يروي الصحافي الفرنسي المرموق جان دانيال الذي كان صديقاً لكل من الرئيس التونسي الحبيب بورقيببة، والعاهل المغربي الحسن الثاني القصة التالية: في فترة الخلاص من الاستعمار وبدايات بناء الدولة الوطنية، أدى المستشرق الفرنسي الكبير جاك بيرك زيارة الى تونس. وخلال تلك الزيارة التقى بالرئيس بورقيبة وهو بصدد وضع الأسس لأول نظام جمهوري في تاريخ تونس. وبأسلوبه البارع ، أسلوب العالم الرفيع الشأن والقيمة، شرع جاك بيرك يستعرض امجاد الحضارة العربية - الاسلامية. تلكم الأمجاد التي ولّدت فيه هو شخصياً، وفي وقت مبكر، النفور من الاستعمار، والانتصار للشعوب المولّى عليها. ويبدو أن الرئيس التونسي لم يتحمّل ذلك، لذا سارع بمقاطعة المستشرق الكبير قائلاً له: «إنّ ما يهمّني ويعنيني بالدرجة الاولى هو الحاضر والمستقبل وليس هذا الماضي المجيد الذي أنت تتحدث عنه... وما أنا انتظره من فرنسا التي استعمرتنا لفترة مديدة هو أن تساعد بلادي في اقامة دولة حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا أن تخدّرنا بذكريات الماضي الذي ولّى وانتهى!».
واختتم الرئيس بورقيبة حديثه قائلاً: «أنتم أيها الأستاذ المحترم، لكم الفضل في أن تدرسوا الماضي العربي المجيد. أمّا أنا فواجبي يقتضي منّي تخليص شعبي من كسل التقاليد القديمة، ومن التزمت والظلاميّة!». ويعلق جان دانيال على كلام الرئيس التونسي قائلاً: «كان بورقيبة يخشى أن يؤدي حلم المجد القديم الى حروب وانقسامات تحرم الشعوب العربيّة والاسلاميّة من التمتع بثمار التقدم، وتمنعها من الاستفادة من المعارف الحديثة».
وأظنّ أن الرئيس بورقيبة الذي كان من أكثر الزعماء العرب في القرن العشرين معرفة بالغرب وبحضارته ومعارفه، كان مصيباً في ما ذهب اليه. فتشبّث العرب بماضيهم أدّى بهم الى كوارث رهيبة وقاتلة في أكثر من مرة جاعلاً منهم الأمة الأكثر مرضاً بماضيهم من بين كل أمم الدنيا. ومن المحتمل أن تكون أغلب الحروب والصراعات والخلافات التي عاشوها ويعيشونها لم تكن إلّا نتيجة لهذا التعلّق المرضي بالماضي الذي يتصورونه مجيداً وعظيماً دائماً وأبداً. والحال انهم لو درسوا هذا الماضي بالدقة التي تحتّمها الموضوعيّة التاريخيّة، وبحثوا في طيّاته وفي اطواره بعيداً من الانفعالات العاطفيّة، لعثروا على كثير من الثقوب، ومن المساوئ، ولتبيّنوا انه لم يكن خالياً من الشرّ والجريمة والعنف والاستبداد والتزمت والمذابح
الفظيعة!
وعلى رغم أن العلاّمة ابن خلدون كان قد نبّههم الى ان الحضارات، مثل الكائنات البشريّة،
علينا أن نعترف بأن
التعلق بالماضي هو الذي ولّد التطرف الأعمى


تولد وتكبر ثم تشيخ وتموت، فإن العرب ظلّوا حتى اليوم يتوهمون انه بإمكانهم أن يعيدوا الحياة الى تلك الحضارة التي كانوا ينعمون بها ذات يوم. ومثل هذه الأوهام هي التي أصابتهم بأمراض خطيرة، وجرّت عليهم مصائب وكوارث يصعب تعدادها. من ذلك مثلاً أنهم أصبحوا غافلين عن الحاضر والمستقبل، وباتوا يعيشون في شبه غيبوبة كبّلتهم وجمّدتهم وجعلتهم عاجزين عن مواجهة المعضلات والمشاكل التي يتخبطون فيها منذ امد طويل. لذا يخال لنا في غالب الأحيان ان العرب انسحبوا من التاريخ ليعيشوا على هامش الواقع والحياة. والجانب اللافت للانتباه هو أن تعلق العرب بماضيهم لا يساعدهم حتى على العثور على ما يمكن ان يفيدهم لا في حاضرهم ولا في مستقبلهم، بل هم لا يتهافتون الا على جوانبه المعتمة والقاتمة. وأكبر دليل على هذا هو أن التعلق بالماضي كان سبباً أساسيّاً في إجهاض حركة النهضة العربية التي انطلقت في منتصف القرن التاسع عشر طامحة الى تحرير العرب من القيود والأفكار التي تعيقهم عن المشاركة الفعلية في حركة التقدم والرقي التي كانت قد بدأت تكتسح العالم منذ نهاية العصور الوسطى، أي منذ القرن السابع عشر. كما أن هذه الحركة عملت على مدّ الجسور بين العالم العربي واوروبا، والتي كانت مقطوعة منذ الحروب
الصليبيّة.
غير أن قوى الظلام والرجعيّة تصدّت بعنف وقسوة لهذه الحركة، وباسم تعاليم الاسلام «الحنيفة» حاكمت رموزها الكبيرة من امثال طه حسين، وعلي عبد الرازق في مصر، والطاهر الحداد والشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس. وعلينا أن نعترف بأن التعلق بالماضي هو الذي ولّد التطرف الأعمى الذي يبيح للحركات التي تزعم انه تمثل «نقاوة الاسلام» قتل الأبرياء، وارتكاب المجازر الفظيعة، وبثّ الفتن والشقاق بين المسلمين انفسهم. كما أنه - أي التعلق بالماضي - كان وراء انحراف انتفاضات «الربيع العربي». ففي البداية كانت الأجيال الشابّة التي فجّرت هذه الانتفاضات تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وانهاء الفساد والاستبداد غير أن قوى الظلام والرجعيّة سرعان ما انقضّت على هذه الانتفاضات لتستغلها لمصلحتها، موهمة الشعوب بأن مشاكل الحاضر والمستقبل لا يمكن أن تحل الا بالعودة الى ماضي «السلف الصالح»، واحياء «الخلافة»! وبسبب ذلك، خسرت المجتمعات العربيّة فرصة ذهبية أخرى كان بالإمكان أن تصالحها مع التاريخ، وتوفر لها القدرة على أن تكون فاعلة فيه بالمعنى الحقيقي والملموس للكلمة!
* كاتب تونسي