جوزيف مسعد*ثانياً، الالتزام بقمع كل أشكال المقاومة ضد إسرائيل المسماة «تحريضاً» مثل حرية التعبير وحرية العمل السياسي، وهذه أيضاً وافق عليها فيّاض دون تردد: «يمكن التحريض أن يأخذ أشكالاً عدة: أشياء تقال، وأشياء تفعل، واستفزازات. ولكنّ هنالك طرقاً للتعامل معها ونحن سنتعامل معها».
ثالثاً: التنازل عن حق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى منازله وأراضيه التي شُرِّد عنها على أيدي المستعمرين الأوروبيين اليهود: «بالطبع سيكون للفلسطينيين الحق بالعودة إلى دولة فلسطين».
ولكن، ولكي لا نقع في خطأ الاعتقاد بأن فيّاض يلبي طلبات إسرائيل فقط، يؤكد لنا فيّاض أنه لا يخشى الوقوف في وجه الأميركيين. ففي مقابلة أجرتها معه مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها الأخير، يُصِرُّ فيّاض على طرح نفسه كرجل لا يتساهل في تعامله مع الولايات المتحدة. يجب على هوغو تشافيز أن يقف ليتعلم درساً في الاستقلالية وعدم الانحياز من فيّاض «الطريق الثالث»، وهذا هو اسم القائمة التي ترشح فيّاض تحت مظلتها في انتخابات عام 2006، والتي اتهمتها فتح بأنها ممولة من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي). وقد حصدت «الطريق الثالث» 2.41% من أصوات الناخبين. ويجب ألا يفوت القارئ أنّ فيّاض هو الشاهد الوحيد على مواقفه البطولية مع الأميركيين، وهو لذلك متحمس لسردها للذين أجروا المقابلة معه. يخبرنا فيّاض أنه وقف في وجه الأميركيين عندما تسلم منصب وزير المالية عام 2002، وطُلب منه زيارة الولايات المتحدة، حيث رفض الطلب وأخبر الأميركيين أنه مشغول في مهمات منصبه الجديد، وأنه سيزورهم عندما يسمح جدول أعماله بذلك. وليس ذلك فحسب، فقد وقف بعدها (وهو الأمر الذي لم يعلم به أحد حتى الآن) في وجه الجنرال كيث دايتون، المدرب الأميركي الرئيس لمافيا العصابات الأمنية الفلسطينية، عندما أمره فيّاض بعدم التحدث إلى الصحافة وبأنه ليس سوى مدرب لقوات أمن السلطة وليس مستشاراً لها. ويخبرنا فيّاض أن الجنرال دايتون اعتذر على الفور ووعده بعدم تكرار تلك الغلطة مرة أخرى. وأخيراً وهو الأهم، أنه رفض الانصياع لطلب الولايات المتحدة بعدم المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية عام 2007، بل إنه أصر على المشاركة في الحكومة التي قادتها حماس، والتي قاطعها الاتحاد الأوروبي فور تأليفها. لا يذكر فيّاض ولا يذكّره من أجرى اللقاء معه بأنه كان قد عيّنه الأميركيون رئيساً لوزراء حكومة السلطة الفلسطينية الانقلابية في حزيران (يونيو) 2007، بعدما فشلت السلطة ومعها كيث دايتون بانقلابهما على حماس المنتخبة ديموقراطياً في غزة. على أية حال، لو لم يكشف فيّاض لنا عن هذه الحقائق لبقيت مواقفه المناوئة للامبريالية غير معروفة وغير مقدرة حق قدْرها من الجماهير.
في مقابلة أجرتها معه مجلة الدراسات الفلسطينية يبدي فيّاض قلقه من استمرارية السلب الكولونيالي الإسرائيلي للقدس، لدرجة أنه وهو بكامل قواه الواعية يوصي بتطبيع عربي شامل مع إسرائيل لإيقاف هذا السلب: «فعروبة المكان تتعزز عندما يأتي العرب إليه، ولا تتعزز بالمقاطعة بحجة أن هذا فيه تطبيع مع المحتل، وأعتقد أن قيام العرب بزيارة القدس واجب مهم، وأشجع على ذلك كثيراً، ففي هذا تدعيم وتعزيز للبعد العربي في هوية القدس». ومن المثير للفضول أن هذه الفقرة قد أسقطت من النسخة المترجمة من المقالة التي ظهرت في العدد الأخير من مجلة الدراسات الفلسطينية التي تصدر باللغة الإنكليزية Journal of Palestine Studies! إن فيّاض بالطبع هو من روّاد التطبيع، وهو ما يثمنه رؤساؤه في إسرائيل والولايات المتحدة عالياً، حتى أنهم لا يكتفون بكيل المديح والإشادات بقيادته الحكيمة، بل إنهم لا يتوانون عن مكافأته بكرم حاتمي وصل إلى حدِّ دعوته في شباط (فبراير) الماضي للمشاركة وإلقاء خطاب في المؤتمر الإسرائيلي السنوي في هرتسليا، حيث اجتمع القادة الإسرائيليون لمناقشة استراتيجيات نزع فتيل «القنبلة الديموغرافية» الفلسطينية، وقد قدم خلاله مارتن كريمر، وهو المتطرف في السياق الأميركي والمعتدل في السياق الإسرائيلي، أطروحته السيئة الصيت التي تدعو إلى تحديد نسل الفلسطينيين والتخلص من «الرجال الشباب [الفلسطينيين] الذين لا نفع منهم». وربما كان اعتراف فياض بادعاءات إسرائيل «التوراتية» باستملاك فلسطين قد أوحي له هناك أثناء وجوده في هرتسليا.
ليس فيّاض ديموقراطياً يحلِّق فوق الخلافات الحزبية بين فتح وحماس فحسب، بل يُصِرُّ أيضاً على أنه يستخدم جهاز قوات الأمن العصاباتية المدربة على يد دايتون والتي تتحرك بإمرته لقمع كلِّ من يُخِلّ بالقانون من أي حزب كان. وفي مقابلته مع مجلة الدراسات الفلسطينية يُصِرُّ فيّاض على أنه يعارض انتهاك حقوق الإنسان أو استخدام التعذيب أو اعتقال أيّ شخص بسبب آرائه السياسية، على الرغم من السجل الهائل الذي جمعته منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية الحافل بانتهاك جميع هذه الحقوق من جانب عصابات دايتون التي تستهدف كل من ينتمي إلى حماس على وجه الخصوص. والانتخابات الطلابية التي جرت الأسبوع الماضي في جامعة بير زيت هي مثال توضيحيّ كافٍ. فكما بيّنت الدكتورة إصلاح جاد في مقالة نشرتها عن انتخابات جامعة بير زيت، فإنّ جوهر الديموقراطية هو ما تعرض للخطر في جامعة كانت دائماً منارة لهذه الحريات. فمنذ اعتلت السلطة الفلسطينية الحكم، ولا سيما بعد فوز حماس عام 2006. فقد أصبح كل من يرشحه الإسلاميون للانتخابات الطلابية عرضة للاعتقال من عصابات دايتون فَوْرَ ورود اسمه في قوائم المرشحين أو عند فوزه بالانتخابات. ونتيجة هذا الجو الإرهابي، قررت الأحزاب الإسلامية عدم ترشيح أحد للانتخابات الأخيرة تلافياً لاعتقالهم. وهكذا، وعلى الرغم من أن الانتخابات بحد ذاتها حرة، إلا أن إرهاب المرشحين واعتقالهم هو ما يجعل النتائج مضمونة سلفاً. ومع ذلك توصف هذه الانتخابات بأنها «ديموقراطية». أما حقيقة أن نسبة مشاركة الطلبة في انتخابات جامعة بير زيت الأخيرة قد كانت أقل من 50% ، فذلك شاهد عملي على نوع الديموقراطية الأميركية التي يريد فيّاض وعصابات دايتون مأسستها في الدولة التي سيلدها العام المقبل.
إن خطة فيّاض لإقامة دولة فلسطينية في آب (أغسطس) 2011 هي بمثابة القبول بمقترحات كامب ديفيد التي سبق أن عرضت على عرفات ورفضها عام 2000. ولدى الأميركيين اعتقاد بأنه إذا ما طرح الفلسطينيون أو على الأقل عملاء أميركا منهم مثل هذه المقترحات، مع إظهارها وكأنها تحدٍّ لإسرائيل أو حتى للمشيئة الأميركية، فإن ذلك سيجعلها أكثر قبولاً لدى الفلسطينيين السذَّج من لو أنها فرضتها عليهم مباشرة إسرائيل والأميركيون. ففي عام 1999 قامت إدارة كلينتون وحلفاؤها في المنطقة ومن ضمنهم الحكومة الأردنية بعمل كل ما أمكنهم عمله لضمان هزيمة نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية، وقد نجحوا في دعم إيهود باراك للفوز بها لكي يجري الأخير مفاوضات كامب ديفيد تحت رعاية كلينتون. ولكن، وفيما لم يكن لعرفات خيار سوى رفض ما عُرض عليه، حيث لو أنه قبل به لخسر كل شرعيته التي كان يتمتع بها لدى الشعب الفلسطيني، فإن لدى باراك أوباما اليوم شريكاً جديداً لا يأبه ولا يلتفت لتوافه الأمور كالشرعية الشعبية، حيث إنه على أية حال لا يملك مثقال ذرة منها. فبينما كان عرفات، القائد التاريخي للفلسطينيين منذ منتصف الستينيات، قد انتُخب بأغلبية الأصوات عام 1996 في انتخابات غير نزيهة، فإن فياض المجهول لم يلعب يوماً أي دور في الحركة الوطنية الفلسطينية، كما أنه لا يحظى بأية شرعية انتخابية. وبالرغم من ذلك، فُرِض قائداً أعلى للسلطة الفلسطينية.
وها هو ملك الأردن ينضم مرة أخرى إلى جوقة منتقدي نتنياهو في مقابلة أجرتها معه صحيفة وول ستريت جورنال أخيراً، فيما ينسق أوباما جهوده الحالية مع حزب العمل الإسرائيلي، الذي يمثل جزءاً من ائتلاف حكومة نتنياهو الحالية، بهدف إسقاط حكومة الأخير من خلال الانسحاب منها عقاباً له على عصيانه أوامر أوباما. ولتحقيق هذا الهدف المنشود يقوم أعضاء بارزون في حزب العمل بلقاءات مع فلسطينيين رسميين وغير رسميين في الولايات المتحدة

خطة فيّاض لإقامة دولة فلسطينية في آب 2011 هي بمثابة القبول بمقترحات كامب ديفيد التي سبق أن رفضها عرفات عام 2000

والضفة الغربية لتنسيق الجهود والانضمام إلى خطة أوباما نحو كامب ديفيد جديدة. ولكن طفل أوباما لن يولد إلا إذا توافر له قائد فلسطيني يقبل بشروط كامب ديفيد التي هي الآن أسوأ مما كانت عليه عندما عرضها إيهود باراك على عرفات عام 2000. فبازدياد أعداد المستوطنين اليهود بعشرات الألوف وبابتلاع جدار الفصل العنصري الأراضي الفلسطينية وبمصادرة المزيد منها في الضفة الغربية والقدس؛ فإن الـ65% من الضفة الغربية التي رفضها عرفات (والتي سوّقت إسرائيلياً وأميركياً على أنها 95% من الضفة) ستتقلص أكثر قبل أن يعرضها فياض بنفسه على الشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق وبحسب الشائعات الصادرة من واشنطن، أو على الأقل، في صحيفة واشنطن بوست، فإن خطة السلام التي يدرسها أوباما هذه الأيام مبنية بالكامل على قاعدة كامب ديفيد، عدا أن «90% من الخارطة ستبدو على شاكلة» الخارطة التي عرضها إيهود باراك على عرفات عام 2000، مما يعني أن ما سيُعرض على الفلسطينيين سيكون نحو 58% من أراضي الضفة الغربية. يبدو أن هذا هو ما سيكون عليه حجم وليد فياض المنتظر.
وبعد الانتهاء من هذه الاستعدادات سيلد فياض طفله الأميركي غير الشرعي الذي سيعمِّده باسم «فلسطين». وبخلاف طفل الناصرة، فإن طفل فياض لن يجلب الخلاص للشعب الفلسطيني بل سيكون وبالاً وخراباً عارماً عليه.
يرجى التفضل بإرسال هدايا الأم والطفل إلى عنوان مكتب السيد سلام فياض في رام الله.
* أستاذ السياسة والفكر العربيّ الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك. وقد صدر له أخيراً عن دار الآداب كتاب «ديمومة المسألة الفلسطينيّة».