وائل عبد الفتاحبور سعيد تحولت إلى مدينة مربعات أمنية. أطواق عساكر الأمن المركزي انتشرت في كل مكان لتمنع سكان المدينة من الخروج لاستقبال الرئيس مبارك، أول من أمس. موكب من دون جماهير يسلك طريقاً ترسمه مربعات الأمن. بينما في القاهرة، في الوقت ذاته، اخترق المغامرون الفرنسيون القانون المتعارف عليه واحتلوا الشارع الرئيس في مدينة الجيزة (شارع مراد) بجوار السفارة الفرنسية وفرشوا خيمات بلاستيكية. طريقة في الاحتجاج لم يتعوّدها الأمن المصري الخبير بالطرق المصرية. لكنّ الفرنسيين احتجوا على منعهم من السفر إلى رفح. والدبلوماسية تورّطت في لعبة التبربرات وقالت «لقد خدعونا وخالفوا التعهدات لأنهم قادمون بتأشيرات سياحية». لم يشر الدبلوماسي المصري إلى إمكان وجود تأشيرة سياسية أو للقيام بعبور الحواجز والمعابر لتأييد شعب محاصر.
الرئيس في بور سعيد ألقى كلمة وسط سيناريو يضع التصفيق في مواضع معدة سلفاً. إشارة القائد الحزبي ترسم ملامح التأييد الشعبي المختار بعناية. حاشية تبعد رئيسها عن كل ما يزعجه في خريف الحكم وقبل شهور من دخوله معركة الولاية السادسة.
بور سعيد من المدن المغضوب عليها. خرج من بينها مغامر اسمه أبو العربي، حاول إيصال شكوى إلى الرئيس، فظنّت أجهزة حمايته أنها محاولة اغتيال. فتكت بالشاكي، ووضعت المدينة كلها على القائمة السوداء.
الرئيس هناك يحتفل بالنصر على العدوان الثلاثي بعد قرار تأميم قناة السويس. القرار كان إعادة تعريف للسيادة المصرية، وسحب مميزات شركة القنال من الأجانب وتسليمها إلى المصريين. السيادة كانت تعريفاً أقرب إلى العقلية العسكرية التي سيطرت على الحكام الجدد.
اليوم السيادة أمنية. مربعات حماية الرئيس، وقرارات بمنع العبور إلى المدينة الملعونة (بحكامها وجيرانها ومحتليها). مصر تتنازل عن سيادتها لتحمي غزة. هكذا تقول تصريحات المسؤولين المصريين (نحمي غزة وشعبها بالسور الفولاذي)، لكي تضيع حجّة الإسرائيليين لتبرير عدوان جديد.
التنازل عن السيادة يحتمي بالسيادة نفسها. والنظام الذي فرض مربعاته على موكب الرئيس ترك خيمات الفرنسيين وسط الشارع وهددهم بالعنف. ولم يجب عن سؤال تردد كثيراً: «هل هناك قانون يمنع المرور إلى غزة ؟».
لا قانون. لكنها السيادة التي تجعل النظام مستقراً. عقلية أمنية هذه المرة وليست عسكرية. العقلية نفسها التي اقشعرّت بسببها الموظفة في الشهر العقاري وهي تلقي توكيلات مواطنين عاديين باسم الدكتور محمد البرادعي لتأليف لجنة تأسيسية لتعديل الدستور.
ما هو خطر البرادعي على السيادة؟ وكيف ستضرب مسيرة «شريان الحياة» السيادة نفسها؟ وقبل كل هذا، هل هي سيادة الرئيس أم سيادة الدولة؟
هل ستتأثر سيادة الدولة المصرية إذا عبّرت مجموعات من المناهضين للسياسات الإسرائيلية عن تضامنهم مع أهل غزة وعبروا وفق القانون المعابر بين مصر وغزة؟ وهل ستضرب السيادة في مقتل إذا تكتّلت مجموعات مصرية من أجل تغيير الدستور؟
محكمة القضاء الإداري أقرّت قبل أيام بعدم أحقيّة جهاز الاستخبارات في الموافقة على الأفلام السينمائية. وقالت ضمن حكمها «التاريخي» إن الموافقة على الأفلام ليست من أعمال السيادة الوطنية، وإنه إذا أردات الاستخبارات أن تتدخل باعتبارها حامية هذه السيادة، فعليها أن تثبت أن العمل الفني يعرّض السيادة هذه لخطر.
حكم يعيد طرح فكرة السيادة، لا أحقية استخدامها. وهناك فرق بين استخدام الفكرة على سبيل فرض السلطان وتحقيق مصالح النظام الضيقة، وتعريف السيادة بما أنها مفهوم متفق عليه.
هل تغيّر مفهوم السيادة؟ قبل أشهر سمحت السلطات المصرية بمرور ناقلات أسلحة عبر قناة السويس متوجهة إلى العراق وأفغانستان. ليست المرة الأولى طبعاً. والنظام كان يسرّب التبرير السهل والسريع «إنها توازنات عالمية». لماذا إذاً لم تمر قوافل غزة؟ هل المنع هنا هو جزء من السماح هناك. كلاهما يمارس مفهوماً يحافظ على سيادة النظام على الشعب لا على سيادة الدولة.
هذه مفاهيم تحتاج إلى التوقف عندها لا الجدل المميت في شأن «أمن مصر وأمن الأشقاء» و«الخوف من حماس» والقلق من «زعبرة» الإسلاميين في غزة لتهديد الأمن القومي وفي القاهرة لزعزعة الاستقرار.
كاد الاستقرار كله أن يهتز بسبب مباراة كرة قدم. وتجرّأ الجميع، من أصغر مذيع في فضائية لا تجد مشاهديها، إلى ابن الرئيس (علاء)، في شحن الدولة لحرب مع الجزائر.
جرجر جمهور الكرة العصابي دولة بكاملها إلى معركة تافهة في إهانة للسيادة الوطنية أو لمفهومها المحترم. وتحولت هذه الاستباحة إلى استعراض سياسي لنظام يعيش مرحلته الانتقالية.
نظام مبارك تسلّم دولة مجروحة من انتهاك حدودها في ١٩٦٧. ولم تداو أمجاد ١٩٧٣ الجروح. ورغم الوعي الغريزي لهذه الجروح، إلا أن حكمة النظام تركّزت فقط في إدارة الجروح لا علاجها، أي إيقاظ الجرح كلما تطلّبت المصلحة.
وهذا ربما يفسر لماذا لا يدع الأمن المصري القافلة تمر، بينما يترك الكلاب تنبح بطريقة عادية تماماً.