ناهض حتر *لم يتوانَ الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية (الجبهة الشعبية في الأردن)، سعيد ذياب، عن المشاركة في الحملة ضدّ المعارضة الوطنية الأردنية. وكانت هذه الأخيرة قد حقّقت في الآونة الأخيرة نجاحات في بلورة وعي مضاد للخصخصة واقتصاد السوق المعولَم، والتحشيد في مواجهة الخطة الأميركية ـ الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن.
وليس ذياب، في الحقيقة، متمرداً على خط الجبهة الشعبية في ما يتصل بالأردن. فهي رأت دائماً، من وجهة نظر قوموية، أنّ هذا البلد «كيان مصطنع». ومن الناحية الاجتماعية، فإنّ ذياب، مثله مثل المئات من أعضاء النخبة الفلسطينية في الأردن، ينأى بنفسه عن مجريات الصراع المحتدم في البلد بين نهج القطاع العام ونهج الاقتصاد المعولم. بل دعنا نقول إنّ النهج الثاني يحظى بالتأييد العلني أو الضمني من جانب تلك النخبة، على اختلاف اتجاهاتها الأيديولوجية، بالنظر إلى أن تفكيك الدولة الأردنية وتغيير هوية البلد الاجتماعية والثقافية، سوف يتيح تحسين شروط المشاركة السياسية للبورجوازية الفلسطينية التي ترى أن حقوقها «منقوصة» في الأردن. وهو موقف يجد له صدى لدى قسم من الفعاليات الفلسطينية ـ الأردنية.
للأسف، فإن اشتداد الصراع الاجتماعي ـ الوطني في الأردن يرتبط بالمزيد من الانقسام بين أردنيّين يتجهون يساراً وبين فلسطينيين يتجهون يميناً، بحيث نخشى أن ذلك الصراع قد يأخذ لاحقاً، طابع الانشقاق الطولي.
وعلى هذه الخلفية، كنت أحد المبادرين، أواخر العام الماضي، إلى تأسيس «حركة اليسار الاجتماعي» بهدف توحيد صفوف المناضلين الأردنيين والفلسطينيين على قاعدة التضامن الطبقي ضد الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، وهي نفسها الأداة المحلية لمشروع الوطن البديل.
تضمّن الخط العام لبرنامج الحركة، النضال من أجل الحفاظ على استقلال الدولة الأردنية، واستعادة وتطوير السياسات الاجتماعية فيها، وتنظيم الاحتجاجات المطلبية المشتركة، واعتبار حقّ العودة إلى فلسطين موحدة ديموقراطية هو، وليس تأييد «السلطة» أو «حماس»، المرجعية للنضال الأردني ـ الفلسطيني المشترك.
ولقد نجح هذا الخط فوراً في اجتذاب مجاميع عديدة من أصول وعقائد مختلفة، ما أعطى الحركة حضوراً نوعياً في الصراع الاجتماعي ـ الوطني الذي تصاعد في البلد بشدّة منذ مطلع العام الحالي. أعلنت حركة اليسار الاجتماعي، حدود المواجهة، ليس فقط «تضامنها» مع المقاومات العراقية والفلسطينية واللبنانية، وإنما تحالفها الصريح مع خط المقاومة، واعتباره الخط الذي يعبر عن مصالح الأردن العليا، ويحافظ هو، لا الجهود الدبلوماسية و»الصداقة» مع الولايات المتحدة، على الكيان الوطني الأردني المهدّد وجودياً من إسرائيل. فالأخيرة قد تصل، مثلما حدث مع مصر، إلى تسوية ما مع لبنان وسوريا، لكنها ستظلّ تنظر للأردن بوصفه الإمكان الوحيد الذي يتيح لها هضم معظم الضفة الغربية والتخلص من سكانها ومن مشكلة اللاجئين. ولذلك، فإنّ معاهدة وادي عربة (1994) ظلت بالنسبة إلى الإسرائيليين، حبراً على ورق.
هذه هي الملامح الرئيسية لنهج «حركة اليسار الاجتماعي الأردني» التي هاجمها السيد هشام البستاني في مقال تحت عنوان «الأوهام القطرية لليسار الاجتماعي الأردني» (الأخبار، 30 حزيران 2008). وبغض النظر عن تلك التسمية البعثية للوطنية بوصفها «قُطرية»، فإن المرء ليتساءل لماذا الهجوم على القُطرية الأردنية لا القُطرية القطَرية مثلاً، أو اللبنانية أو السورية...؟
هذا الاستهداف المخصَّص للأردن في وقت لا يعيق فيه الأردن ولا حركة اليسار الاجتماعي الأردني إقامة الدولة المركزية العربية، يعني شيئاً واحداً: أن السيد بستاني يخضع لأيديولوجية الوطن البديل. إنّ كل مساس بأصالة أو شرعية الدولة الوطنية الأردنية، في هذا الظرف المحدَّد من الصراع الدائر في المنطقة لتغيير خريطتها السياسية لمصلحة واشنطن وتل أبيب، لا يمكن اعتباره نوعاً من السجال الفكري البريء، بل مساهمة، بلغة قوموية، في تهيئة المناخ للوطن البديل.
الادعاء الصهيوني الاستعماري الاستيطاني حول فلسطين باعتبارها «أرضاً بلا شعب» لم يكن يعني أنه لا يوجد سكان في فلسطين، ولكنه يعني التشكيك في أصالة وشرعية الكيان الفلسطيني، ونفي حقيقة أن أولئك السكان يكوّنون شعباً له هوية وطنية. والسيد بستاني يتبنى النظرية نفسها إزاء الأردن. ولا أقول إنّه يضع نفسه في خدمة الصهيونية، بل أستطيع التأكيد على أنه يتخندق في الصراع الدائر الآن في الأردن في صف النخبة الفلسطينية الطامحة لحكم البلد.
ترفض حركة اليسار الاجتماعي الأردني النظريات القومية العربية. وهي ترى أنها منحولة عن الأيديولوجيات الرأسمالية الغربية القائمة على الشعب العضوي والنزعة الإثنية العنصرية. وبالمقابل، تتبنى الحركة مفهوم العروبة بوصفه رابطة حضارية وثقافية وشعورية ونضالية بين شعوب العالم العربي، التي لكل منها خصائصه الوطنية المحلية.
والاعتراف الصريح بهذه الخصائص، كما الاعتراف بالمكونات الدينية بلا تمييز، والطائفية والمذهبية والإثنية، للعروبة، هو وحده، أي ذلك الاعتراف، الذي يمكنه أن يجعل العروبة أكثر ديموقراطيّة، ويحافظ على وحدتها، ويمنع الانشقاقات على المستوى العربي كما على المستوى المحلي، ويفتح الباب أمام تطور كتلة عربية موحدة على المستويين الاقتصادي والسياسي.
ويخصّص السيد بستاني قسماً كبيراً من نقده للهجوم على طروحات كاتب هذه السطور بصدد التكوين الاجتماعي التاريخي للأردن الحديث. وهو يرى أن رفضي الخضوع للنظريات الاستشراقية التوراتية في هذا المجال، جريمة لا تغتفَر.
منذ مطلع الثمانينات، عملت من دون كلل على دراسة وفحص آلاف النصوص والوثائق والمواد الأدبية والمقابلات والملاحظات عن البنية الاجتماعية الأردنية، تاريخها وتركيبها الداخلي وعلاقاتها بالجوار ودورها المحلي والإقليمي... في مسعى لبناء نظرية عامة عن التكوين الاجتماعي الأردني. ولم يتح لي بعد التفرغ لإنجاز مشروع حياتي ذاك في مؤلّف أساسي، لكنني أنجزت في الطريق مئات النصوص الفرعية التي سجلت فيها حفرياتي التاريخية.
لا أدعي بالطبع أن نظريتي عن التكوين الاجتماعي التاريخي الأردني القائمة على أصالة وضرورة الدولة الوطنية الأردنية، صحيحة تماماً. فمن شروط النظرية العلمية أن تكون قابلة للنقض، لا فقط للنقد. ولكنني ألحّ على أنّ تأسيس هذا المجال النظري يمثّل ضرورة تاريخية ليس فقط لتأصيل الفكر السياسي في البلاد وبناء الدولة الأردنية وازدهارها ووحدتها، بل أيضاً للقيام بمساهمة أردنية جدية في حركة التحرر العربية. مسعاي لتنظير البنية الأردنية ليس بدعة، وإنما محاولة متواضعة حفّزتها تجارب عربية كبيرة، مثل تجربة جمال حمدان، صاحب موسوعة «مصر، دراسة في عبقرية المكان»، وتجربة اليسار اللبناني في قراءة البنية الاجتماعية اللبنانية، والجهود المثابرة في تأريخ وفهم المجتمعين العراقي والمغربي. ولن أضع هنا ببليوغرافيا بتلك التجارب، ولكنني أشير إلى أنها حظيت بالتقدير والاعتراف. ولعلّه من حقي أن أتساءل لماذا تنال الجهود الأردنية المماثلة كل هذا العداء؟
إنّ قسماً كبيراً من النخبة العربية ــ والفلسطينية خصوصاً، واقع في شباك الأيديولوجية التوراتية المضادة للأردن. وللمفارقة، فإنّ العديد من المثقفين العرب الذين يقبلون بلا عناء، أصالة تكوينات عربية أقلّ شأناً من التكوين الأردني، يشهرون أسلحتهم فقط عندما يتعلق الأمر بالأردن.
ولعلّه ضرب من التواطؤ مع الصهيونية للخلاص من عبء القضية الفلسطينية. وقد مثّل ذلك نوعاً من الرهاب بالنسبة إلى المثقفين الأردنيين الذين ترسخت لدى بعضهم عادة التبرّؤ من الوطنية الأردنية لنيل الاعتراف بهم كمثقفين. وقد أصبح الخضوع لذلك الرهاب خطراً للغاية، فالأردن يحتاج اليوم إلى جهود كلّ مثقفيه ومناضليه من أجل الاتحاد في مواجهة خطر محدق، وهذا في الوقت نفسه أفضل دفاع عن فلسطين، وعن الحق بها، بإمكان الأردن والأردنيين أن يقدّموه. أستأذنكم إذاً الدفاع عن بلدي!

*كاتب أردني