حسان الزينتنشط منذ سنوات الحرب، ولا سيّما من أواسط ثمانينات القرن الماضي، حركة لاعنفية استطاعت مأسسة نفسها كجمعية تعرّف بفكر اللاعنف، وكناشطة مدنية ترفع مجموعة من الشعارات العلمانية، وفي مقدّمها الزواج المدني الاختياري ووقف عقوبة الإعدام. وقد ولدت في الأعوام الماضية إطاراً شبابياً لاطائفياً، ووضعت الحجر الأساس لمؤسسة أكاديمية اختصاصية في اللاعنف، فكراً وتجربة.
لكن، بالرغم من تحقيق الإنجاز التأسيسي، ما زال العمل اللاعنفي في لبنان نخبويّاً يصطاد بالصنّارة وسط بحر من الصيد بالجاروفة والمتفجرات. لقد اهتم المؤسسون ببناء الوعي والذات ومأسسة العمل. وهذا النفَس الاستراتيجي من طبيعة حركة اللاعنف العالمية، منذ التجربة الريادية لغاندي في الهند، التي استطاعت تحرير تلك البلاد الواسعة من الاستعمار البريطاني؛ مروراً بتجربة مارتن لوثر كينغ للحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية... وغيرها من التجارب هنا وهناك.
في الأثناء، ترجمت حركة اللاعنف اللبنانية وأنتجت أساليب عمل مفتوحة على المسرح تارة، وعلى طرائق تربوية معاصرة تارة أخرى، وغالباً قائمة على الاجتهاد القانوني ـــــ الحقوقي. وفي الحالات كلها اقترحت أساليب عمل لاعنفي (مدروس وعميق)، سواء أكان في الاحتجاج والمطالب أم في التأسيس لنضال من أجل قضايا وعناوين جديدة. وقد أرفقت نشاطها الهادئ البعيد من الصخب الإعلامي بحركة نشر تراكمية، فأصدرت الكتب المترجمة والمحليّة، إضافةً إلى النشرات الحقوقية والطالبيّة الشبابيّة ذات الشخصية الإعلامية الخاصة.
لقد حان الوقت لتتوسّع حركة اللاعنف وفكرها وشخصيتها وأنماط العمل اللاعنفي، نحو السياسة، على قاعدة أن التأخّر أفضل من عدم المجيء. نعم، تأخّر اللاعنف في مقاربة السياسة والعمل فيها، وخصوصاً أنه حضر في غير مسرح (ميكرو) اجتماعي ومدني، وفي البلاد الكثير من العناوين الاجتماعية والمدنية والسياسية التي يمكن اللاعنف طرح مقارباته حولها، وفتح الطرق إلى معالجاتها، سواء أكان في القضايا الاجتماعية التي يغيّبها الخطاب السياسي المسيطر، أم في القضايا السياسيّة والوطنية التي يتجاذبها الطاقم السياسي بحسب أهوائه ومصالحه وارتباطاته. والمواطنون، ولا سيّما الشباب الموقوفة حياتهم على السياسة، بحاجة إلى الأفكار والتجارب التي تحميهم وتطلقهم وتنمّيهم ثقافيّاً وإنسانيّاً.
فالتجربة اللاعنفية اللبنانية، إلى مبادرتها المدنية التأسيسيّة والتراكمية الاستراتيجية، تمتاز بحسٍّ اجتماعي يتقاطع مع اليسار، وقد جعلها ذلك، في غير موضع، وسط العمال تقترح عليهم طرائق تعمّق التضامن في ما بينهم، وتجعلهم يصوغون مطالبهم ويتحركون نضالياً في اتجاهها. وتمتاز حركة اللاعنف في لبنان أيضاً بحس وطني. وقد باتت مركزاً عربياً ثقافيّاً وحواريّاً لعنوان اللاعنف من أجل فلسطين ولبنان والجولان السوري، واكتشاف طاقات الشعوب المحتلة في الدفاع عن مجتمعاتها وأرضها وفي سبيل التحرير. وها هو وليد صليبي، المناضل اللاعنفي، يضع كتاباً تحت عنوان «نعم للمقاومة لا للعنف»، يلقي الضوء على الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، التي اعتمدت في عملها على 95 في المئة من الوسائل اللاعنفية، لكن الفلسطينيّين وقعوا، ولا سيّما بعد اتفاق أوسلو (1993)، وفي الانتفاضة الثانية، في الشرك الإسرائيلي العنفي.
يطرح الأمر، أي ابتعاد اللاعنف عن السياسة بالرغم من نضج الشخصية وتراكم تجاربها وتعدّد أدواتها وعناوين نضالها، سؤالاً عن أسباب ذلك! فالفكر والتجربة اللاعنفيّان، اللذان لا يفصلان الغاية عن الوسيلة، ويشدّدان على الأخلاق في السياسة والعمل العام، قادران على مقاربة السياسة والعمل فيها؛ ومطلوب منهما عدم ترك الساحة للعنف أو للتشكيلات السياسية التي تدّعي اتّباعها اللاعنف، بينما تراها عكس ذلك ولا تتوانى عن استعمال العنف للوصول إلى السلطة والأهداف التي تطرحها أو تُضمرها.
فلبنان الآن في لحظة سياسية تحتاج إلى اللاعنف لتطوير المؤسسات السياسية والقضائية والمدنية وغيرها، ولتنمية المجتمع والمواطن والحفاظ على الحياة، وإطلاق الإنسان وطاقاته، ولأجل استقرار النفس وتراكم العمل ووضع الأجندات المستقبلية. وحركة اللاعنف في لبنان وفكرها يسهمان في إعادة الهرم السياسي المقلوب حالياً إلى قواعده. فالطاقم السياسي، بخطابه وأدواته الحزبية والدعائية والإعلامية، يحجب الواقعي ويسعى إلى قتله. والتجربة اللاعنفية، إذا ما قاربت الساحة السياسية ونشطت فيها، قادرةٌ مع القوى المدنية الأخرى ومع القوى ذات الحس الاجتماعي النضالي، ولا سيما اليسار، على إعادة الاعتبار إلى الواقعي وعناوينه الاجتماعية والمدنية. وثمة ضرورة استراتيجيّة لدفع النضال المدني والاجتماعي والسياسي إلى مساحات لاعنفية، وهذا لا يمكن أن يقوم به الطاقم السياسي بتشكيلاته السياسية المتعددة. فالعنف في طبيعة هذا الطاقم وتكوينه ومشروعه، ويحتاج إليه لتسيّده وسيطرته. هنا، مهمة اللاعنف، الذي من قواعده نقل الصراع إلى أرضه الحقيقية، رسم خريطة الطريق نحو إعادة اكتشاف المجتمع نفسه وتعدّده وتنوعه وأهدافه، وإبداع وسائل نضال جديدة.