار. وأخطاء الرجال على قدر أعمالهم».
كانت نهايات رؤساء الجزائر حزينة في مجملها. منهم من جيء به إلى الحكم بعد ثلاثين عاما قضاها في المنفى، ولم يلبث إلا بضعة شهور ثم سقط غيلة وغدراً. ومنهم من أُجبِر على التنحي، فطويت صفحته، ورُمي به في بئر النسيان. ومنهم من قضى نحبه مسموماً؟ ومنهم من انتهى به المطاف معزولا محبوسا بين جدران سجن مطبق. لم يخرج أيّ من رؤساء الجزائر من الحكم بطريقة حسنة - عدا اليمين زروال ربما. وكانت نهاياتهم كلها تراجيدية.

بن بلة وبومدين
كان بن بلة، مثلا، رجلا مولعا بالشعارات الثورية وهتافات الجماهير. وبدا أن الجزائر، في عهده، تنزلق نحو حرب أهلية توشك أن تدمر النجاح المجيد في نيل الاستقلال عن فرنسا. لم يكن في إمكان بن بلة أن يحدّ من خطر المتمردين على سلطة الدولة. إذ لم تتورع كل مجموعة ترى في نفسها القدرة على حمل السلاح عن الصعود إلى الجبال، وإعلان التمرد. ولم يقتنع بعض الثوار أن فرنسا ذهبت، وأن مشاكل الجزائر ما عاد يمكنها أن تحل بالسلاح وحده. كانت تلك الأسباب التي دفعت وزير الدفاع هواري بومدين الى التحرك بسرعة لينهي «المهزلة» التي توشك الجزائر أن تنحدر إليها. كان هدف الرجل أن يضع الدولة والثورة في مسارهما الصحيح، ولم يكن يعتقد أن ما قام به انقلاب على الثورة، بل تصحيح لمسارها بعدما بذل مليون شهيد جزائري أرواحهم في سبيلها. اتجه تفكير بومدين، بداية، إلى إعلان حالة الطوارئ، وإرغام بن بلة على التنازل عن بعض مسؤولياته للجيش. لكن بوتفليقة أقنع رفاقه أن «دعسة ناقصة» قد تجعل الأمور تنقلب عليهم. هكذا انحصر التفكير في وجوب تنحية بن بلة بصورة نهائية. تولى بومدين قيادة «الحركة التصحيحية» بحكم موقعه القيادي في مؤسسة الجيش الوطني الجزائري. صار الصراع بين الرئيس وقائد الجيش، في حزيران 1965، سافراً. وعلم بومدين أنه في سباق مع الوقت. فإن لم يبادر هو إلى الإطاحة بخصمه، سيطيح بن بلة به لا محالة. وكان الأخير قد جهّز فعلاً لإقالة كل أعوان بومدين، وعلى رأسهم بوتفليقة.
عُقد أول اجتماع لمجلس قيادة الثورة، بعد الإطاحة ببن بلة، في منطقة حيدرة بضواحي الجزائر. أقسم أعضاء المجلس أن «يحفظوا دماء الشهداء». واقترح بوتفليقة، في ذلك الاجتماع، حلّ حزب جبهة التحرير الوطني لأنّ دوره التاريخي قد انتهى بعد استقلال البلاد، وتأسيس حزب جديد يقود عملية بناء الدولة. لكن بومدين اعترض قائلا إنّ جبهة التحرير رمز لا يمكن حله، ولكن يجب تطهيره والحد من نفوذه. طلب العقيد درايا ان يحاكم بن بلة وأعوانه، فاعترض العقيد بلهويشات قائلا: «إذا كنت تسعى إلى إعدامه، فلن أسمح لك». هكذا، أصبح مصير الرئيس الأسبق أول مشكل حقيقي اعترض سبيل القادة الجدد. وقد تلقى بومدين رسائل كثيرة تحثه على العفو عن بن بلة، فلم يرد على الشفاعات كلها. وحين جاء إليه فتحي الديب مبعوث الرئيس جمال عبد الناصر مطالبا إياه بتسليم بن بلة إلى القاهرة، ردّ بومدين على الموفد المصري: «قل لعبد الناصر إن صديقه سيظل بعيدا عن كل إهانة أو سوء. لكنه سيبقى في الجزائر». حاول الديب أن يعترض، فرد بومدين بغضب: «لماذا لم يقبل عبد الناصر الوساطات التي طالبته بالعفو عن محمد نجيب؟!». كان ذلك جواباً مفحما، لكنه لم يقنع عبد الناصر. فأعد الرئيس المصري ثلاث مجموعات كوماندوس، وأرسلها إلى الجزائر وتونس وفرنسا، لكي تعمل على تهريب بن بلة من سجنه. وقد ذهب الظن به انه يستطيع أن يكرر في الجزائر ما صنعه قبل أربعة أعوام حين تمكن من إنقاذ عبد الحميد السراج وإخراجه من سجنه في المزة في دمشق. وقد أوشكت مجموعة الجزائر بالفعل أن تكتشف مكان الإقامة الجبرية للرئيس المعزول، لكن التونسيين كشفوا المجموعة المصرية التي أُرسلت إلى بلدهم، وعرفوا خطة عبد الناصر، وكشفوها لبومدين. أرسل الأخير وزير خارجيته بوتفليقة إلى القاهرة ليطلب من عبد الناصر أن يكف عن طلب صديقه بن بلة لأنه مواطن جزائري، وليس مواطنا مصريا.

بوتفليقة والعسكر
كان العسكريون في مجلس قيادة الثورة، بمن فيهم بومدين نفسه، يملكون تجربة متواضعة في تصريف الشؤون السياسية وإدارتها. لكنهم وجدوا أنفسهم، بحكم مسؤولياتهم في الحكم، منخرطين في مشاكل السياسة الجزائرية العويصة. وكان بوتفليقة، بحكم تجربته في وزارة الخارجية التي تولى إدارتها بعد موت الوزير السابق محمد خميستي، أكثر أعضاء المجلس اطلاعا على الصراعات السياسية في العالم العربي. فكان من الطبيعي أن يكون هو الناطق الرسمي باسم مجلس قيادة الثورة الجديد. وحين اعترض أحمد مدغري على الدور المتضخم لبوتفليقة، أقنعه بومدين بأن وزير الخارجية سيلتزم بتعليمات المجلس. ولعل الخلاف على تضخم دور بوتفليقة كان أول شقاق في مجلس قيادة الثورة، فكان على بومدين أن يفصل بنفسه في هذه المشكلة. بدا لكثيرين يومها أن الرئيس انحاز إلى صديقه القديم. لكن ميل بومدين إلى وزير خارجيته لم يكن مرده الانحياز، بل الوعي بأن بوتفليقة رجل ذكي ولبيب. وكان بومدين يعي جيدا أن بوتفليقة وزير يحب الظهور، ولم يمانع في إفساح المجال له بذلك، لأنه كان مفيدا للجزائر أن تكون لها واجهة جذابة تمثل سياستها ومواقفها. وقد أدّى بوتفليقة هذا الدور باقتدار.
كانت سياسة الجزائر الخارجية عندما تولى قيادتها بوتفليقة مناصرة لحركات التحرر في العالم الثالث. أخذت الجزائر على عاتقها تصفية العميل تشومبي، وإنهاء الحرب الأهلية في الكونغو. ووقفت مع تشيلي في محنتها أيام سلفادور ألليندي. وكانت أول من تبنى جبهة «الفروليمو» في تشاد التي أسسها أبا صديق. وساندت جبهة «الفرولينا» الموزمبيقية، و«الجبهة الشعبية» في أنغولا، وحركات التحرر في غانا والرأس الأخضر ومدغشقر... كانت إفريقيا ساحة الاختبار المفتوحة للجزائر في مواجهة أعدائها. وهي استطاعت أن تمد جسورها إلى آخر نقطة في القارة السمراء، كما ساهمت في تقوية منظمة الوحدة الإفريقية وتمويلها لأنها مثلت مركزا لوحدة شعوب هذه القارة.

الجيش والحزب
يعرف بومدين أنه لم يعمل، في فترة حكمه، على تطوير الجهاز الحاكم في الدولة. كان يعتقد أنه نجح مع رفاقه في تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، واستطاع أن يبعد عن البلاد شبح الحرب الأهلية التي كادت أن تنزلق إليها في السنوات الأولى بعد الاستقلال. أما مهمته الأساسية، بعد التحرير واستتباب السلطة، فهي بناء جهاز قوي قادر على تسيير مؤسسات فتية وهشة، وبلا تجربة. ولما كان مجلس قيادة الثورة الذي تشكل غداة «حركة التصحيح» في 19 حزيران 1965، هو الجهاز الوحيد الذي يحافظ على لحمته، عمل على أن يكون هذا المجلس فوق كل جهاز آخر في الدولة، ولتكون مهمة بناء الجزائر الجديدة الهدف الأساس للمرحلة. ولعل هذا التوجه هو الذي جعل البعض يتهم بومدين ورفاقه بالديكتاتورية. ولكن الرجل كان يقدّر، بتجربته وثقافته، أن تسيير الدولة يحتاج إلى إظهار القوة والبأس. وقد تعلم بومدين، منذ كان جندياً، أن جيشا مَهْما كان عدده، وعتاده، وقوته، لايمكنه أن ينتصر بدون قيادة حازمة وصلبة.
كانت أكبر المشاكل التي اعترضت طريق الجزائر، بعد استقلالها، العلاقة الشائكة بين الجيش الوطني وحزب جبهة التحرير. فقد كان هناك التباس دائم في الجزائر وخارجها، وسؤال حائر يحاول أن يعرف من الذي يقود البلاد حقا؟ لم يكن بومدين الذي عرف عنه انضباطه الدقيق وحبه للنظام معاديا بطبعه للمدنيين، كما أشيع عنه. صحيح أنه كان قائدا لجيش التحرير، لكن ضباط ذلك الجيش لم يتخرجوا من كليات عسكرية، ولم يتعلموا أن يناوروا بالذخيرة البيضاء، بل كان جل جنوده من المدنيين: أبناء المزارعين والرعاة والعمال والصناع وطلبة المدارس الدينية... هؤلاء كلهم تدربوا على القتال في الأرياف والأحراش والغابات والجبال، وأزقة المدن العتيقة من دون مدربين أو معلمين. وكان بومدين نفسه طالب علم في الجامع الأزهر، ينتمي إلى هؤلاء الجنود الثوريين. ومنذ ان انتمى الرجل ورفاقه إلى جيش التحرير شعروا أن الجيش هو صمام الأمان الوحيد للثورة. بيد ان بومدين كان يعلم أيضا أن قيادة الدولة ليست مثل قيادة الثورة، لذلك حاول دائما أن يزاوج بين دور الحزب ودور الجيش في قيادة الجزائر. كان يعرف أيضا ان ضباط جيش الجزائر لم يعودوا كما كان أسلافهم في سنوات التحرير من أهل النقاء الثوري. وكان يخشى دائما أن تصبح الدولة في قبضة الجيش، مثلها مثل أية دولة في أفريقيا. لقد كبر الجنرالات الجزائريون، واكتسبوا كل عيوب جنرالات العالم الثالث. كثيرون منهم ضلّوا الطريق، فانتفخت رؤوسهم، وكروشهم، وجيوبهم.
■■■

كانت الجزائر القوية هي شغل بومدين الشاغل، وشغل رفيق دربه بوتفليقة أيضا. وقبل أن يلفظ بومدين أنفاسه الأخيرة، قال للدكتور عبد الوهاب الورغلي، أحد اطبائه الذين أشرفوا على علاجه: «قولوا لمن يأتي من بعدي أن يعملوا من أجل قوة الجزائر. قولوا لهم إن هذه هي وصية بومدين الأخيرة». لعل هذه الكلمات نفسها هي وصية بوتفليقة اليوم.