حسام كنفانيالمواقف العربية تثير الشفقة والسخرية في آن. هذا ما يمكن الشعور به لدى متابعة «قرارات» مجلس الجامعة على مستوى المندوبين، الذي انبرى لـ«التصدّي» لمشروع «الترانسفير» الإسرائيلي الخاص بترحيل آلاف الفلسطينيين عن الضفة الغربية، بذريعة أنهم «متسلّلون» في وطنهم. نداء أطلقه المندوبون، متوجّهين إلى الفلسطينيين المهدّدين بالترحيل، ومطالبين إياهم بـ«رفض أوامر المغادرة». نداء مقاومة خرج من اللسان العربي، لكنه لا يُصرف فعلاً داعماً لصمود الفلسطينيين. النداء مجاني، ما دام هؤلاء السفراء، ومن ورائهم الوزراء، لن يغرّموا شيئاً من إطلاقه. فلا هم سيقفون في مواجهة الجحافل الإسرائيلية القادمة لتنفيذ الأوامر ولا سيواجهون بصدورهم العارية الرصاص المطاطي والحي وقنابل الغاز المسيل للدموع وهراوات الجنود. هم سيكتفون بالفرجة والاستنكار والتنديد، من ثم التوجّه إلى مجلس الأمن. هكذا فعلوا دائماً وهكذا سيفعلون مجدّداً.
والأنكى من ذلك أن الدعوة جاءت فارغة تماماً من أي معنى، مجرّد مطالبة بالتصدي. لكن ماذا عن مقوّمات هذا التصدي؟ لا أحد يرغب في الحديث عنه، ولا حتى مجرّد التلميح. ربما خجلاً من الوعود الكثيرة السابقة التي أطلقت ولم تجد سبيلها إلى التطبيق. الكثيرون يذكرون الأموال الضخمة التي تشدّقت القمم بمنحها للفلسطينيين، لكنّ القليلين يعلمون أنها لم تصل إلى الشعب المحتل.
المال كان السلاح العربي الوحيد للهرب من المواجهة. هذا كان في السابق. اليوم، يبدو أن العرب باتوا «متعذرين» عن الدفع، ولا سيما أن الكثير من أموالهم تبخّرت في البورصات الغربية. يفضّلون حاليّاً «المواجهة الدبلوماسية». مواجهة تسير جنباً إلى جنب مع التصريحات العنتريّة.
أطرف ما في هذه التصريحات كان الإعلان المصري قبل أيام بـ«التصدي» للقرار الإسرائيلي. رغم ثقل العبارة واستغراب صدورها من «قاهرة مبارك»، إلا أن المتحدّث باسم وزارة الخارجية المصرية حسام زكي أوضح الجملة حين قال «سنتصدى مع المجتمع الدولي» لمشروع الترانسفير الإسرائيلي.
هنا تتوضّح الصورة، وتصبح أكثر منطقيّة. مصر بالتأكيد لن تحرك جيوشها وقواتها لـ«التصدي». فإسرائيل ليست الغزاويين الذين تحارب لقمة عيشهم بجدارها الفولاذي، ولا هي اللاجئين الأفارقة الذين قتلت منهم المئات بدم بارد، ولا هي من أنصار محمد البرادعي الذين تجنّد القاهرة كل إمكانياتها العسكرية وعلاقاتها «الأخوية» لمكافحة انتشارهم.
الأنكى من الموقف المصري جاء من عمّان، التي تبرّعت بنفي الخبر من أساسه وتقديم صك براءة للدولة العبرية من «الأنباء الملفّقة» التي وردت في إحدى الصحف الإسرائيلية.
الموقف الأردني منسجم مع نفسه، ولا سيما أن إسرائيل لم تقم، في قرارها هذا، بأكثر ممّا قام به الأردن نفسه منذ فترة قريبة، عندما سحب الجنسية من آلاف الفلسطينيين تحت مسمّى «تعديل الأوضاع». حينها كان التبرير الأردني جاهزاً، وهو نفسه المستخدم في لبنان للتنكيل باللاجئين، للحفاظ على «حق العودة». كثيرة هي الجرائم التي ارتكبت باسم هذا الحق، الذي كان العرب أول المتنازلين عنه في مبادرتهم السلميّة، ومن بيروت
تحديداً.
أما السلطة الفلسطينية ومسؤولوها فحدّث ولا حرج. جميعهم خرجوا يدينون وينددون بالقرار الإسرائيلي ويكيلون ما تيسّر من التسميات المفيدة للاستهلاك في الإعلام الغربي، على غرار «ترانسفير» و«آبارتهايد». ربما كان من المفيد أيضاً أن يدينوا التنسيق الأمني الدائم مع إسرائيل، الذي يسهّل لدولة الاحتلال القيام بمخططاتها العنصرية. الجمود التفاوضي والمخططات الإسرائيلية الاستيطانية وغيرها لم تؤثّر على مستوى التنسيق، الذي تجد السلطة فيه نفسها في خندق واحد مع إسرائيل. وها هي تؤدي «واجباتها» على أكمل وجه: قبل أيام فقط سلّمت قوى الأمن التابعة للسلطة جيش الاحتلال 17 عبوة ناسفة بأحجام مختلفة بعدما صادرتها خلال عمليات دهم في طولكرم.
وفق هذه الأجواء العربية والفلسطينية تأتي مطالبة التصدي الفارغة. وعلى هذا الأساس من الممكن تخيّل أي دعم للصمود الفلسطيني متوقع من المندوبين ومنتدبيهم.
في كل الأحوال، فإن الفلسطينيين بالتأكيد لم يكونوا ينتظرون هذا «النداء التاريخي» للتصدي لمحاولات اقتلاعهم من جذورهم. هذا ما يفعلونه أساساً منذ أكثر من ستين عاماً، وسيبقون عليه، معاكسين في كثير من الأحيان رغبات بعض الحكّام العرب، وحتى المسؤولين الفلسطينيين.
قبل 28 عاماً خرج محمود درويش في قصيدة «مديح الظل العالي» بصورة «للمقاومة العربية»، حين قال مخاطباً الشعب الفلسطيني: «رموك في بئر وقالوا: لا تسلم. وأطلت حربك يا ابن أمي ألف عام، ألف عام، في النهار. فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار».
لم يتغيّر الوضع كثيراً، بل ازداد سوءاً.