سعد الله مزرعاني *تقدّم التطورات المتلاحقة المتصلة بتعثّر تأليف الحكومة (رغم «اتفاق الدوحة» الذي قضى بتقاسم ثلاثي لوزرائها الثلاثين)، مثلاً جديداً على عمق الأزمة اللبنانية. هذا ما درجنا على قوله، بشكل بديهي، إزاء المسلسل المتواصل من التوترات السياسية التي استمر لبنان ساحة، بل وضحية لها، وخصوصاً منذ أواسط عام 2004، حتى هذه الأيام. يحصل ذلك رغم اتفاق الدوحة. ويحصل ذلك، رغم أن هذا الاتفاق قد أقرّ المسائل الأساسية الصعبة موضوع الخلاف، حتى انعقاده، بين الأطراف اللبنانية. وكذلك فإن التعثّر يستمرّ رغم تنفيذ أحد بنود ذلك الاتفاق، والأول بينها، عنينا انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية اللبنانية.
لقد جرى تصوير هذا الانتخاب حين كان مؤجَّلاً وموضع خلاف في موقعه من «سلّة» التفاهمات المطلوبة (وهي العناوين التي تناولتها على اضطراب وصراع «المبادرة العربية»)، على أنه الحل السحري لكل أزمات لبنان. لم يبقَ مرجع سياسي أو مرجعية دينية (وما بينهما)، وفي نطاق حملات إعلامية واثقة وجازمة ومحرّضة ومندّدة، إلاّ وكرّر مقولة إن الحل إنما يكمن في انتخاب رئيس للجمهورية...
لن نكرّر هنا الأمور التي ما زالت طرية في الأذهان، لجهة أن هذا المنطق كان جزءاً من صراع ينظر إلى موقع الرئاسة من زاوية تحقيق انتصار أول، يجري الاستناد إليه، لتحقيق انتصارات أخرى في الصراع الداخلي اللبناني.
لن نكرّر أيضاً، في المقابل، التأكيد على التكلفة العالية التي نجمت عن العملية العسكرية «الموضعية»، إثر قراري الحكومة الاستفزازيين بشأن شبكة الاتصالات وأمن المطار...
نريد فقط لفت نظر الكثر من المتوهّمين والمتفائلين والغافلين، إلى أن تحجيم، بل وتعثّر (بل وربما تعذّر) تطبيق اتفاق الدوحة، قد جاء من داخل الأزمة اللبنانية نفسها، أي من داخل «منطقها»، ومن تشابك هذه الأزمة مع أزمات أخرى أكبر وأعمق وأهم، على المستوى الإقليمي بشكل خاص، وعلى المستوى الدولي بشكل عام.
لقد درجنا على القول إنّ اتفاق الدوحة ليس حلاً، بل هو مجرد تسوية، أو محطّة في صراع مفتوح ومتشابك، في مدَيَيْه المحلي والإقليمي (والدولي). لكن ذلك لم يعد يكفي لتفسير ما يحصل من تدهور، لم تعد قوى الصراع تسيطر عليه، أو «تغطيه»، كي يستمر، أو تمون على بعض أطرافه كي يتوقف!
إنّ ذلك يشبه أن تتعطّل قطعة في أحد المحركات، فلا يجري إصلاحها أو استبدالها، فتؤدّي إلى تعطيل قطع أخرى غيرها، وتكبر المشكلة. أو قد يشبه ذلك تناسل أزمات جديدة عن أزمات سابقة، تقادمت واستعصت و«كربجت»، فباتت قادرة على توليد أزمات إضافية من وجهة نظر بعض تناقضاتها نفسها.
وفي ضوء ذلك، يجب على الجميع إعادة التفكير في مشكلة النشوء والتفاقم السريع لظاهرة حركة «فتح الإسلام». إنّ تبادل الاتهامات بشأن المسؤولية عن نشوء أو تشجيع أو توظيف هذه الحركة، لم يكن يغطي إلا جانباً من الحقيقة (والمسؤولية ليست محصورة على كل حال في جهة واحدة). أما الجانب الأخطر، فإن هذه الحركة لم تأت من فراغ، وهي مستمرة، رغم ما أصابها من هزيمة في معركتها مع الجيش اللبناني في الصيف الماضي. والواضح والخطير أيضاً، أن «فتح الإسلام» ليست إلا نموذجاً لتطور ليس محصوراً في لبنان، وإن كان لبنان «ساحة فراغ» (في صراعاته وفي مخيماته خصوصاً) يمكن النفاذ إليها والعمل فيها والنمو والتطور من خلال تفاقم أزماتها، على النحو الذي شهدناه في الصيف الماضي في مخيم «البارد» والذي نشهد بعض أشكاله في مدينة طرابلس نفسها.
هذا دون أن نهمل خطورة وضع المخيمات الفلسطينية (وخصوصاً أكبرها عين الحلوة) التي ستمثّل التربة الأكثر استجابة للأفكار والنشاطات المتطرفة والحانقة والغاضبة... والمتعاظمة في مناخات اليأس والحرمان والفقر والذل والآفاق المسدودة والعجز والانقسام والتشرذم والتخلي...
ليس ما يجري من اشتباكات في طرابلس مجرد ضغوط، أياً كان مصدرها، من أجل تحسين شروط طرفي الصراع الأساسيين في عملية تأليف الحكومة، أو من أجل جعل تأليفها، أو منع تأليفها، في خدمة هذا الفريق الخارجي أو ذاك. وليس ما يجري هو أساساً من فعل عناصر تتوسل، محلياً، التصعيد من أجل الارتزاق و«رفع الموازنة» المقررة... إننا نرى في هذا التصعيد، كما ذكرنا، ما هو أخطر بكثير، حين يتداعى بعض الحالة المذهبية الواسعة والمتصاعدة والمنفلتة، إلى منتهاه «الطبيعي»: التطرف والتشدد والإفراط في الانغلاق على الذات وممارسة الرفض والعنف والتكفير...
لا تجري هذه الأمور أيضاً من دون «رعاية» من بعض الجهات العربية والخارجية التي تستسهل اللعب بهذا النوع من النيران. هذا صحيح. وهذا يضفي المزيد من الخطورة على نشوء وعلى تزايد دور ونشاط هذه المجموعات التي لا تملك إلا توسّل العنف العقائدي والسياسي والأمني. وفي مناخ استخدام الانقسام المذهبي وبناء العناصر الأساسية للصراع في المنطقة وفق هذا الانقسام، ندرك أي خطورة ستترتب على هذا الاستبدال، وندرك في المقابل، الجوّ المؤاتي الذي ينتظر التداعيات المتطرفة للنشوء والنمو والنشاط والانتشار. ومرة أخرى، من البديهي أن هذه المخاطر لا تعالج بالتسويات الترقيعية، فضلاً عن التجاهل، أي الإمعان في اعتماد السياسات نفسها التي أدت إلى المشكلة.
ويطرح ذلك عنوانين كبيرين، الأول على المستوى المحلي، حيث تفيد التطورات المتلاحقة أن إنجازات المقاومة والتحرير خصوصاً، معرّضة للضياع، وحيث هدف مقاومة المشروع الأميركي والعدوان الصهيوني يصبح شأناً مذهبياً خاصاً في أحسن الأحوال، وعنصر تهديد للوحدة الوطنية في الأسوأ منها!
لقد درجنا على القول إنّ التعبئة الطائفية والمذهبية قد تكون في أفضل وظائفها المؤقتة، سلاحاً ذا حدين. وقد آن الأوان لكي يندرج فعل المقاومة في صيغته وقواه الراهنة (في لبنان) خصوصاً، في نطاق مشروع نطاق يستجيب للمهمة التاريخية في إخراج لبنان من أزمته التي تكاد تطيح مقوماته الأساسية كبلد، وليس فقط توازناته ووحدته في الصيغة التقليدية التي استقرّ عليها. إن لذلك وظيفة لا جدال فيها في توفير عناصر النمو والصمود لمشروع المقاومة نفسه، بوصفه مشروعاً يتخطى، بالضرورة، الطابع المحلي، القطري، إلى المدى القومي الواسع.
وإذا كان المشروع الوطني اللبناني يتطلب بالضرورة حواراً على المستوى اللبناني من أجل بلورة صيغته وبرنامجه وأولوياته ووسائله وأدواته وقواه... فإن حواراً آخر، وبالإلحاحية والأهمية نفسيهما، (إن لم يكن أكثر)، يجب أن يبدأ على المستوى العربي في سبيل بناء مشروع المواجهة العربية.
لا شكّ أنّ ثمة فراغاً كبيراً الآن في هذا المجال. فبعض صيغ ما يسمّى «الممانعة»، هي صيغ اعتراضية لا تملك البديل الشامل والمقنع والموحِّد في عملية الجمع التي ينبغي أن توحّد العناوين الثلاثة الكبرى: التحرير، والديموقراطية، والتقدم الاجتماعي (الذي يلحّ عليه الدكتور سمير أمين في إبرازه للدور الحاسم لهذا العنوان في الطور الراهن من محاولة بلورة مشاريع تحررية عديدة لمواجهة الصيغ المتوحّشة من العولمة الأميركية) التي يمثّل «الشرق الأوسط الكبير» حقل اختبارها الرئيسي.
ليس هذا الكلام موجّهاً إلى «الآخرين» فقط! إنه موجّه بالدرجة الأولى إلى القوى العربية التي انتمت ولا تزال، ولو بغير مشروع متبلور، إلى قوى وفكر و«عقائد» التغيير والثورة واليسار والديموقراطية...
لعلّ هنا تكمن الحلقة الأساسية في حوار يجب أن يبدأ من أجل بناء خيار جديد، قد يصبح ذا صفة تاريخية إذا ما بلور بعض المفاهيم والصيغ والأولويات المناسبة: «من هنا نبدأ»، كما عنون يوماً المفكّر الراحل خالد محمد خالد.
* كاتب وسياسي لبناني