تونس | لم ينم التونسيون، ليل الثلاثاء - الأربعاء، بعدما أعلن التلفزيون الرسمي قرب بثّ الحكم الذي أصدرته «المحكمة الابتدائية» تونس، في قضية اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد. وبعد طول مداولات بين هيئة «المحكمة» و«هيئة الدفاع» ومحامي المتهمين و«النيابة العمومية»، صدرت الأحكام التي أثارت ارتياحاً لدى فئة واسعة كانت تترقّب محاسبة قتلة الشهيد الذي سقط في 6 شباط 2013. وأصدرت المحكمة أحكاماً أقصاها الإعدام شنقاً، والسجن المؤبد ومئة وعشرون سنة سجناً في حق المنفذين المباشرين والمتعاونين معهم، والذين بلغ عددهم ثلاثة وعشرين متهماً ممّن تمكنت التحقيقات من تحديد مشاركتهم في الاغتيال الذي نفّذه الإرهابيان كمال القضقاضي الذي قضى خلال تبادل إطلاق نار مع قوات الأمن في شباط 2014، وأحمد الرويسي الذي قتل في ليبيا عام 2015 خلال معارك بين قوات «داعش» التي ينتمي إليها وقوات «فجر ليبيا». وأعلن المساعد الأول لوكيل الجمهورية لمكافحة الإرهاب، أيمن شطيبة، في تصريح إعلامي، أن المحكمة قضت بالإعدام بحق أربعة متهمين، والسجن بقية العمر في حق متهمين آخرين، والسجن بين عامين ومئة وعشرين عاماً في حق قسم ثالث.على أن الطريق أمام البتّ في القضية لم يكُن معبّداً، بعد 11 سنة وسمها التسويف وتقاذف الملف بين هذه الدائرة القضائية وتلك، وتأجيل التحقيقات مع المتهمين، وامتناع بعضهم عن الحضور لسماع أقوالهم، وهرطقات إجرائية متنافية حتى مع صريح النص القانوني. ولو لم يكن هناك إصرار من قِبل «هيئة الدفاع» في ملف الاغتيالات السياسية، ومن رفاق شكري بلعيد، لكانت القضية دُفنت إلى الأبد. وفيما ينسب أنصار الرئيس قيس سعيد، الفضل له في هذا الحكم، يستند هؤلاء إلى التغييرات التي قام بها الأخير في المؤسسة القضائية وإبعاده عدة أسماء عملت على دفن الملف وتشتيته، وفي مقدمة هؤلاء النائب العام الأسبق لـ«النهضة»، ورجلها داخل محكمة تونس بشير العكرمي، الذي يواجه الآن قضايا عديدة متعلقة بإتلاف أدلّة ومخالفة الإجراءات في التحقيق في قضيتَي الاغتيالات و«الجهاز السري» لـ«لنهضة». وفي المقابل، تعترض الأحزاب اليسارية، وخاصة مكونات «الجبهة الشعبية» سابقاً، على هذا الادعاء الذي يمحو آلاف التحركات والاحتجاجات التي نظّمتها الأخيرة بمختلف أطيافها، للمطالبة بالبتّ في القضية، وخاصة حزب «الوطنيين الديموقراطيين الموحد» الذي ينتمي إليه بلعيد، علماً أن «هيئة الدفاع» في الملف تحوز الدور الأهم في تجميع شتات القضية وإعادتها إلى اهتمامات الرأي العام، واقتفائها أثر الأدلة التي كشفت الجناة.
من المتوقع أن يتم البتّ قريباً في تهم يواجهها عدد من قيادات «النهضة»، بالتحريض والتستّر على اغتيال بلعيد


بالنتيجة، سقطت عبر هذه الأحكام، سردية «المؤامرة الداخلية» التي كانت قد روّجت لها حركة «النهضة» بعيد اغتيال بلعيد، مدّعية أن من دبّر الاغتيال هم أرملته ورفاقه، وهي الرواية نفسها التي عرضتها قناة «الجزيرة» منذ سنوات، ليتّضح لاحقاً أن هذه الادعاءات كان هدفها دفن الملف والإجهاز عليه قضائياً. إلا أن العدالة لن تتحقق بصفة تامة، وفقاً لعضو «هيئة الدفاع» والأمين العام السابق لـ«الوطنيين الديموقراطيين» محمد جمور، إلا «عندما يتم الفصل في جميع القضايا المتعلقة بجريمة اغتيال بلعيد»، أي عند البتّ في قضية «الجهاز السري» لـ«النهضة»، والذي سهّل الاغتيال وتستّر عليه، وحينما تصدر أحكام في قضية اغتيال المناضل محمد البراهمي. وأضاف جمور أن الحكم في القضية رسالة واضحة بأنه لا يمكن قبر الحقيقة ولا الإفلات من الحساب، علماً أن «هيئة الدفاع» ستواصل متابعة الملف وتنفيذ الأحكام، وسير الملفات المتعلقة به.
ويواجه عدد من قيادات «النهضة»، اليوم، ملاحقات قضائية بتهم التحريض على اغتيال بلعيد، والتستر على إرهابيين نفذوا العملية، وإتلاف الأدلة الجنائية في الملف. وفي السياق، من المتوقع أن يتم البتّ قريباً في هذه التهم التي تطاول رئيس الحركة، راشد الغنوشي، ووزير الداخلية زمن الاغتيال، الأمين العام لـ«النهضة» السابق علي العريض، وعدداً من معاونيه. إلا أن الحركة اعتبرت، عقب صدور الأحكام، أن ما توصلت إليه المحكمة دليل تبرئة لها، معبّرة، في بيان، عن ارتياحها لظهور الحقيقة وانتهاء ما وصفته بـ«مسلسل المتاجرة بالقضية» من قبل رفاق بلعيد و«هيئة الدفاع» في ملفه، ومتغافلة عن أن القرار القضائي يكذب رواية ضلوع عائلة الراحل ورفاقه في قتله. وأثار هذا البيان دهشة مراقبين، كون الحكم اقتصر على المنفذين، ولم يشمل ملف «الجهاز السري» الذي سيظهر البتّ فيه الحقيقة كاملة.