فرج الأعور *لم تهدأ التعليقات والتحليلات منذ أن أعلن وليد جنبلاط «الإطلاق الرسمي» لقفزته الأخيرة خلال مناسبة للحزب الاشتراكي في آب الماضي. وقد تمحورت التحليلات بمعظمها حول أسباب هذه القفزة، وهل هي قفزة حقيقية، وهل تكون الأخيرة، إضافةً إلى شطارة جنبلاط في قراءة المتغيّرات في الظروف الإقليمية والدولية، وفي التقلّب من أجل التكيّف دائماً وأبداً مع هذه الظروف في سبيل «الحفاظ على طائفته». وقيل وكُتب الكثير أيضاً في التحليلات المختلفة، سواء تلك المهلّلة منها لـ«القلبة» و«عودة الابن الضال»، أو الآخذة منها موقفاً حذراً نابعاً من عدم «لدغ المؤمن من الجحر مرتين»... أو ثلاثاً... أو أكثر، بشأن القضايا «العائدة» إلى الخطاب الجنبلاطي، والمنبوشة من التسجيلات القديمة مثل فلسطين والعروبة وحقوق العمال والفلّاحين... ووصل البحث حتى إلى إمكان عودة جنبلاط إلى قيادة حركة يسارية مطلبية في البلد!
لكن وليد بك ردّ على كل هذه التساؤلات، وقطع الشك باليقين في مقابلته الأخيرة مع وكالة الصحافة الفرنسية، حين دافع عن قفزته الأخيرة وعن مواقفه خلال الأعوام الأربعة الماضية على حدّ سواء، وحين قال إنه مستعدّ للتقاعد والذهاب للعيش في النورماندي الفرنسية، والتفرغ لكتابة مذكّراته، ولكن عندما يطمئن باله، ويتأكد أنه «يترك المختارة في أيد أمينة» مع ابنه تيمور. فزعامة المختارة هي بيت القصيد عند وليد بك، وهي البوصلة التي لم يضيّعها أبداً منذ أن تسلّمها بعد استشهاد كمال جنبلاط. والحفاظ على هذه الزعامة على الطائفة الدرزية (لا الحفاظ على الطائفة بحد ذاتها) هو المحرك وراء القفزة الأخيرة لجنبلاط، وهو كان المحرك وراء كل القفزات التي سبقتها، وهو بالتأكيد سيكون وراء كل القفزات التي ستأتي في المستقبل.
وإذا كان المرء قادراً على فهم المنطق الذي يحكم وليد جنبلاط، كوريث لزعامة تاريخية، في سعيه إلى توريث هذه الزعامة لابنه في ظل النظام السياسي القائم على هذا النوع من الزعامات، يبقى عصيّاً على الفهم هذا الإصرار العجيب على التقلّب في مواقفه، وعلى استعمال هذا التقلّب وسيلة دائمة في سعيه إلى تأبيد زعامة المختارة. وتعتمد هذه الوسيلة على شطارة جنبلاط المُفتَرضة في الميل دوماً كيفما اتجهت الريح من أجل الحفاظ على حبل سريّ دائم يستمدّ من خلاله «شرعية» هذه الزعامة من جهة خارجية ما، تتغير وتتبدل دائماً حسب قراءته للظروف الإقليمية والدولية السائدة. وتساعد جنبلاط على هذا الصعيد سهولة التقلّب لديه. ويعود ذلك إلى كونه يتمتع لدى الرأي العام الدرزي بأكثرية ثابتة لا علاقة لها بالسياسة من الأساس، وذلك منذ أن قاد الدروز إلى النصر العسكري في الحرب الأهلية. والكلام الأخير عن عدم شعبية مواقفه لدى قاعدته المذهبية، وعن «مشيه عكس التيار في سبيل وأد الفتنة الدرزية الشيعية»، بعيد كل البعد عن الحقيقة.
وقد أدّت هذه السهولة، وهذا الاطمئنان إلى عدم المساءلة تحت أيّ ظرف، إلى عدم إعطاء جنبلاط أيّ قيمة للحفاظ على الحد الأدنى المطلوب من هيبة الزعامة والصدقيّة الشخصية الضروريّتين لضمان استمرارية أيّ زعامة على المدى الطويل. كذلك أدّت به أيضاً إلى استسهال الذهاب إلى الحدّ الأقصى في كلّ خيارٍ سياسيٍّ يختاره، حتى لو كان هذا الخيار معاكساً تماماً للخيار الذي سبق أن اختاره قبل ذلك مباشرةً. ووصل به الأمر في السنوات الأربع المنصرمة إلى الاستعداد للسير في ركاب عدوٍّ ساعٍ إلى احتلال المنطقة وتغيير شكلها وتمزيقها إرباً إرباً.
بقاء الزعامة كما هي سيؤدي بها إلى الاصطدام برعاياها، إن لم يكن في جيل تيمور، ففي الجيل الذي يليه
وفي مقابل التقلّب في السياسة وفي التحالفات الطائفية والمذهبية، يبدي جنبلاط ثباتاً شديداً في موقفه الداعي إلى الإبقاء على أسس النظام المحكوم من جانب ملوك الطوائف. فهو يمنع عملياً أيّ تعديل في أيّ من أسس النظام، من خلال دعوته الدائمة إلى تقديس الطائف، وهو يقف بوجه أيّ تغيير حقيقي، إن في قانون الانتخاب أو في الخيارات الاقتصادية السائدة منذ الاستقلال، أو في الطريقة التي تجري بها التعيينات في القطاع العام. وقد كان فكاهياً تصريحه عن عدم تعارض المحاصصة والكفاءة عند طرح موضوع التعيينات. وغنيّ عن القول إن التعيينات هي من أهم وسائل التحكّم في الناس، الموضوعة بين أيدي ملوك الطوائف، ومنهم جنبلاط.
ومن المستغرَب فعلاً أن يتخيّل جنبلاط، الحريص دوماً على الظهور بمظهر المثقّف المطّلع على آخر إصدارات الكتب بالعربية والإنكليزية والفرنسية، أنّ زعامة المختارة بشكلها الحالي يمكن أن تورَّث إلى تيمور وإلى ذرّيته التي تأتي من بعد تيمور، وبالتالي أن تتأبّد رغماً عن روح العصر. فلكي يترك جنبلاط المختارة «في أيدٍ أمينة» فعلاً، عليه أن يبدأ بالسير بها مسيرة طويلاً جداً من عصر الإقطاع، حيث هي حالياً، حتى يصل بها إلى عصرنا الحالي. والخطوة الأولى في رحلة الألف ميل التي تستلزمها هذه المسيرة هي أن يكون لدى هذه الزعامة مشروع عام حقيقي بدل المشروع الخاص القائمة عليه حالياً، والمتمثّل في الحفاظ على ذاتها فقط. ومن أوّل متطلبات وجود هذا المشروع العام هو أن يكون هناك موقف ثابت وحقيقي لهذه الزعامة من الصراع العربي الإسرائيلي، ومن المشروع القومي العربي الديموقراطي عموماً، وألّا يكون هذا الموقف عرضة للتقلّب والتبدّل تحت أيّ ظرف من الظروف. وعلى المستوى الداخلي، فإن ألف باء أيّ مشروع عام هو العمل على بناء دولة رعاية حقيقية، قادرة على أخذ دورها الطبيعي في تنمية البلد واقتصاده، وعلى التعامل مع مواطنيها كبشر متساوين أمام القانون.
وبدل الترداد الأجوف لشعارات العروبة وفلسطين وحقوق العمال والفلّاحين، فإنّ جنبلاط مدعوّ على الأقل، واليوم قبل الغد، إلى أخذ المبادرة والعمل على إعادة بناء المؤسسات التي بناها فؤاد شهاب في الدولة، وقد كان هو (أي جنبلاط) من أهم الذين أسهموا في هدم هذه المؤسسات، من خلال دوره في الحرب الأهلية. وجنبلاط مدعوّ أيضاً إلى المساهمة الحقيقية في تغيير النظام الاقتصادي ـــــ الاجتماعي في البلد، واعتماد سياسة توظيف في مؤسسات الدولة، قائمة أوّلاً على الحاجات الحقيقية لهذه المؤسسات، وقائمة ثانياً على التوصيف الوظيفي والكفاءة والخبرة، وعلى قطع علاقة ملوك الطوائف بعملية التوظيف برمّتها.
قد يقول قائل إن الدعوة هذه هي دعوة غير واقعية لأنها عمليّاً دعوة إلى إنهاء زعامة المختارة بواسطة تشليحها «أدوات» الزعامة. لكن هذه الدعوة هي في الحقيقة دعوة لجنبلاط من أجل إعادة تكوين زعامته على أساس ديموقراطي حقيقي بطريقة تمكّنها من الامتداد إلى المستوى الوطني بدل استمرار حصرها في الشرنقة المذهبية الموجودة فيها حالياً. وإذا امتدت هذه الزعامة إلى المستوى الوطني امتداداً ديموقراطيّاً حقيقيّاً، فهي لن تعود بحاجة إلى هذه «الأدوات»، لأنها لن تعود بحاجة لا إلى التحكم في رقاب الناس من خلال التعيينات، ولا إلى استمداد «الشرعية» من أيّ قوة خارجية مهيمنة، كما هو الأمر حالياً. فشرعية الزعامة سوف تأتي عندئذ من التمثيل الحقيقي لمصالح الناس، لا من توقيع عبد الحليم خدام على صورة جنبلاط وابنه، ولا من زيارات البيت الأبيض أيام حكم المحافظين الجدد.
وتنبع واقعية هذه الدعوة من عدم إمكان استمرار زعامة المختارة بشكلها الحالي على المدى الطويل. فمن المؤكد أنّ بقاء زعامة المختارة على ما هي عليه حالياً، لا بد أن يؤدي بها إلى الاصطدام «برعاياها»، إن لم يكن في جيل تيمور ففي الجيل الذي يليه في «سدّة حكم» المختارة. فمن غير الممكن أن تحكم المختارة الناس في القرن الحادي والعشرين مثلما كانت تحكمهم أيام بشير جنبلاط، وإلّا فإنها ستصل إلى يوم تصبح فيه مثل «خلدة»، تعيش على الأساطير التاريخية الكاريكاتورية الفاقدة لأيّ صلة بالواقع، وتتحول إلى نوع من الآثار السياحية الدالّة على زمن بائد ولّى إلى غير رجعة.
* كاتب لبناني