تونس | لم يكن مفاجئاً قرار الرئيس قيس سعيد تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية إلى أجل غير مسمًّى. إذ إن كلّ المؤشّرات الأخيرة تعاضدت على التأكيد أن سعيد لا يلقي بالاً لكلّ الدعوات إلى وضع «خارطة طريق»، يرى أن الأحزاب تدفع في اتّجاهها كي تحاول من خلالها التسلّل مجدّداً إلى مؤسسة الحُكم، التي يريد هو إبعادها منها نهائياً. هكذا، لا يبدو أن الرئيس في صدد اختيار رئيس للحكومة، بل يظهر أن لديه توجّهاً لحلّ البرلمان الذي عطّل أعماله منذ قرابة شهر. وفيما يتركّز عمله راهناً على مكافحة الفساد بطريقة غير مألوفة يَعتقد فريقه أنها السبيل الأنسب في الوقت الحالي، يحاول الرجل خطْب ودّ الفئات الفقيرة من خلال إجراءات اقتصادية عاجلة تستهدف إحداث انتعاشة في البلاد. وإذ لا تزال شعبية سعيد في مسار تصاعدي بالفعل، إلّا أن مضيّه في المسار الاستثنائي بلا أفق واضح، والغموض الذي يلفّ خطواته، يبعثان مخاوف لدى خصومه من "ديكتاتورية ناشئة" تضع تونس أمام مستقبل قاتم
كما كان متوقّعاً، مدّد الرئيس التونسي، قيس سعيد، التدابير الاستثنائية التي كان أعلنها في الخامس والعشرين من شهر تموز الماضي، إلى أجل غير مسمًّى، ليبقى السؤال حول ما سيلي التمديد مستقبلاً، خصوصاً في ظلّ تلويح سعيد بـ«إطلاق صواريخ دستورية جديدة»، كما جاء في آخر كلمة له الجمعة الماضي. على أن الغموض الذي يلفّ خطوات الرئيس لا ينفي حقيقة سعيه المستمرّ إلى تحقيق ما حلم به منذ عقد من الزمن، عرفه فيه التونسيون أستاذاً للقانون الدستوري وناشطاً مع عائلات ضحايا انتفاضة 17 كانون الأول 2010 (تاريخ إحراق محمد البوعزيزي لنفسه، واندلاع التظاهرات والمواجهات مع نظام زين العابدين بن علي)، والذين يعتبرهم المنبع الأصلي لأيّ شرعية بعد هذا التاريخ، رافضاً ما سمّاها توافقات «إخماد الإنفجار الثوري العظيم»، والتي انطلقت، بحسبه، في 14 كانون الثاني 2011، بهرب بن علي وإعلان أعمدة نظامه ( فؤاد المبزع رئيس البرلمان، ومحمد الغنوشي رئيس الحكومة)، آنذاك، إدارتهم للدولة إلى حين إنتاج توازنات جديدة، لم تُلغِ البتّة بقايا النظام، وإنما أدمجتها في صلبها، وأعلت العناوين السياسية على المطالب الاجتماعية، بل تكاد تكون ألغتها تماماً، وتبنّت ممارسات النظام السابق نفسها، وأعادت إنتاجها.
وإذا ما تمّ تشريح مفهوم «الانفجار الثوري»، الذي يرفض سعيد استبدال مفهومَي الثورة أو الانتفاضة به، فقد يتّضح هامش فعله السياسي من هذه الزاوية. فوفق أستاذ القانون الدستوري الذي اعتلى سدّة الحكم في قصر قرطاج بعد تسع سنوات من ذلك، ما حدث كان انفجاراً اجتماعياً بالأساس، بدت كلّ أسباب تَحوّله إلى نارٍ تحرق نظام بن علي متوفّرة منذ زمن، علماً أنها ليست أسباباً سياسية بالدرجة الأولى، بقدر ما هي متعلّقة بأوضاع المعيشة المتدهورة، والتباين الطبقي والتمييز الجهوي (العنف الهيكلي المسلّط على جهات نائية في البلاد حُرمت قصداً من التنمية، مقابل محاباة جهات أخرى وتركيز المشاريع والبنية التحتية فيها)، والظلم الذي مورس على الطبقات الشعبية التي أُرغمت على الصمت على فقرها وتهميشها بواسطة القمع والهرسلة البوليسية. جميعها تراكمات جاءت حادثة إحراق البوعزيزي لنفسه لتُفجّرها على نحوٍ غير مسبوق، قبل أن تسطو الأحزاب على «الانفجار» وفق رؤية سعيد، الذي لا يستثني من ذلك المعارضة التي قارعت نظام بن علي، ولا «منظّمة الشغيلة» التي لعبت دوراً هامّاً في تأطير الاحتجاجات، بل يعتبرها شريكاً أساسياً في السطو على الثورة، والاشتراك في توافقات لتقاسم النفوذ.
عمل سعيد على توفير أسباب انتعاشة اقتصادية مؤقّتة عبر محادثاته مع «منظّمة أرباب الأعمال»


من هنا، يعتقد كثيرون أن ما قام به سعيد على امتداد شهر، مَثّل ترجمة لتلك الرؤية، مع تعديلات بسيطة تُمليها عليه «إكراهات» السلطة وبعض التمثّلات المتشكّلة في الذهنية التونسية خلال العقد الماضي، ولا يمكن له أن يمحوها بسرعة وسهولة. وعلى هذا الأساس، يتفهّم هؤلاء إرجاء سعيد الاستحقاقات السياسية إلى توقيت يتحيّنه هو، ورفضه أيّ «خرائط وحوارات وطنية»، وإحيائه تقرير «التقّصي حول الفساد والرشوة» المنجَز سنة 2011، والذي لا يتذكّر عموم التونسيين منه إلا صورة لرئيس اللجنة في القصر الرئاسي، يحسب أموال بن علي ومقتنياته الثمينة، واعتباره هذا التقرير منطلقاً للمحاسبة، ليلغي به كلّ ما أفرزته منظومة «العدالة الانتقالية»، أو التوافقات السياسية مع رموز النظام السابق. وانطلاقاً من ذلك، بدأ سعيد إجراءات متعلّقة بـ«الفاسدين الجدد»، توازياً مع حديثه المتكرّر عن الأموال المصادَرة (أموال رموز نظام بن علي المجمّدة في البنوك الأجنبية)، والتي اتّهم الحكومات المتعاقبة بإهدار حق التونسيين فيها والعمل على إفشال عملية استجلابها قصداً في إطار تحالفٍ غير معلَن بين المنظومتَين. وممّا يُفهم من تلك الخطابات، إصرار سعيد على إيصال رسالة بانتهاء مرحلة «الامتيازات» التي سادت خلال العشرية الماضية، وكانت من أهمّ ملامحها حصانة السياسيين ومَن والاهم من رجال أعمال وقضاة وإعلاميين، بمن فيهم رئيس «هيئة مكافحة الفساد» نفسه الذي يأخذ عليه القصر الرئاسي دوره الخفي في إسقاط حكومة الفخفاخ السنة الماضية. ولذا، لاقى ترحيباً قرارُ سعيد إحالة كبير قضاة تونس، الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب الطيب راشد، وكبير المدّعين العامين، وكيل الجمهورية السابق بشير العكرمي، على القضاء ورفع الحصانة عنهما، توازياً مع توجيه دعوة إلى بقية القضاة للانخراط في مسار مكافحة الفساد أو مواجهة مصير مَن كانا منذ أشهر صاحبَي نفوذ منقطع النظير وحصانة «خيالية» ضدّ تهم الفساد والرشوة والتواطؤ مع الإرهاب. المفارقة أن إجراءات سعيد لم تطل رجال أعمال نافذين أو سياسيين راجت حولهم اتهمات بالإثراء على حساب المال العام، وهو ما ولّد خيبة أمل لدى كثيرين. لكن فريق الرئيس يدافع عن ما تَقدّم بأن إثارة هكذا ملفّات تتطلّب إعداداً قضائياً وقانونياً كافياً، حتى لا تكون القضايا واهية ويؤدي سقوط الدعاوى إلى أثر عكسي لدى الجمهور المساند لسعيد، مشيرين إلى أن هذه القضايا تُطبخ على مهل، وستُفتح في الوقت المناسب لضخّ الأوكسجين في أوساط المساندين متى أصابتهم الخيبة أو ملّوا بطء المسار. وفي هذا الإطار، جاء إيقاف النائب لطفي علي ليخدم الهدف المذكور، بالنظر إلى تواتر الاتهامات المُوجّهة إلى الأخير بالتسبّب بإيقاف إنتاج الفوسفات في البلاد، وتراجع عائداته بشكل أثّر عميقاً في المالية العمومية، لكن نتيجة لعلاقات علي المتشابكة لم تقترب منه المساءلة القضائية أو حتى السياسية، وفق ما يُنظّر له فريق الرئيس.
على خطّ موازٍ، عمل سعيد على توفير أسباب انتعاشة اقتصادية مؤقّتة، عبر محادثاته مع «منظّمة أرباب الأعمال» أو مهاجمته المحتكرين للمواد التموينية والأولية، فضلاً عن توقيعه اتفاقية المساعدات الاجتماعية للفئات الفقيرة والهشة، والذي استغلّه لتوجيه عدّة رسائل، من بينها حديثه عن مخطّط لاغتياله. وإذ اتّجهت الأنظار، عقب حديثه هذا، إلى حركة «النهضة» باعتبارها خصمه الأول والخاسر الأول من إجراءات 25 تموز، فقد أطلقت جرس إنذار من إمكانية تفكير أطراف بإنهاء المسار الجاري حالياً عبر الدم. في المقابل، لقيت هذه الرسالة صدى كبيراً لدى مناصري سعيد، وأعادت تزخيم الدعم الشعبي له، في الوقت الذي أعلنت فيه «النهضة»، بدورها، دعمها للرئيس، وتعهّدت بأن تحاسب كلّ مسيء إليه وإلى عائلته من قواعدها، وفق بيان لرئيس الحركة، راشد الغنوشي، نُشر الأحد. وعلى رغم تودّد «النهضة» إلى سعيد، إلّا أن الأخير لم يستثنها من مقاطعته للساحة الحزبية بجميع مكوّناتها، ورفضه أيّ طرح يعيد تلك المنظومة إلى واجهة الفعل السياسي.
يُبقي سعيد حوله هالة من الغموض. يفاجئ الجميع بتحرّكاته وزياراته وقراراته، رافضاً التعاطي مع الإعلام أو تقديم إجابات على الأسئلة المطروحة بمبرّر «حساسية الوضع»، الذي يقتضي، من وجهة نظر قصر قرطاج، سدّ منافذ «الاختراقات». وفي حصيلة الشهر الأوّل بعد قرارات 25 تموز، مساعٍ دبلوماسية حثيثة لسعيد ووزير خارجيته، تستهدف نفي تهمة الانقلاب عمّا قام به الرئيس، توازياً مع التزام سلوك الحذر إزاء الأطراف الإقليمية الساعية إلى الاستثمار في الحدث التونسي، وعلى رأسها الإمارات والسعودية ومصر، فيما تُعدّ الجزائر الدولة الأكثر تواصلاً مع الرئيس وتطميناً له. وبينما راهنت النهضة على المواقف الأوروبية والأميركية لإرجاع سعيد عمّا ينويه، فإن ردّ القصر الرئاسي على التصريحات الغربية لا يزال هو نفسه: ما حدث «لم يكن انقلاباً، بل إجراءات تستمدّ شرعيتها من الشعب»، والأخير «هو المحدّد للمستقبل، وقطعاً يريد مستقبلاً بدون برلمان يتسبّب في العنف والفوضى، وتوافقات سياسية حول حكومات لم تقدّم للتونسيين شيئاً». هكذا، يستحضر سعيد ما يرى أنه الحقبة الأفضل في تاريخ الدبلوماسية التونسية حينما كان مدرّساً ويروي ذلك لطلبته، وهي تموضع تونس في «كتلة عدم الانحياز» في فترة شهد فيها العالم انقساماً حادّاً بين قطبين. وفيما يبدو أن الرئيس حسم أمره بحلّ البرلمان الذي بدأت استقالات نوابه تعلَن بين الفينة والأخرى، لا يظهر أن الحكومة تمثّل بالنسبة إليه شأناً عاجلاً طالما أنه لم يعثر بعد على «المخلِص» الذي ينفّذ توصياته ولا ينقلب عليه حتى لا يتكرّر سيناريو هشام المشيشي مرّة أخرى. وبين هذا وذاك، يتواصل قلق المنظّمات الحقوقية من السياق الاستثنائي الذي تتركّز فيه السلطات بيد سعيد، والذي لا تزال التطمينات الرئاسية المتكرّرة عاجزة عن تهدئته، أو عن إبعاد شبح التفرّد بالرأي والقرار.