حسان الزينثمة «نظام» يركب الآن. لا هو مناصفة واضحة الحدود، ولا هو مثالثة صريحة ينال فيها كل فريق من الثلاثة الكبار (الموارنة، السنة والشيعة) حصّته من قطعة الجبنة. النظام مركّب يجمع المناصفة والمثالثة، في آن واحد، وفي كل شيء تقريباً، من «صورة القرار السياسي» إلى توزيع الوظائف، بما في ذلك النيابة.
لا معلومات توضح ما إذا كان سعد الحريري قد تلقّى، عشية الانتخابات النيابية، عرضاً بالمثالثة، حين وقف ورفضها علناً، لتحذير المسيحيين من أن نصفهم مهدّد من الشيعة وبموافقة ميشال عون. لعل الحريري استشعر الأمر والتقطه وهو طائر، ولعل هذا من نتائج تطوير المؤسسة الوراثية السياسية اللبنانية، حواسها، ما جعلها أكثر قدرة على قراءة المتغيرات ومعرفة من أين تؤكل الكتف. لقد بات هذا الأمر غريزياً لدى الطاقم السياسي، ولا يحتاج إلى عقل كبير أو ذكاء.
يبدو أن الغريزة هذه، التي ترسل إشارات في جسد الوراثة السياسية اللبنانية، هي «مجد لبنان». وبما أنها كذلك فهي موجودة لدى بكركي كمؤسسة سياسية. وهذا ما يمنح الصرح قدرة فائقة على فك الشيفرة. لهذا، ليس غريباً أن يرعى البطريرك الماروني، سعد الحريري ويفكّك له العقد مع الأفرقاء السياسيين الموارنة، أثناء تأليفه الحكومة، ولا يمتعض أو ينزعج (البطريرك) من زيارته (الحريري) لسوريا وما تعنيه في مسيرة إعادة تركيب النظام اللبناني. وليس غريباً أيضاً أن يخرج من كواليس بكركي كلام يؤكد ثقة البطريرك في إدارة الحريري، ومعه رئيس الجمهورية، السلطة السياسية في البلاد. فتلك الرعاية وهذا الكلام يعنيان مباركة البطريرك لما يقوم به الحريري، أكثر مما يرمزان إلى المناصفة والميثاق اللبناني بين المسلمين والمسيحيين. فالبطريرك يعرف أن لا الحريري يحتكر التمثيل المسلم ولا رئيس الجمهورية ذو تمثيل وازن لدى المسيحيين.
كما البطريرك كذلك الحريري، يعرفان أن أمراً واقعاً قد حصل، ولا مفرّ من التعامل معه. البطريرك استقبل ميشال عون ضيفاً في مجلس مطارنته، والحريري ذهب إلى سوريا ونام في غرفة رئيس جمهوريتها، الذي اتهم نظامه، بقتل والده، رفيق الحريري. البطريرك قَبِلَ بمساومة يعترف بموجبها عون بأبوّة البطريرك ويعترف بموجبها البطريرك ببنوّة عون. والحريري قبل بمساومة يعترف بموجبها الرئيس السوري ببنوّة سعد الحريري لرفيق الحريري، ويعترف بموجبها سعد الحريري ببنوّة الرئيس السوري للرئيس السوري السابق حافظ الأسد.
إنه زمن المقايضات. لقد وجدت هذه السلالات فرويدها لحل مشاكلها النفسية، وهي بالتأكيد تعرف ميكيافيللي. وفرويد وميكيافيللي معاً يصنعان المستحيل. وها هما يعيدان صوغ النظام اللبناني وعلاقته وعلاقة الطاقم السياسي بالنظام السوري.
فمع فرويد وميكيافيللي تغدو المثالثة مقبولة وشكلاً من أشكال المناصفة، وتغدو أيضاً شكلاً من أشكال التوافق العربي، ولا سيما السعودي ــــــ السوري، الذي يرضي المجتمع الدولي ويسعى جاهداً لإرضاء أميركا. والباقي تفاصيل. ممارسة المثالثة ــــــ المناصفة من التفاصيل. وسلاح حزب الله من التفاصيل أيضاً. وفيما يذهب الحريري إلى تعقيم البحث فيه، يمكن حلفاءه، ولا سيما البكركيين في 14 آذار، أن يقولوا ما يشاؤون فيه. فهذا لتقيّد حركة حزب الله وحلفائه، لا في «قرار السلم والحرب» وحسب، بل في حركته وحركة الشيعة في تركيبة النظام اللبناني.
فصيغة المناصفة ــــ المثالثة لا تخلو من صراع، وكل فريق سيدفع الفريق الآخر لتحجيمه ولينال هو حصّة أكبر: البطريرك وفريقه سيضغطان على حزب الله ليكون ضمن حصّة النصف المسلم، والحريري سيضغط بمرونه ونعومة على حزب الله وحركة أمل ليكونا تحت مظلة المسلم، والبطريرك وفريقه السياسي سيضغطان على عون ليكون «ضيفاً» غير مزعج في المجلس المسيحي، وعون وحزب الله (ومن معهما) سيضغطان ليكونا أكثر من الثلث الشيعي وأكثر من نصف النصف المسيحي. شراكة صعبة، وغير واضحة. وكما توضح التجارب والسلوكات ثمة حاجة إلى راعٍ، وهو جاهز: سوريا الأسد.
فسوريا ليست جاهزة لهذه المهمة لأن شهيتها مفتوحة دائماً على لبنان وحسب، بل لأنها أعادت ترتيب نفسها، داخلياً وسياسياً خارجياً. لقد خرج من نظامها مقاوله في المرحلة السابقة، عبد الحليم خدام الذي لعب دوراً رئيساً في الوجود السوري في لبنان وما يستوجبه في العلاقات العربية والدولية. وهذا ليس من نوافل القول. إنه جوهري. كما هو جوهري بالنسبة إلى سوريا أن حزب الله في لبنان يمنحها قوّة، ربما، تفوق، ما يوفره لها وجودها العسكري والاستخباري في لبنان. كما هو جوهري بالنسبة إليها علاقتها بميشال عون. هذا كله يرشحها للعب دور مختلف في لبنان. دور أكثر حنكة وأقل كلفة وأفضل مردوداً، لبنانياً ودولياً. وهذا ما يراهن الحريري، والسعودية أولاً، على المقايضة فيه. المقايضة المرنة التي تجعل الحريري قادراً على الحفاظ على تحالفه مع البطريرك وفريقه السياسي، وتجعله منفتحاً على حزب الله وحركة أمل. أما عون فسيترك القرار في شأن العلاقة به للبطريرك تارة ولدمشق تارة أخرى.
عليه، كأن الحريري بحاجة إلى ما يشبه اتفاق نيسان مع إسرائيل. فمن شأن هذا، كما فعل مع والده، أن يموضع الصراع بين حزب الله وإسرائيل و«يحيّد» لبنان الاقتصاد والسياسة الداخلية. ففي ظل اللاسلم واللاحرب هذا أهون الشرور وأسهل تحقيقاً من نزع سلاح حزب الله. والفارق الذي سيظهر في الأيام المقبلة بين الحريري والبطريرك وفريقه السياسي، هو أن الأول سيركز على إعادة ترتيب موقعه في النظام وعلاقاته الإقليمية والدولية، وسيحكي في القرار الدولي 1701، بينما سينشط فريق البطريرك الصوت مطالباً بتنفيذ القرار الدولي 1559، وسيعمل للفوز قدر الإمكان بفوائد «الشراكة» مع الحريري.
ما بنا لم نذكر وليد جنبلاط؟ لعله هو نفسه لا يجد نفسه هذه الأيام، ولعله يبحث عن مفتاح دمشق في منزل رفيق الحريري، في قريطم، لكن سعد الحريري نقله معه إلى منزل سوليدير.