strong>مصطفى بسيوني*يتفق مؤرخو الحركة العمالية المصرية أن شباط/ فبراير 1900 هو التاريخ الذي شهد ميلاد أول نقابة عمالية في مصر من رحم إضراب لفافي السجائر. ولسوف يتخذ تاريخ نيسان/ أبريل 2009 القيمة نفسها بوصفه تاريخ تأسيس أول نقابة مستقلة في مصر، بعد نصف قرن من سيطرة الدولة على النقابات. ورغم أهمية هذا الحدث، إلا أنه لا يمكن اختصار أحداث عام 2009 العمالية به. لقد طرأت في هذا العام أمور هامة على الحركة العمالية، ربما كان أهمها التحول في تعامل الدولة والجهات الرسمية مع احتجاجات العمال. فعندما فوجئت السلطة بصعود الحركة العمالية في نهاية 2006، وكان هذا بعد فترة هدوء ممتدة، حاولت تهدئة الإضرابات بسرعة عبر تنفيذ مطالب العمال، معتبرة أن المواقع العمالية التي أضربت هي الاستثناء وأن القاعدة العمالية العريضة أكثر استقراراً وهدوءاً. ولكن سياسة التهدئة عبر الاستجابة حفزت العمال في مواقع عمالية أخرى على المطالبة بحقوقهم عبر الإضرابات، واتسعت الإضرابات العمالية بأسرع مما تخيل أي مراقب. عام 2009 شهد تحولاً هاماً في تعامل الدولة وأصحاب الأعمال مع إضرابات العمال ومطالبهم، تبدى أولاً في تجاهل الإضرابات وإهمالها والتصرف كما لو كانت غير موجودة. فوجدنا إضرابات واعتصامات عمالية تستمر أشهراً دون أن يُستجاب لها أو حتى التفاوض معها، مثل إضراب طنطا للكتان، والسويس للأسمدة، وخبراء وزارة العدل، بحيث يمكن القول إن الدولة وأجهزتها عادت للتماسك في مواجهة الحركة العمالية بعدما اهتزت لفترة بفعل عامل المفاجأة.
ولكن التجاهل أعقبته إجراءات أكثر قسوة. بدأ الأمر بالجزاء الفردي والجماعي، والنقل من أماكن العمل وحتى الفصل للعمال النشطين نضالياً كما حدث في غزل المحلة والضرائب العقارية وطنطا للكتان وغزل العامرية ومصر ــــ إيران والبريد وغيرها. وامتد الأمر لاعتقال قيادات عمالية في حركة عمال البريد وسائقي الأجرة بالإسكندرية، كما بدأت النقابة المستقلة للضرائب العقارية تتعرض للمزيد من التدخلات الأمنية والإعاقة الإدارية. وقد بدأ منحى التشدد في الظهور منذ 2008، وخاصة مع إضراب الثامن من نيسان/ أبريل الشهير الذي مُنع بالقوة. كما بدا التحول واضحاً في تناول الكتّاب التابعين للسلطة لظاهرة الإضرابات العمالية، حيث بعدما اعتبروها في البداية أحد مظاهر الديموقراطية، بل طالب بعضهم الحكومة بالتدخل إيجابياً وحل مشكلات العمال، راحوا بعد ذلك يقولون إنها إهدار للإنتاج والتنمية وتعطيل لمصالح المواطنين، بل خروج على الشرعية أحياناً. أدى هذا التشدد إلى انخفاض معدلات الإضرابات العمالية في عام 2009 انخفاضاً ملحوظاً عن العامين السابقين، ومع ذلك لم يخل العام من إضرابات قوية ومؤثرة، إلى جانب العشرات أو المئات من الإضرابات المتفرقة. وربما كانت أقوى الإضرابات في 2009 هو إضراب هيئة النقل العام في القاهرة الذي ضم ما يقرب من 40 ألف عامل وسائق، وإضراب عمال ميناء العين السخنة. وكذلك، ورغم أنه لم يضم عدداً ضخماً من العمال، فلا بد من ذكر إضراب عمال التعبئة في الشركة المصرية للأسمدة بالسويس، ضد تصدير الشركة الأسمدة لإسرائيل في مطلع عام 2009.
وشهد العام دعوة من التنظيم النقابي الرسمي للإضراب. فقد نظمت النقابة العامة للغزل والنسيج إضراب عمال طنطا للكتان في أول بادرة من نوعها منذ أن وضع قانون العمل الجديد قواعد تنظيم الإضراب في عام 2003. والواقع أن التنظيم النقابي الرسمي الذي وقف ضد كل الإضرابات العمالية ولعب فيها دور المخرب، شعر بالبساط يسحب من تحت أقدامه بعد تأسيس نقابة عمالية مستقلة، وتتابع موجات سحب الثقة والاستقالات منه، حتى أن توجيهات من رئيس اتحاد العمال صدرت للنقابات التابعة له مفادها أن النقابات الرسمية عليها أن تتصدر المشهد العمالي لقطع الطريق على ظهور نقابات مستقلة جديدة، ولو كان ذلك عبر تنظيم احتجاجات العمال والدعوة إليها، طالما كانت ستحدث في كل الأحوال. مثَّل هذا في حد ذاته إضافة جديدة للمشهد العمالي في 2009، فالتنظيم النقابي الذي كان موقفه إما سلبياً أو معادياً للتحركات العمالية أصبح أكثر اهتماماً بحجز مكانه في الحركة، وهو ما ظهر جلياً في محاولة اتحاد العمال الرسمي تأليف نقابة مخصصة للعاملين بالضرائب في مواجهة النقابة المستقلة للضرائب العقارية. ويحدث ذلك في الوقت الذي يتجاهل فيه بناء نقابات للعمال في المدن الصناعية الجديدة التي يعاني العمال فيها أسوأ شروط للعمل وتختفي فيها النقابات. وهو في الوقت نفسه يصعد هجومه على نشطاء الحركة العمالية والمتعاطفين معهم، ويتهمهم بالعمالة للخارج، وإثارة الشغب والخروج على الشرعية. وكل ذلك بغاية قطع الطريق على تطور الحركة العمالية تنظيمياً عبر بناء نقاباتها المستقلة.

لتاريخ نيسان 2009 أهمية كبيرة بوصفه تاريخ تأسيس أول نقابة مستقلة في مصر بعد نصف قرن من سيطرة الدولة على النقابات

كيف أثر في الحركة العمالية ما قامت به الدولة وتنظيمها النقابي؟ لعل ملاحظة انخفاض معدلات الإضرابات العمالية تكفي التقارير الإدارية والأمنية، إلا أنها لا تنجح بالمرة في توضيح المشهد العمالي الراهن في مصر. وسيكون اختصاراً مخلاً إذا اعتبرنا أن الحركة العمالية تراجعت في غزل المحلة، التي لم تنظم أي إضراب في السنة الجارية، بينما كانت مفجِّر الإضرابات العمالية في السنوات الثلاث السالفة. ولكننا يجب ألا ننسى أن الشركة والمدينة تعرضتا لقمع وحشي وصل لإطلاق الرصاص الحي في المدينة في نيسان/أبريل 2008، كما تلى ذلك نقل أغلب العمال النشطين من الشركة لأماكن بعيدة. ورغم ذلك شهدت الشركة بعد ذلك العديد من التحركات الجزئية ومحاولات تنظيم الإضراب، نقل أو فصل على أثرها دفعات جديدة من العمال. ولكن ذلك ليس نهاية المطاف. فعمال النقل العام اختفت أيضاً حركتهم لأسباب مشابهة بعد إضرابهم في أيار/ مايو 2007، ثم عادوا بإضراب أكبر وأنجح في آب/ أغسطس 2009، ويعيدون اليوم ترتيب صفوفهم وصياغة مطالبهم لجولة أخرى قد تكون قريبة. العاملون بالبريد يمثلون حالة شبيهة، فقد بدأوا التحرك ضد لوائح عمل متعسفة صدرت في الربع الأول من 2009، ولعبت إجراءات الدولة القاسية دوراً هاماً في إعاقة الحركة ولكن في نهاية العام، فوجئ العمال بعدم تطبيق اللوائح التي احتجوا عليها، وتوخت الإدارة عدم استفزازهم وهو ما اعتبروه انتصاراً دفعهم إلى إعادة تنظيم صفوفهم مرة أخرى.
وشهد العام المنصرم انضمام قطاعات جديدة إلى الحركة مثل عمال البريد والإداريين بقطاع التربية والتعليم وعمال من القطاع الخاص وغيرهم. كما شهد تصاعد النضال في الشركات التي سبق خصخصتها. وفي مطلع عام 2010، يبدو السباق أكثر سخونة... بانتظار الآتي!
* صحافي مصري