بدأت الأزمة السورية مع درعا 18 آذار 2011، وتمظهرت في استعصاء توازني منع تغلب أحد طرفيها على الآخر مع عجز السلطة والمعارضة على التلاقي في تسوية. تحولت الأزمة إلى اقليمية منذ أيلول 2011 مع مشاريع التعريب المدعومة تركياً وخليجياً، ثم تحولت دولية مع سقوط التعريب عبر الفيتو الروسي – الصيني يوم 4 شباط 2012. حاولت المعارضة ملاقاة «الحراك» الذي عمّ مناطق واسعة من سورية في صيف 2011.
كان المعارضون المنظمون في أحزاب (كانت خارجة للتو من السجون والعمل السري وبعضها متمركز في المنفى) في حالة أشبه بحالة السمك خارج الماء بعد الصيام الذي مارسه المجتمع السوري عن السياسة. لم يستطع المنضمون الجدد إلى المعارضة في مرحلة «ما بعد درعا»، وأغلبهم من الشباب، تجاوز التنظيمات القديمة أو تشكيل بديل منها خلال الأربع سنوات ونصف سنة الماضية، وهو ما يمكن تلمّسه من خلال حفاظ فصيلي المعارضة الرئيسيين، أي «الائتلاف» (بعدما ورث «المجلس الوطني») و«هيئة التنسيق الوطنية»، على الواجهة في صفوف المعارضة حتى الآن، بخلاف ما حصل في الجزائر ما بعد أحداث أكتوبر 1988 عندما أفرز الحراك الاجتماعي الذي أتى بعد استقرار بدأ مع انقلاب بومدين عام 1965، قوى سياسية معارضة جديدة، كان منها وأولها «الجبهة الاسلامية للإنقاذ». من هنا يمكن القول بأن فحص التجربة السورية المعارضة في مرحلة «ما بعد درعا» يقوم أساساً على دراسة أداء قوى معارضة تقليدية في مرحلة نشوب حراك اجتماعي مفاجئ أنهى استقراراً لصالح السلطة القائمة دام تسعاً وعشرين سنة.

كرات «الائتلاف» لم
تلامس شباك مرمى الخصم، بل
حتى الخشبات الثلاث

في يوم 9 أيار 2011 طرحت ورقة لتوحيد فصائل المعارضة في جبهة عريضة تضمها هي والمستقلين تحت اسم: «ائتلاف عام للتغيير الوطني الديمقراطي». جرت مفاوضات استمرت حتى مساء 23 حزيران، كان مصيرها الفشل بسبب رفض «اعلان دمشق» و»الاسلاميون»، ومعهما خمسة أحزاب كردية ونصف المدعوين من المستقلين البالغ اجمالي عددهم خمسة وثلاثون الدخول في هذا التركيب الجديد.
تأسست «هيئة التنسيق» بعد يومين بمن لم يرفض هذا التركيب، فيما ذهب من الرفضون إلى تأسيس «المجلس الوطني» في اسطنبول يوم 2 تشرين أول 2011. وقد جرت محاولة في الدوحة بالأسبوع الأول من أيلول لتأسيس «الائتلاف الوطني السوري» بين «الهيئة» و»الاعلان» و»الإخوان» باءت بالفشل أيضاً.
اكتشف المعارضون، بين يومي 9 أيار و23 حزيران 2011 وأيضاً في محادثات الدوحة في أيلول، مقدار الخلافات الواسعة التي منعت توحدهم. في أيار وحزيران انقسمت المعارضة إلى معسكرين: «تغييريون»، أي من شارك في تأسيس «هيئة التنسيق»، و»أنصار اسقاط النظام». كان «التغييريون» يريدون تسوية مع النظام عبر «اسقاط النظام الاستبدادي الأمني» وبناء «الحل السياسي... ليفتح الطريق إلى مرحلة انتقالية تجري مصالحة تاريخية» وفق تعابير البيان الختامي لمؤتمر حلبون الذي عقدته «هيئة التنسيق» يوم 17 أيلول 2011. لكن ذهب «الإسقاطيون» باتجاه واشنطن وأنقرة والدوحة، وقبلهم باريس في تموز، للقطيعة مع السلطة السورية منذ آب.
في الدوحة توسع بيكار الخلافات بين المعارضين ليصل إلى مواضيع «التدخل العسكري الخارجي» و»العنف المعارض» بعد أن أثبتت تجربة «الحراك السوري المعارض» بأنه غير قادر ذاتياً، ما دام لا يملك أرضية واسعة اجتماعياً لتكرار تجربتي تونس والقاهرة مع بن علي ومبارك.
وهذا ما جعل أنصار «اسقاط النظام» في «اعلان دمشق» والاسلاميين يتجهون نحو استجلاب تدخّل يشبه ما جرى ضد القذافي (وهم قبل سنوات كانوا من أنصار غزو العراق عام 2003، ونظّروا حول «نظرية الصفر الاستعماري» و»الاستعمار أفضل من الاستبداد»).
عملياً كان المعارضون متفقون على البناء على «الحراك المعارض»، ولكن اختلفت أهدافهم: استغلال الحراك من أجل التغيير أم من أجل اسقاط النظام؟ كان «التغييريون» ومن خلال قراءة للتوازنات المحلية، يرون ذلك عبر تسوية تقود إلى مرحلة انتقالية تتشارك فيها السلطة والمعارضة في بنية سلطوية جديدة تؤول إلى تغيير جذري للأوضاع السورية القائمة منذ 8 آذار 1963. كان «الإسقاطيون» يرفضون التسوية مع السلطة القائمة.
هنا، قاد تدويل الأزمة السورية منذ فيتو 4 شباط 2012 إلى «بيان جنيف» يوم 30 حزيران 2012 الذي تلاقت فيه واشنطن وموسكو على حل تسووي سوري.
في مؤتمر المعارضة في القاهرة يومي 2 و3 تموز 2012 رفضت أكثرية المؤتمرين، وأولهم أعضاء «المجلس الوطني»، اقتراح «هيئة التنسيق» أن يتضمن البيان الختامي للمؤتمر تأييداً لبيان جنيف، وقد ظلت «الهيئة» الوحيدة الموافقة على البيان الذي لم يوافق المجلس ووريثه الائتلاف عليه إلا قبل أربعة أيام من مؤتمر «جنيف 2» (22 كانون ثاني 2014).
كان تفسير ما حصل في مؤتمر القاهرة يكمن بما حصل في حلب بعد أسابيع، لما سيطرت المعارضة المسلحة على نصف المدينة انطلاقاً من ريفها، وهو ما ترافق بشيء مماثل في ديرالزور، ثم بعد أشهر بمحاولة لاقتحام دمشق.
كانت هناك مراهنة مدعومة اقليمياً، مع تأييد واشنطن الضمني، على أن «العنف المعارض» يمكن أن يؤول إلى «اسقاط النظام» بعد أن جرى اغلاق فرص تكرار السيناريو الليبي منذ تحرك قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود في اتجاه مرفأ طرطوس في الأسبوع الأخير من تشرين ثاني 2011.
انتهى هذا أميركياً مع تغيير واشنطن لتأييدها لـ «الاسلام السياسي» إثر مقتل سفيرها في بنغازي في أيلول 2012، على يد اسلاميين أصعدتهم - والناتو - إلى السلطة. لم يترجم هذا فوراً في البيت الأبيض، بل كانت ترجمته الفعلية في اتفاق موسكو بين كيري ولافروف يوم 7 أيار 2013 لما اتفق على احياء بيان جنيف عبر «جنيف2».
إذا شبهنا السياسيين بلاعبي كرة القدم، فإن كرات «المجلس» و»الائتلاف» لم تلامس شباك مرمى الخصم بل حتى الخشبات الثلاثة. في «الائتلاف» كان الشيخ معاذ الخطيب الوحيد الذي امتلك حساً وتلمساً لمجرى الأمور والوقائع لما طرح مقاربة تسووية مع النظام في شباط 2013، ولكنه وجد نفسه وحيداً وسرعان ما تم عزله من منصبه. عملياً لم يعد «العامل المحلي» هو المقرر لمسار الأزمة منذ أيلول 2011 بعد أن فشل السوريون في ايجاد تسوية بينهم، وبعد فاصل اقليمي قصير تناحرت فيه موسكو وواشنطن أصبح التدويل أمراً واقعاً وحاكماً للأزمة. وكانت مبادرة كوفي عنان في آذار أول ملامح التوافق الأميركي – الروسي، ثم تكرس هذا في بيان جنيف في منتصف عام 2012.
كان هذا البيان خريطة طريق سورية تتحول إلى تنفيذية أو إعلان نوايا للتنفيذ عندما يتفق البيت الأبيض والكرملين، كما جرى في أيار2013، ثم توضع في الأدراج عندما تصادما في أوكرانيا ما بعد 21 شباط 2014، ثم تم احياء هذه الخريطة لما يتفقا من جديد وهو على ما يبدو قد تم بين واشنطن وموسكو عقب الاتفاق النووي في تموز 2015، ما انعكس في البيان الرئاسي لمجلس الأمن يوم 17 آب 2015 بخصوص الوضع السوري وما أعقبه من طرح خطة دي مستورا لوضع إطار تنفيذي لبيان جنيف عبر «اللجان الأربع».
يمكن القول الآن بأن طريقة تعامل «الائتلاف» مع خطة دي مستورا تشبه طريقة تعامله، وسلفه، مع بيان جنيف من دون ادراك لمجرى الأمور ولاتجاه الرياح... هم يشبهون من يحج إلى مكة في شهر صفر، ويثبتون دوماً بأنهم لم يتعلموا شيئاً من التجارب السابقة.
* كاتب سوري