سعد الله مزرعانيهذه وسواها في المنطقة وفي العالم قوى تبادر. تحاول الاستفادة من الضعف الأميركي، أو تحاول اللعب في الوقت الضائع، أو كما في الحالة الإسرائيلية، تحاول تعويض بعض انعكاسات الضعف الأميركي عبر تصعيد سياسي وربما لاحقاً عسكري...
لكنّ ثمّة قوى تنفعل، لكنّها تعجز عن الفعل. ولا نتحدّث أيضاً، هنا، عن قوى تواصل المكابرة وكأن شيئاً لم يحصل في العالم بعد فشل المغامرة الأميركية في العراق وفي الشرق الأوسط، وبعد أزمة الانهيار المالي التي أصابت الاقتصاد الأميركي في الصميم. فكما بالنسبة لبعض الحالمين بعودة الاتحاد السوفياتي و«المعسكر الاشتراكي»، ثمّة أيضاً فرسان «ثورة الأرز»، ممّن يواصلون إحصاء الأصوات في بعض الانتخابات الطلابية والنقابية، للاستدلال على استمرار حيوية «ثورة الأرز» كما كانت في آذار من عام 2005!!
المتغيّرات المذكورة، كما أسلفنا، تواصل تمرير رسائل إلى الواقع اللبناني، كما تواصل فرض إيقاعها على نحو متصاعد عليه. من أبرز النتائج عمليات خلط الأوراق المتلاحقة (المصالحات). وعملية خلط الأوراق تعني، ولو نسبياً، إضعاف تكتلي 8 و14 آذار على طريق إعادة تركيبهما، بما يوازي إطاحة وظيفتهما السابقة دون رحمة!
في مجرى ذلك، تظهر معالم لوحة جديدة، يستعيد فيها الوضع اللبناني بعض ملامح صورته التقليدية السابقة حين كان يطغى على المشهد اللبناني عنصر الانقسام الطائفي. لا يعني ذلك أبداً أنّ الصراع المذهبي قد انتهى أو حتى تراجع. سيبقى هذا الانقسام عاملاً أساسياً تستخدمه قوى الهيمنة الخارجية من أجل إضعاف توحّد شعوب المنطقة وقواها التحرّرية، دفاعاً عن مصالحها، ومن أجل حجب عناوين الصراع الحقيقية، واستبدالها بعناوين أخرى من نوع الصراع السني ــــ الشيعي والفارسي ــــ العربي، والكردي ــــ العربي...
للوضع اللبناني تناقضاته الخاصة. وهذه التناقضات قائمة ومصادرها اقتصادية اجتماعية وسياسية
في امتداد ذلك، كما أشرنا آنفاً، تسعى قوى «مكابرة» إلى تجاهل الوقائع الجديدة. وهي تلتقي طبعاً، مع قوى أخرى، كانت قد كيّفت مواقفها ونبرتها مع الشكل المذهبي للصراع. ففي السنوات الخمس المنصرمة تكفّلت قوى الاستقطاب المذهبي الحليفة لها (تيار المستقبل و«اللقاء» الديموقراطي) بتبنّي كلّ شعاراتها أو الأساسي منها على الأقل (كما عبّر مراراً قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع). واليوم، بعد حصول هدنة سورية ــــ سعودية وسريان مفعولها السياسي والأمني والإعلامي على الوضع اللبناني، تجد هذه القوى نفسها مضطرّة للعودة إلى واجهة الصراع. هذا ما يميّز، في هذه المرحلة، مواقف البطريرك الماروني، الذي يزداد انخراطه في «التفاصيل» التي كان يترفّع عنها، وتزداد حدّة بل تطرّفاً، المواقف التي يعبّر عنها حيال شؤون الشراكة والمشاركة والمقاومة والسلاح. ويتكامل مع ذلك أيضاً موقف «صقور» حزب الكتائب، فضلاً عن «القوات اللبنانية»، حيث يجري التلويح بإعادة النظر بمبدأ الشراكة من أساسه إذا تعذّر التوافق والاتفاق على ما يعتبرونه أساسيات في بقاء لبنان وفي سلطته وفي توازناته.
يمثّل هذا التصعيد نشازاً نسبياً في لوحة المصالحات وفي عملية خلق الأوراق المتواصلة. لكنّ خطره ليس من النوع الذي يستحسن تجاهله. ذلك أنّ ثمّة في الإدارة الأميركية، فضلاً عن التحفّز العدواني الإسرائيلي، من يحرّض على مواصلة مخطط الفتنة والانقسام، أو على الأقل إبقاء النار تحت الرماد حتى مناسبة قريبة يجري فيها إيقاظ الفتنة مجدّداً.
ونعود مجدّداً هنا إلى التذكير، ورغم ما تقدّم من لفت النظر إلى تداعيات الوضع الإقليمي على الوضع اللبناني، بأنّ للوضع اللبناني تناقضاته الخاصة. وهذه التناقضات قائمة. ومصادرها قديمة وجديدة، اقتصادية ــــ اجتماعية وسياسية، وهي ترتدي الكثير من الصيغ أو حتى الأقنعة وأبرزها القناع الطائفي والمذهبي...
ويستحقّ الوضع اللبناني دراسة أكثر عمقاً ممّا هو متوافر حتى الآن. فهذا الوضع يعيش هو الآخر سلسلة متغيّرات في تفاعل تناقضاته الداخلية مع التناقضات الوافدة من الخارج. ويمكن القول مع شيء من التحفّظ، إنّ النظام السياسي في مرتكزه الطوائفي ــــ المذهبي، قد بدأت آلياته العاجزة تولد أعداداً أكبر من المتضرّرين. يتصل ذلك، ليس فقط بتخلّف تلك الآليات، بل أيضاً، بتحوّلات في بنية قوى السلطة حيث يتصاعد دور «حيتان المال» كما سمّى النائب وليد جنبلاط تلك الفئة من البورجوازية التي تتدامج جامعة أشكالاً عدّة من الإقطاعات السياسية التقليدية الموروثة، والمالية المرتبطة بالقطاع المصرفي، وحدثية النعمة المستفيدة من فوائد النفط، وتلك التي أحلتها عملية التحاصص والنهب والخوّات في صفوف أصحاب الملايين أو حتى المليارات.
عقلنة العلاقات وتقاسم السلطة سيكونان موضع اهتمام جدي. تتصل بذلك إعادة النظر ببعض مرتكزات النظام السياسي، وخصوصاً الانتخابي.
الورش التي يجري الحديث عنها اليوم بشأن ما لم يطبّق من اتفاق الطائف تقع في هذا السياق. ويقع في هذا السياق أيضاً بعض التسميات في اختيار عدد من الوزراء في الحكومة الجديدة.
في هذا الخضمّ من التحوّلات، على قوى التغيير أن تدلي بدلوها أيضاً. إعادة تكوين السلطة في لبنان، مسألة يجب ألا تخضع لشكل جديد من المحاصصة. تبدو الحاجة ملحّة هنا لقيام كتلة تتولّى تقديم تصوّر عن حاجات بناء دولة موحّدة وعصرية وقابلة للحياة والتطوّر في لبنان.
إنّها مهمة المعارضة الجديدة، أو إنّها المهمّة التي يمكن، بل يجب أن تنشأ معارضة جديدة من أجلها.
* كاتب وسياسي لبناني