مهما تكن النتائج التي سيفضي إليها النزاع الحالي بشأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فهذا النزاع سيتجدّد لا محالة، بشأن أمر آخر، أو سبب آخر، أو معضلة أخرى. بمعنى ثانٍ فإنّ التوصّل إلى حلّ للنزاع بشأن المحكمة الدولية أو إلى تسوية ما لها، لن يكون خاتمة أحزان لبنان واللبنانيين. إنّهما، أي النزاع والتسوية بشأنه، مجرّد محطة في صراع مفتوح تتعقّد مساراته وتستعصي غالباً نهاياته،
فيتجدّد دائماً وعلى نحوٍ أكثر حدّة واتساعاً. ولا يندر أن يتخذ هذا الصراع صيغة عنف وتقاتل واحتراب أهليين، وخصوصاً حين تتداخل وتتفاعل الأزمات المحلية والإقليمية، وهي غالباً ما يقع لها هذا التداخل والتفاعل، على «ساحتنا».
وتتمّة هذا المسار الذي لا يدعو إلى أيّ نوع من أنواع الفخر، أنّه حين يرسو الصراع في محطة من محطاته على محصّلة ما، وعلى تسوية ما، فإنّما يحصل ذلك بسبب التدخل والوساطة الخارجيين. أما أطراف الصراع، اللبنانيون، فيكرّرون عجزهم عن تحقيق ذلك، ويراكمون في هذا الحقل تجربة جديدة من الخيبة وانعدام المسؤولية.
وقد نجم عن ذلك واقع مأساوي من انعدام الاستقرار، ومن هدر الطاقات الوطنية، ومن العجز عن بناء دولة حصينة ومستقلة وسيّدة. وليس من قبيل الصدفة أنّ لبنان يصنَّف الآن بين «الدول الفاشلة». إنّ هذا التعبير الذي استحدثه عام 2006 نوام تشومسكي، الكاتب والمفكّر التقدّمي الأميركي، قد تحوّل إلى جوهر معادلة يجري على أساسها توصيف صعوبات الدول. وبالتالي يجري تصنيفها في جداول تكشف حجم ما تعانيه من تردٍّ في أوضاعها السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية عموماً.
وفي التصنيف الأميركي، يقع لبنان لعام 2010، من بين نحو 200 دولة، في الدرجة الـ34. وهذه الدرجة تبدأ من الدول الأكثر معاناة، إلى الدول الأكثر معافاة. ولقد كان لبنان يشغل الموقع الـ19 عام 2007. ما دفعه إلى شيء من التحسّن هو توقيع اتفاق الدوحة في أيار من عام 2008. هذا الاتفاق كان عبارة عن تسوية، أفضت تباعاً، إلى التمكّن من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومن ثمّ تأليف حكومة جديدة، وإجراء الانتخابات النيابية في شهر حزيران من عام 2009، التي انبثقت عنها حكومة «الوحدة الوطنية» (!) الحالية.
نتذكّر، مرّة جديدة، أنّ تسوية الدوحة قد حملت في الاسم وفي المكان وفي الكثير من شروطها، بصمات الدور الخارجي. بكلام آخر، لقد أدّت الوساطة الخارجية ـــــ وهي وساطة تمليها في الجوهر جملة مصالح لا منظومة أخلاق أو شهامة عربية ـــــ دوراً حاسماً في التوصّل إلى اتفاق «السلام» اللبناني المؤقت. يومها استطاعت القيادة القطرية أن تمثّل القابلة القانونية للتسوية. وهي بالمناسبة، في نجاحها ذاك، قدّمت نموذجاً مغايراً تماماً للنموذج اللبناني. لقد استطاعت قطر، الدوحة الصغيرة التي تتوافر لها قيادة متماسكة ومبادرة وذكية، أن تفضح كثيراً من أشكال الخلل في البنيان اللبناني. كما فضحت الادّعاء اللبناني بـ«فرادة الصيغة» وأكذوبة العيش المشترك وتفوّق النظام السياسي الذي منع قيام دولة حصينة ووطن مستقر ومزدهر يليق بتضحيات الشعب اللبناني وبطولاته وإنجازاته.
لكنّنا اليوم أمام منعطف جديد حيال ما درجنا عليه من الصراع في الداخل وطلب الحلول والتسويات من الخارج. ولعلّ أكثر ما عبّر عن هذا الأمر، تأفّف الآخرين منا وضيقهم بشروطنا ودلعنا، فيما نحن نتوسّلهم أو نتوسّل إليهم أن يساعدونا على الخروج من أزمتنا. أما من تولّى التصريح بهذا الأمر، فالسفير السعودي في لبنان السيّد علي عواض العسيري. لقد قال العسيري لمحطة الإذاعة البريطانية الأسبوع الماضي، وبطريقة حاسمة ومفاجئة: «إنّ مشكلة لبنان في اللبنانيين». وهو طالبهم بالحوار وبإقامة جسور الثقة في ما بينهم من أجل حلّ مشاكلهم المتفجّرة. لم يطلق السفير السعودي هذه العبارة للبناء عليها في الحاضر أو في المستقبل. فتدخّل السعودية وسواها في الشؤون الداخلية اللبنانية، أمر سيستمرّ اليوم وغداً، كما كان بالأمس، وأكثر. لكن هذا التبرّم السعودي، إنما يعكس الانزعاج الذي يستشعره «الوسطاء»، وهم غالباً أيضاً متورّطون في التدخل في الشؤون اللبنانية، من شروط ومطالب اللبنانيين. فهذه الشروط والمطالب تتخطّى كلّ ما هو منطقي وعقلاني ووطني، وتتكشّف من خلال الإصرار عليها، وبالتالي من خلال عرقلة بعض التسويات الإقليمية، عن رعونة وفئوية لا مثيل لهما.
إنّ انزعاج السفير السعودي، هو إذاً، أقرب إلى لحظة ضيق أكثر ممّا هو تعبير عن لحظة مراجعة في السياسة السعودية بحيث تكون المملكة أوّل من يأخذ المبادرة، من القوى الخارجية، في رفع اليد عن الوضع في لبنان. وهو في هذا السياق، شكل من أشكال تعقيد الحلول والتسويات. ومن علامات ما بلغه الوضع اللبناني من تعقيد أيضاً، المواقف التي أطلقتها القيادة السورية بانتفاء وجود مبادرة سورية ـــــ سعودية حيال لبنان. وهي بذلك أيضاً، كانت تعبّر، ولو بطريقة غير مباشرة وجزئية، عن الضيق من الفشل في احتواء الأزمة اللبنانية من جانب طرفي معادلة السين ـــــ سين المعروفة.
في هذا السياق أيضاً، يجدر التوقف عند البيان الذي أصدره مجلس المطارنة الموارنة في جلسته في مطلع الشهر الحالي. فهذا المجلس الذي يحضر دائماً في صلب الصراع السياسي، قد نطق بالحق حين قال «إنّ شلل المؤسسات الدستورية وانتظار الحلول من الخارج يدلان على ضعف في الإرادة الوطنية». وهو رأى أنّ «المطلوب اللقاء والتشاور والاتفاق على القرارات المصيرية التي تجنّب البلاد مزيداً من التردّي على الصعد السياسية والأمنية والاجتماعية».
لا ينبغي تعويل الكثير على موقف مجلس المطارنة. وكثيراً ما يردّد أطراف الصراع كلاماً صحيحاً بشأن الآخرين دون أن ينسحب الكلام على قائله. إنّه نوع قديم وتقليدي من التناقض ما بين القول والعمل. ومع ذلك لا بدّ من أن نرحّب بكلّ موقف صحيح مهما شابت صدقيته من أسئلة. المطلوب فعلاً أن يتجاوز اللبنانيون الخلل المزمن، الذي ضخّمه ويغذيه أبداً، النظام السياسي القائم.
إنّ معادلة الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي، هي ما يحدّد مسار الأزمة اللبنانية ويعقّد الوصول إلى الحلول بشأنها. وهي أزمة باتت ذات أضرار وطنية غير محدودة. ولذلك فإنّ كلّ بحث يجب أن يبدأ من هنا. فمن دون الانطلاق من مقدّمات سليمة في تشخيص الأزمة، يستحيل استخلاص الاستنتاجات الصحيحة بشأن معالجتها.
هذا بعد التحدّي الذي يصفع الجميع: من القوى التقليدية، المسؤولة الأساسية عن الأزمة، إلى قوى التغيير، المسؤولة الأساسية عن تعبئة قوى سياسية واجتماعية لإيجاد الحلول لها. إنّها مهمة وطنية شاملة لكي لا يضيع لبنان بسبب رعونة القيّمين عليه بالدرجة الأولى.

* كاتب وسياسي لبناني