لطفي حجي *تبدو النخبة العربية في سوادها الأعظم تائهة بين دورها في قيادة الرأي العام من ناحية، والاستقالة من ناحية ثانية، وجاذبية السلطة من ناحية أخرى. حقيقة قديمة أكدتها الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها في المدة الأخيرة كل من المغرب والجزائر وتونس، للمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية، وتوفير الشغل للعاطلين عن العمل، الذين ازداد عددهم مع بروز ظاهرة بدأت تستفحل، تتمثل في بطالة أصحاب الشهادات العليا. واللافت للنظر في هذه التحركات، أنها انطلقت جميعها بطريقة عفوية تلقائية من جماهير غاضبة تكتوي بنار البطالة والفقر والاحتياج، بعيداً عن تأطير الأحزاب والجمعيات، وعن النخبة التي عادة ما تتزعم القول في الفكر والسياسة. وأبرزت تلك الأحداث، التي تمثل صرخة في وجه السياسات الليبرالية الجديدة، أن الأحزاب والنخب ما زالت بعيدة عن التحول إلى ظاهرة شعبية تقود الناس في اتجاه مطالبهم الحياتية الأساسية، بل بقيت في كثير من الأحيان تدور في دائرة أصبحت السياسة فيها غاية في ذاتها.
في الماضي القريب، كان عامة الناس ممن حرموا من التعليم ومن ضمان كرامتهم من شدة القمع، يعلّقون آمالاً واسعة على النخب المتعلمة التي درست في الجامعات الوطنية والأجنبية، وتولّت مناصب متقدّمة، سواء في السياسة أو في المعرفة، ورفعت شعارات أشبه بشعارات المبشرين، تعد بتحسين الأوضاع على المستوى السياسي عبر تحقيق الديموقراطية والحريات، وعلى المستوى الاجتماعي، عبر الوصول إلى العدالة الاجتماعية، والتشريعي عبر سن قوانين جديدة تقوم على المفاهيم الحديثة في المساواة والمواطنة.
وبقدر ما كان تبشير النخب الجديدة جذاباً، كانت آمال عامة الشعب واسعة، لأنهم كانوا مقتنعين بأنّ النخبة العالمة يمكن أن تكون المنقذ من الجهل والفاقة الاجتماعية.
غير أن ذلك لم يتحقّق، حيث عجزت مجتمعاتنا عن التوصل إلى حلقة الربط بين النخبة وعامة الشعب. والسبب الأصلي في ذلك أن جزءاً كبيراً من النخبة، بمجرّد أن يرتقي في درجات العلم وفي سلّم المسؤوليات الإدارية والسياسية، يتنكر للشعب ويصبح ينظر إليه من عل، ويصفه بنعوت أقلّها الجهل والتخلف، إن لم يتسلّح بمصطلحات تراثية لوصفه بالغوغاء والدهماء والرعاع، وذلك على الرغم من أن عناصر عديدة من تلك النخبة نهلت من تيارات إيديولوجية تعطي قيمة للشعب وتراه عماد الحركات التغييرية ومستقبلها.
لكن رغم ذلك، فإنّ تجارب سياسية عديدة في بلداننا بيّنت أنّ النخبة المتعلمة والمثقفة تتنكر لجميع القيم التي تعلّمتها بمجرد أن تتسلم مناصب سياسية... أي إنّ السلطة، أو الشغف بها، أقوى من القناعات والمبادئ المكتسبة. وهذا يطرح سؤالاً عن أسباب مكانة «السلطة» في بنياننا الاجتماعي.
ثمة ازدواجية عميقة بين الحديث عن فلسفة الأنوار وتجسيد أنوار الممارسة التي تخضع للعدل والقانون، والقيم التي تبقى على الدوام مطمح عامة الجماهير في أي مكان. لم تخلُ تنظيرات النخبة والأحزاب من حديث دائم عن التنوير والحداثة والقانون، غير أنها دائماً تتعامل معها بأسلوب منقوص، فتأخذ منها ما يخدم مصالحها للتغاضي عن الأهم فيها.
فمثلاً يمكنها أن تجعل من مصطلح الحداثة شعاراً تساير به موجة ما، من دون أن تلتزم بمكوّناته التي منها الديموقراطية، في حين أنها تعلم أنهما، أي الحداثة والديموقراطية، مساران متلازمان. فالحداثة تجسدت في الغرب من الشعار إلى الواقع بفضل ما توافر من حريات وديموقراطية أفسحتا المجال أمام حرية الإبداع وأمام رسم السياسات والمحاسبة على الأخطاء وتجسيد الوعود.
غير أنّ النخبة عندنا لا يهمّها إن استُعملت الحداثة من دون مضمون أو حُوّلت إلى سيف لمقاومة الخصوم وإلى حصن للتباهي وإبراز مظاهر عصرية مغشوشة، باعتبارها لا تقوم على قواعد ثابتة.
منذ قرن من الزمن أو يزيد، حاول العديد من الكتّاب الذين صُنّفوا بمفكري عصر النهضة، وتلاهم رواد آخرون، تحديد هذه العلاقة بين النخبة والأمة، بين العالِم والشعب، بين المفكر والسياسي، أي بين من يمثل سلطة المعرفة ومن يمثل سلطة الفعل. والمسألة في جوهرها أقدم من عصر النهضة بكثير، إذ تعود إلى تاريخ المحنة في تراثنا، محنة أحمد ابن حنبل وما سبقها وتلاها من محن، أبرزت الخلل القائم بين الفقيه، نخبة عصره، والسلطان، وبين الفقيه والأمة، التي انقسمت إلى ملل ونحل. وما زالت تلك الإشكالية مطروحة، لم تجد حلها بعد.
ثمة مبدآن أساسيان تنكرت لهما النخبة عندنا، ما أضعف دورها وغيّر النظرة إليها لدى عامة الناس، الذين أصبحوا ينظرون إليها باعتبارها رمز الانتهازية والوصولية، ما عدا الاستثناءات بطبيعة الحال:
ـــ المبدأ الأول هو المبدأ الأخلاقي. فالنخبة جرّدت المعرفة والسلطة من العديد من القيم الأخلاقية، وأصبحت تنظر إلى الأخلاق على أنها من باب الرجعية والعهود القديمة، ممّا جعل ممارستها منفلتة من أي محاسبة ذاتية أو رادع ضمير، فأسقطها في منطق تبريري قاد إلى الانفصام المعيش بين نخبة وجماهير.
ـــ أمّا المبدأ الثاني فهو غياب المحاسبة. فالنخبة التي برّرت بطريقة «علمية معرفية» كل فظاعات السلطة في دولنا، غير خاضعة للمحاسبة، باعتبارها أصبحت جزءاً من أنظمة لا تعترف بالمحاسبة وتمارس السياسة في اتجاه عمودي أحادي لا يخضع للقانون. كثيراً ما يتساءل الناس البسطاء: من يُعدّ ترسانة القوانين الزجرية في بلدانهم الاستبدادية؟ أليست هي النخبة التي درست في أرقى كليات القانون في العالم لتضع خبرتها ومعرفتها في خدمة تحطيم القانون والحطّ من الكرامة الإنسانية في أبسط مظاهرها؟ وهي أسئلة مشروعة تبرز التناقض يبن المعرفة وتوظيفها السليم على أرض الواقع واحترام أدنى قواعدها الأخلاقية.
لا يمكن أن ننكر أن هناك إبداعاً لدى النخبة العربية في الاطلاع على المدارس الحديثة في العلوم الإنسانية، من الفلسفة إلى علم الاجتماع وعلم النفس. كما لا يمكن أن ننكر أيضاً أن العديد منها وظّف تلك العلوم جيّداً، باعتبارها أدوات تحليلية في تشريح تراثنا ومجتمعاتنا. لكن أغلبهم حوّلوا العلم إلى رياضة ذهنية لا علاقة لها بالواقع، فتحوّلوا إلى كتبيّين جيّدين يسبحون في عالم الأوراق ويتغاضون عن كل الانتهاكات، بما في ذلك التي تمسهم في كرامتهم الذاتية. وبممارستهم تلك، يتناقضون مع من يستلهمون منهم العلوم في الغرب، لأنّ العديد منهم كانوا فاعلين اجتماعيين، وحتى من لم يدخل منهم في الفعل الاجتماعي السياسي المباشر، كان يكتب في أفق التغيير، بما يعني رفض جميع أشكال الهيمنة، من الكنيسة إلى الأنظمة السياسية. فالكتابة عندهم هي رغبة في التغيير المستمر وليست ترفاً فكرياً، يستعمل عادة بتعمّد اختيار أصعب مصطلحات التعبير ومفاهيمه، للتعالي عن العامة.
بين شعب ينتفض ونخبة صامتة ومستقيلة في غالبيتها، وأحزاب أنهكها القمع والتناحر الداخلي فأقعدها عن التحول إلى قوة اجتماعية ذات شأن، بين كل تلك الدروب المتشعبة، تمرّدت الجماهير على نخبها وسلطاتها، وبدأت تشق طريقها بمفردها، في انتظار إكمال الحلقة المفقودة في الربط بين العالِم وعامة شعبه، وبانتظار فك ارتباط العالِم بالسلطة التي يكتفي بتبرير أفعالها.
* صحافي وكاتب تونسي